صالح ملص | حسام المحمود | أمل رنتيسي
منذ أكثر من 20 عامًا، يجهز المشاهد السوري نفسه لمتابعة المسلسلات التي تطل عبر الشاشات خلال موسمها الرمضاني، لتكون الدراما التلفزيونية على امتداد تلك السنوات منتجًا ثقافيًا يحظى بشعبية كبيرة في المجتمع السوري، لوصول التلفزيون إلى كل بيت بسهولة مقارنة بتعزيز الثقافة لدى الأفراد عبر مصادر فنية أخرى مثل المسرح والسينما.
يترك هذا المنتج في نفس الجمهور أثرًا عاطفيًا وفكريًا، فترصد الدراما التلفزيونية التفاعل الاجتماعي اليومي مع شؤون الحياة بكل أنواع العلاقات الإنسانية وتنافس المصالح والأفكار.
حظيت الدراما التلفزيونية في سوريا بصعود الإنتاج ضمن سوق القنوات العربية عمومًا والخليجية خصوصًا، وذلك خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، إذ حملت هذه الفترة متغيرات سياسية واقتصادية حققت للدراما ازدياد كمّ الإنتاج الذي كان له انتشار محلي وعربي، لتصبح صناعة لها دورتها الاقتصادية، مع وجود أزمات تغلبت على بعضها بينما لم تستطع تجاوز تحديات أخرى حتى الآن.
في العقد الأخير من عمرها، أثبتت الدراما تراجعًا في كمية الإنتاج والقيمة الفنية لمضمون المنتج الدرامي السوري، بزيادة التحديات التي تواجهها هذه الصناعة في دولة أغلب قطاعاتها الصناعية تعاني من مشكلات نتيجة التغيرات التي حصلت بعد عام 2011.
وخلال العرض التسويقي للموسم الحالي، عوّلت شريحة واسعة من الجمهور السوري عبر مواقع التواصل الاجتماعي على قدرة الدراما على العودة إلى قيمتها الفنية السابقة مجددًا، من خلال العروض التسويقية في العام الحالي التي لوّحت بإنتاج مختلف، ولكن هذا التعويل لم يتجاوز الأمنيات في ظل وجود خلل لم يُعالَج بعد.
بداية القرن
دراما غزيرة الإنتاج جذبت الشاشات
يعتبر تطور أي مجال فني أو ظهور مبدعين في مجال فني ما مرتبطًا بظروف مجتمعية وسياسية واقتصادية محددة، مشروطة بحالة من التنمية أو تغيرات كبرى تفرز معها كوادر مبدعة.
في عام 1976، أُسّست مؤسسة “عرب- سات” من قبل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، لتكون الشركة العربية الأولى من نوعها حينها للبث عبر الأقمار الصناعية، وبدأت القناة الفضائية السورية إرسالها التجريبي عام 1995، لتتعاقد وتستأجر قناة فضائية من مؤسسة “عرب- سات”، تلك الفترة عززت دور التلفزيون كوسيط إعلامي يتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة، بعد أن كان الإنتاج الدرامي التلفزيوني في ستينيات القرن الماضي مقتصرًا على بث قصير ومحدود التغطية.
كما أن هذه الفترة جاءت بالعديد من الخبرات الجديدة إلى الوسط الثقافي- الفني في سوريا، من خلال الأشخاص الذين سافروا للدراسة في الخارج وعادوا لاستثمارها بإنتاج أعمال درامية تملأ ساعات البث الجديدة عبر الفضائيات التي انتشرت على مستوى العالم العربي.
وبحسب ورقة بحثية أعدها وائل سالم بعنوان “تطور آليات إنتاج الدراما التلفزيونية السورية” نُشرت عام 2018، فإن الحدث المهم الذي أسهم في ضخ المزيد من الدماء الجديدة في سوق الدراما السورية هو “تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1977″، الذي بدأ بقسم وحيد هو قسم التمثيل، درس فيه عدد من الفنانين، “وفي عام 1984 افتتح قسم النقد والأدب المسرحي، الذي تحول اسمه في منتصف التسعينيات إلى قسم الدراسات المسرحية”.
وأسهم المعهد في تهيئة كوادر العاملين في المسرح أكاديميًا من ممثلين وكتّاب وباحثين، سيكون لبعض منهم دور أساسي في الدراما التلفزيونية.
وفي نهاية السبعينيات، انخفض الإنتاج السينمائي السوري ليصبح مع نهاية الثمانينيات متوسط عدد الأعمال المنتَجة في العام فيلمين، بحسب الورقة البحثية، الأمر الذي سيترك الكثير من الفنيين في مختلف المجالات التقنية والكتّاب والمخرجين والممثلين يبحثون عن فرص العمل في مجالات أخرى، والملجأ الأول هو المسلسلات التلفزيونية السورية.
وفي تلك الفترة، “كان القطاع الحكومي المتمثل بالتلفزيون السوري هو المنتج المحلي الوحيد تقريبًا للدراما التلفزيونية السورية، وعلى الرغم من أن جزءًا من الأعمال كان يتم إنتاجه عبر شراكات مع جهات عربية، أو عرضه على قنوات عربية مختلفة، فإن ذلك لم يكن يمنع التلفزيون الحكومي السوري من أن يكون المتحكم الأساسي بماهية تلك الأعمال ونصها وتقنياتها”، بحسب ما أوردته الورقة البحثية.
في عام 1991، سمح قانون الاستثمار رقم “10” للشركات الخاصة بالظهور بشكل أكبر، وقلّل الشروط والصعوبات أمام إنشائها، ولذلك كانت فترة التسعينيات شاهدة على نقلة نوعية في كم الإنتاج. هذه الزيادة كانت نتيجة مباشرة لدخول عدد من شركات الإنتاج الخاصة التي أنتجت عددًا كبيرًا من الأعمال الدرامية.
التغيرات التي ساعدت على تطور الدراما السورية في فترة التسعينيات أسهمت بوضع أساسات هذا المجال، لأن تلك الفترة كان “لديها الجاهزية على المستوى الفني والخبرات وإمكانيات الكوادر”، وفق ما قاله السيناريست السوري رافي وهبي في حديث إلى عنب بلدي، هذه الخبرات أسست نمطًا خاصًا للدراما السورية، وهو “واقعيتها الاجتماعية التي جذبت الجمهور بمحاولة منها للدخول إلى الهموم المجتمعية ومعالجتها بقالب درامي معمق”.
والزيادة في الإنتاج التي برزت في بداية الألفية الثالثة كانت نتيجة لفتح الباب أمام رجال الأعمال لدعم المنتج الدرامي، وفق وهبي.
يؤكد المخرج والممثل السوري بسام قطيفان هذه العوامل نفسها، التي ساعدت الدراما السورية في بداياتها على “التميز”، خلال حديث إلى عنب بلدي، فالموضوعات التي تناولتها الدراما كانت “قريبة من اهتمامات الناس، وتلامس قضاياهم اليومية نسبيًا، سواء كان المشاهد داخل سوريا أو خارجها في منطقة الشرق الأوسط”.
شكّلت هذه العوامل فرصة للمخزون الثقافي الفني السوري أن يظهر بشكل لائق ومختلف عن السائد ومنافس له، وتزامن هذا بوجود تطور تقني متسارع على صعيد التقنيات السينمائية.
في عام 2005، أسهم التطور بالإنتاج الدرامي في ازدياد المنافسة من خلال تأسيس جائزة خاصة للدراما السورية باسم “أدونيا“، من قبل شركة تجارية سورية هي “المجموعة المتحدة للنشر والإعلان”، وهي متخصصة بالدراما السورية على وجه التحديد.
أنتجت شركات الإنتاج الفني في سوريا خلال 2006 أكبر نسبة إنتاج للدراما التلفزيونية السورية حتى الآن، بما يقارب الـ50 مسلسلًا، وشهد عام 2007 إنتاج 37 مسلسلًا، وفي عام 2009 عُرض 30 عملًا دراميًا.
كما ازداد في هذه الفترة إنتاج المسلسلات التاريخية التي تميزت الدراما السورية بها، بحسب رافي وهبي، وكان لها الحظ الأكبر بالنجاح والانتشار عربيًا، كونها تتوجه بقيمة فكرية عالية إلى قاعدة واسعة من الجمهور على اختلاف مستوياتهم الثقافية.
عثرات الدراما قبل 2011
مرت الدراما السورية بعدة أزمات في العشر سنوات الأولى من القرن الـ21، أدت إلى ازدياد صعوبة تسويق وبيع الإنتاج السوري، أبرزها كان بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، حينها كثرت الاتهامات للنظام السوري بضلوعه في القضية، وخضعت المسلسلات السورية لمقاطعة عربية رغبة من بعض الدول بمعاقبة النظام، إذ أضرت تلك المقاطعة بتسويق المسلسلات، ما دفع السلطة إلى إصدار قرار بشراء كل المسلسلات السورية المنتَجة “كموقف سياسي في وجه المقاطعة السياسية”، وفق ما ذكرته الورقة البحثية للباحث السوري وائل سالم.
وفي نفس العام، استحوذت السلطة على شركة “شام الدولية للإنتاج السينمائي والتلفزيوني” بعد انشقاق نائب الرئيس السوري السابق، عبد الحليم خدام، إذ كان يملكها ابنه، فقام حينها مجلس الشعب بالحجز عليها وعلى مدينة تصوير كبيرة تابعة لها، كانت الأكبر في سوريا تقع في ريف دمشق، وفق الورقة البحثية، وتوقفت عدة أعمال كان يتم تصويرها هناك، “لم يتم إعادة فتح هذه الشركة إلا بعد عدة سنوات تحت إشراف حكومي مباشر”.
كان للدراما السورية نصيب من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، فبعد الكثير من العمل على كسر المقاطعة التي حصلت في 2005، حدثت أزمة مالية في الدول الخليجية نتيجة أزمة قروض العقارات في أمريكا، ما دفع السوق الخليجية إلى “البحث عن بديل أرخص من المسلسلات السورية أو العربية لملء ساعات البث”، وفق الورقة البحثية، وهذا ما جذبها إلى المسلسلات التركية التي كانت تحقق إقبالًا جماهيريًا مع نهاية عام 2007.
أزمات نقلت الدراما إلى تحديات أكبر
تعقّدت مشكلات التسويق للإنتاج السوري بشكل أكبر بعد 2011، حين اتخذت الحكومات العربية عدة سياسات لمعاقبة النظام السوري، من ضمنها مقاطعة المسلسلات السورية المنتَجة من قبل بعض الشركات.
كما أن شركات الإنتاج العربية لا ترغب بتمويل عمل يتطرق إلى الوضع السوري بشكل حقيقي وعميق، وفق ما قالته الممثلة السورية ناندا محمد في حديث إلى عنب بلدي، وأي عمل درامي حاليًا لا يمكنه أن يتغافل عن الوضع بعد عام 2011، وبالتالي “هناك رفض لتمويل أو تسويق أي عمل لا يتماشى مع أجندة معيّنة تتناسب مع مصالح قناة معيّنة”.
وتعتقد ناندا محمد أن هذا هو السبب الرئيس لما وصفته بـ”الانحدار العام الذي أصاب المسلسلات (السورية) بعد 2011”.
ومعظم القنوات المنتجة أصبحت تفضّل المسلسلات المشتركة (بان- عربي) وهي مسلسلات عربية من إنتاج مشترك بين عدة جهات غالبًا، الممثلون فيها من عدة جنسيات والأحداث تجري بين عدة مدن عربية.
وهذه الظاهرة من الأعمال تتنافى مع الواقعية التي تميزت بها الدراما السورية، فهي “غير مناسبة لأن تكون مرتبطة بالواقع”، وفق ما قاله السيناريست رافي وهبي، لأنها تُفرغ الإنتاج السوري من قضاياه.
وبالمقابل، “لم نعد قادرين على أن نقول إن هناك مشاهدًا عربيًا بالمعنى العام للكلمة، بسبب وجود خصوصية من ناحية الأزمات التي تعيشها كل دولة من دول العالم العربي، ولذلك فلكل مشاهد مزاجه الخاص وسط هذه الانقسامات”، وفق ما يراه رافي وهبي.
والأفكار الجديرة بالطرح هي أفكار ممنوعة من العرض وفق وهبي، وإذا قرر أحدهم العمل على تلك الأفكار، فليس من السهل أن تلقى طريقها إلى سوق الإنتاج.
ويرى المخرج السوري بسام قطيفان أن العناصر التي تقف عليها صناعة الدراما الجيدة هي توفير تمويل محايد نسبيًا، لضمان انفتاح الأفكار والنصوص الدرامية على الواقع أكثر، هذه الشروط الإنسانية لازمة لكل مادة درامية، وهو ما لم يتوفر في الحالة السورية خلال الفترة الأخيرة.
“عناصر صناعة الدراما لم تحافظ على جودتها وسويتها العالية، لأن النصوص العالية المستوى صارت شرطًا أساسيًا عند البدء بأي عمل درامي، ومعظم ما يُنتج الآن هو نزول عند رغبة الممول الأساسي الذي كان في أكثر الأوقات أجنبيًا، فصارت شروط الخارج هي المطلوبة، وهذا ما أفقدنا خصوصية التميز”، وفق ما قاله قطيفان.
والأزمة التي تعاني منها الدراما السورية حاليًا هي الأزمة التي تمر بها سوريا عمومًا، وفعليًا لن تستطيع الدراما النجاة كسلعة من هذه الأزمة، وفق ما يراه وهبي، أما كصنّاع الدراما فتسرّب العديد منهم إلى الأسواق العربية الأخرى، بالإضافة إلى أن حالة التشتت التي يعيشها صنّاع الدراما من الكتّاب والممثلين والمخرجين والمنتجين تؤثر على جودة العمل بغياب بوصلة محلية واحدة تجمع الكل.
ويشكّل النص الدرامي في أغلب الأوقات قراءة موسعة وسردًا بصريًا طويلًا للفكرة التي يتبناها، لكن هذا النص تراجع وخلق تراجعه أزمة شك أمام جدوى ما يشاهده الجمهور السوري ضمن الإنتاج الدرامي.
واصطدم النص وكاتبه من قبله خلال السنوات العشر الأخيرة بتحدٍّ فكري عند محاولة كتابة سيناريو يعكس ما يجري على الأرض دون الاحتكاك برفض الرقابة أو منع العرض، أو أن يلقى الكاتب مضايقات أمنية في حال قدم رواية لا تخدم السلطة أو لا تلمع صورتها أمام المشاهد.
وفي الوقت الذي اختار فيه بعض الكتّاب التحول إلى “كتّاب بلاط القصر” من خلال تسخير أقلامهم لخدمة رواية السلطة فيما يجري على الواقع، ولو كان ذلك على صورة رسائل مبطّنة ضمن أعمالهم، اختار كتّاب آخرون الانسحاب من المشهد، ما أسهم في خلق فراغ اتجهت شركات الإنتاج الفنية لسده عبر تبني نصوص مكتوبة بالشراكة بين كاتبين أو على يد ورشة كتابة، من عدة أشخاص يتشاركون بتأليف المسلسل.
ويرى المخرج بسام قطيفان أن الدراما السورية لن تكون قادرة على تدارك “الخلل الحاصل”، عبر ترقيع الأماكن الشاغرة لأصحاب المشاريع الفنية الحقيقية ببدائل تفتقر للموهبة التي تناسب هذه الصناعة.
النتائج دون التوقعات
الدراما تستعين بأساليب جديدة للترويج
شهدت الدراما السورية تطورًا في أساليب التسويق والترويج للمنتج الدرامي، وبدا تطور تسويق الدراما بوضوح لاعتمادها على ما تعتمد عليه الصناعات الأخرى لترويج منتجها، كالأغنية والمقطع التمثيلي.
وأول عناصر الترويج التي تزايد الاهتمام بها فنيًا وتسبق “البرومو”، وهو المقطع التشويقي الذي يشكّل عصارة أقوى المشاهد في العمل، هي أغنية الشارة للمنتج الدرامي.
ولأن القائمين على الإنتاج يدركون هذه الفكرة، منحوا مزيدًا من اهتمامهم لنجاح شارات أعمالهم، وتقديمها بجودة عالية، آخذين بعين الاعتبار حصتها من العملية الإنتاجية، باستقطاب أحد نجوم الغناء لتأديتها، وإخراجها بصريًا، ربما في بعض الأحيان على يد مخرج مختلف عن مخرج العمل الدرامي.
كما استطاعت الأعمال الدرامية الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وتسخيرها لأغراض ترويجية، ليس فقط عبر الحسابات الرسمية للعمل نفسه، بل وعبر حسابات أبطال الأعمال الذين يشاركون عبرها صورًا وبعض مشاهدهم المميزة الفردية في العمل، ما يجعل الممثل شريكًا في عملية التسويق والترويج للمسلسل.
وعلى الرغم من الترويج الكبير لبعض الأعمال، وبيعها للعديد من المحطات في الموسم الرمضاني الحالي، تراجعت هذه الأعمال بمعدلات المشاهدة مفسحة طريق الصدارة أمام أعمال أخرى صُنعت دون ضجة إعلامية عبر مواقع التواصل، محققة تفاعلًا شعبيًا.
دراما بديلة تطل من شباك منصات البث الرقمية
انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة منصات البث الرقمية لتكون بمثابة وسيط عرض لإنتاج مسلسلات سورية (مسلسلات ويب) مخصصة للبث عبر الإنترنت حصرًا بدلًا من التلفزيون.
والفكرة الأساسية من هذا الأسلوب في العرض أنه يتم خارج إطار الإنتاج التقليدي، ما يشكّل مخرجًا لأزمات بارزة تعاني منها الدراما السورية حتى قبل 2011، أهمها ظاهرة “الـ30 حلقة”.
يضطر الكتّاب في صناعة الدراما إلى الالتزام بشروط سوق الإنتاج الفني، وهو العمل على كتابة مسلسل مؤلف من 30 حلقة، ومن لا يتبع هذه القاعدة تنخفض فرص بيع عمله أو تكاد تنعدم، ما “يحد من قدرة الكاتب على الإبداع بأريحية”، وفق ما يراه السيناريست رافي وهبي، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تشويه حكاية العمل بحد ذاتها.
تلبي تجربة المسلسلات السورية التي تُبث عبر “الويب” حاجات إنتاجية، منها أن معظم القنوات العربية في السنوات الأخيرة أخذت موقفًا غير معلَن من طرح القضية السورية في الدراما، كما أنها تشكّل بديلًا للمنتجين الذين يبحثون عن تحقيق الربح بأقل تكلفة إنتاجية ممكنة، فوجدوا ضالتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
كما أن هذا الأسلوب يعد ملجأ الكتّاب من الرقابة التي يمكن الإفلات منها والهروب إلى فضاء الإنترنت المفتوح، لطرح المواضيع التي تناقش بعمق الواقع السوري المُعاش في الوقت الحالي، وفق ما يراه رافي وهبي، الذي أكد على أن “المنصات الرقمية تبحث عن مثل هذه الأعمال”.
قدم وهبي مسلسل “بدون قيد” عام 2017، وهو بحسب اسمه يكسر القيود التي اعتاد صانعو الدراما مواجهتها، بقالب عرض تفاعلي.
وفي عام 2018، ونتيجة نجاح تجربة رافي وهبي، اتجه مخرجون سوريون إلى الدراما التفاعلية، وهم ممن عُرفوا بميولهم الكلاسيكية في الإخراج، مثل المخرج مروان بركات الذي صوّر مسلسلًا تفاعليًا بعنوان “الشك” من بطولة الفنان بسام كوسا، وديمة قندلفت، وآخرين، بمدة عشر دقائق للحلقة.
وقدم المسلسل السوري “قيد مجهول” هذا العام من خلال ثماني حلقات تجربة متجددة في نطاق عرض الأعمال الدرامية عبر الإنترنت، وأخذ ردود فعل إيجابية من قبل شريحة واسعة من الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليبرهن أن واقع الدراما ليس رهين شاشة التلفزيون التقليدية.
وبرزت في السنوات الأخيرة العديد من منصات المشاهدة العربية التي لحقت بالعالمية، بتكلفة مأجورة، وعلى الرغم من دخول هذه المنصات وشبكات العرض على خط الإنتاج الدرامي، واحتكارها العرض الأول لبعض المسلسلات، يبقى تأثيرها إلى الآن محدودًا على الإنتاج الدرامي السوري.
ويحاول السيناريست رافي وهبي تكرار تجربة “بدون قيد” حاليًا على نفس المبدأ ولكن بمستوى عربي أوسع، وفق ما قاله في حديثه لعنب بلدي.
ولإنتاج الدراما العربية أنماط تختلف عن أي إنتاج آخر في العالم، ولها شروطها المادية إلى جانب رأي المشاهد والرقابة والمواضيع، وفق ما يراه المخرج السوري هشام زعوقي في حديث إلى عنب بلدي، وجزء من هذه الشروط تابع لمنطق سوق الإنتاج والمشاهد العربي، وهنا يكمن التحدي الأساسي أمام شركات الإنتاج الفني العربية.
استطلاع رأي
بحسب استطلاع رأي أجرته عنب بلدي عبر “فيس بوك” شارك فيه 175 مستخدمًا، انقسم المصوّتون حول مدى نجاح المنصات الرقمية كوسيط ناجح لعرض المسلسلات السورية عبر الإنترنت بدلًا من التلفزيون، إذ يعتقد 87 مصوّتًا أن هذه التجربة يمكن أن تلقى نجاحًا يوازي النجاح العالمي، بينما يعتقد 88 من المصوّتين أن هذه التجربة غير مكتملة النجاح.
الدراما.. وظيفة لرصد المشكلات أم لترفيه المشاهد
تعتبر الدراما واحدة من وسائل نقل التجارب الإنسانية وتقديم الأفكار، والإسهام في تعزيز الوعي لدى المجتمع، فهي بذلك تقدم رؤية للحياة، بحسب ما ذكره الناقد المسرحي والصحفي إريك بنتلي في كتابه “الحياة في الدراما”.
ويرى السيناريست رافي وهبي أن “علاقة الدراما السورية مع المشاهد بُنيت على أنها جدية، وكل الأعمال المهمة كانت بنفس الوقت ترفيهية ولكن أكثر احترافية”، لأن “الترفيه ليس بسطحية الصنعة والجودة، وإنما يجب أن تكون جيدة شكلًا ومضمونًا”.
وذكر كتاب “عن العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر”، الصادر عن دار “ممدوح عدوان للنشر والتوزيع” عام 2016، أن الفنون تمتلك القدرة على إشراك أفراد متنوعين واكتشاف أشكال جديدة للتعبير، إضافة إلى أنها أداة تستطيع تحويل طريقة تفكير الناس وسلوكهم.
كما تمثل منبرًا يمكن للأشخاص من خلاله الإصغاء إلى قصص غير مسموعة، وتحافظ على الأمل في ظروف القمع الثقافي والسياسي، وفق صفحات الكتاب.
وينوّه الكتاب إلى أن دور الفنون ليس فقط الترفيه، إنما يمكن للإنتاج الفني والثقافي أن يعزز خصوصية المجتمعات المحلية، وكذلك يستطيع في الوقت نفسه بناء جسور من التفاهم والاحترام، وبالتالي تعزيز الاندماج الاجتماعي.
كما أن الثقافة تمثل عاملًا أساسيًا في تطور النزاع السوري والنتائج التي وصلت إليه، وحله بطبيعة الحال، فهناك حاجة حقيقية إلى تطوير فهم أوضح لما هو “ثقافة سورية” سواء بـ“مواردها الإبداعية” أو “كوامنها العنفية”، ويجب إدماج هذا الفهم في أي تدخلات تهدف إلى تحقيق السلم الأهلي على اعتباره سلمًا ثقافيًا بالدرجة الأولى، حسب الكتاب.
ما إمكانيات الدراما في التغيير
يرى المخرج بسام قطيفان أن “الأفكار التي تعتقد بأن الفن هو مجرد لهو وترفيه هي من أكثر الأفكار قصورًا في النظر، وإن كان في جزء منه كذلك”.
لأن الفنون منذ أن وُجدت في المجتمعات القديمة حتى وصولها إلى السينما، هي أحد المحركات الأساسية في تغيير إطار الإدراك لدى الجمهور وأنماط تفكيره من خلال تعزيز وعيه للمشكلات الموجودة في المجتمع، وذلك عبر تصديرها إلى الشاشة وتركيز الضوء عليها أكثر.
والفن بكل أنواعه وأشكاله يعوَّل عليه لهذه الأهداف، حسب قطيفان، “فالنماذج التاريخية لا تحصى في رصد أثر الفن في الحروب ومعارك الشعوب وثوراتها وأزماتها وقضاياها، فهو رسالة أخلاقية وفكرية وإنسانية”، على حد قوله.
لكن على الرغم من الإمكانيات القوية للفنون لإحداث التغيير، يجب الاعتراف بأن هذه القوة، إذا تم تسييسها (استعملت كسلطة أو لتعزيز شرعية سلطة ما) يمكن أن يكون أثرها مدمرًا، وفق ما ذكره كتاب “عن العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر”.
إذ يمكن لأشكال التعبير الثقافي أن تمتلك تأثيرًا تحرريًا من جهة، ويمكن أيضًا وبالقدر نفسه أن تعمل على تمجيد العنف.
فيمكن استخدام المنتجات الثقافية في حملة من أجل التسامح والتعددية وبناء مجتمع ديمقراطي، ولكن في الوقت نفسه يمكن أن تعزز التعصب من خلال تقوية هويات مجموعة أحادية العرق أو الدين، ودعم نماذج من المجتمعات المغلقة، أو حتى من خلال توفير هياكل جمالية للأنظمة الديكتاتورية أو تقديم تعبئة وتغليف فني للأفكار العنيفة.