عنب بلدي – خالد جرعتلي
رغم معلومات تصل إلى فصائل المعارضة، صاحبة النفوذ في الشمال السوري، حول أشخاص يشتبه بضلوعهم في جرائم حرب، يتمكن هؤلاء من عبور مناطق سيطرة المعارضة إلى تركيا عبر الشريط الحدودي، ومنها إلى أوروبا، بالتنسيق أو بتسهيلات من مهربين متعاونين مع شخصيات في المعارضة أو مقربين منهم.
طريقة خروج المشتبه بضلوعهم في جرائم حرب خارج حدود مناطق سيطرة النظام السوري خطرة، فبمجرد إلقاء القبض عليهم في مناطق سيطرة المعارضة، فإن الاحتمال الأكبر هو إجراء عمليات انتقامية، أو محاكمات ميدانية بحقهم.
لكن ما حصل مؤخرًا يقول عكس ذلك، إذ تكررت حالات عبور “شبيحة” من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق سيطرة “الجيش الوطني” في ريف حلب، ومنها إلى تركيا خلال العامين الأخيرين، مقابل مبالغ تُدفع لمهربين مقيمين في مناطق سيطرة المعارضة أو في تركيا.
خلال شباط الماضي، وصل علي الصالح، وهو متطوع في “اللجان الشعبية”، إلى مدينة مرسين التركية، قادمًا من مدينة سلمية في ريف حماة مرورًا بمناطق سيطرة “الجيش الوطني”.
وشارك علي بقمع المظاهرات المعارضة للنظام السوري منذ بدايتها عام 2011، وكان من أوائل حملة السلاح دعمًا للنظام في مدينة سلمية رغم صغر سنه آنذاك، وبعد سيطرة النظام على ريف حماه الشرقي بالكامل وصولًا إلى دير الزور وتوقف العمليات القتالية، بدأ علي بالتخطيط لعمليات الخطف والقتل بحق مدنيين، وجنى بذلك أموالًا طائلة.
في عام 2019، صار علي الصالح هاربًا من ملاحقة أمنية من قوات “الأمن الجنائي” في حماة تستهدفه مع شقيقه (محمد)، بتهم سلب وقتل وخطف وتهريب.
وبينما اعتُقل شقيقه في نيسان 2019، بقي علي متخفيًا إلى أن تمكن من الوصول إلى مرسين التركية.
طريقان للتهريب
بعد بحث أجرته عنب بلدي، اتضح أن علي مرَّ بمناطق سيطرة “الجيش الوطني” برفقة “شبيحة” آخرين مقابل مبلغ تجاوز ثلاثة آلاف دولار أمريكي، دُفع لمهرب يقيم في مرسين، وهو على صلة قرابة مع أحد أعضاء “الائتلاف الوطني السوري” (المعارض).
وفي لقاء مع أحد الذين لجؤوا بطريقة غير شرعية إلى تركيا مؤخرًا، تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي، إن المهرب يتقاضى ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف دولار أمريكي مقابل تأمين طريق السفر من محافظة حماة وصولًا إلى الأراضي التركية، وهذا يعتمد على طريقة دخولك إلى تركيا.
وتوجد طريقتان يعتمدهما المهربون إلى تركيا، إما الدخول عبر الحدود بطريقة غير شرعية وإما عن طريق المعابر الرسمية وفق أوراق مزوّرة، ولكن الطريقة الأخيرة تكاليفها أكبر كونها أكثر أمانًا.
وتدفع المبالغ على أقسام، فعند تجاوز منطقتي نبّل والزهراء بريف حلب (خاضعتان لسيطرة النظام)، يدفع من يحاول العبور عن طريق التهريب قسمًا من المبلغ لأشخاص يتبعون للنظام السوري، ثم يكمل اللاجئ طريقه حتى الحدود التركية مرورًا بمناطق سيطرة “الجيش الوطني”.
ويدفع اللاجئ القسم الثاني من المبلغ عند بلوغه الحدود التركية، وينتظر في منطقة الحدود حتى يبلغه المهرب بالتحرك مع مجموعات أخرى تنتظر على الحدود مسبقًا، بحسب اللاجئ الذي تحدثت إليه عنب بلدي.
عند دخول الأراضي التركية يعتقد أغلب الواصلين أنهم صاروا في بر الأمان، إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة، فالمدينة التركية التي تقصدها هي ما يجعل من طريقك سهلًا أو صعبًا. مثلًا من يريد السفر إلى مدينة اسطنبول، يحتاج إلى قرابة 300 دولار إضافية من أجل تهريبه داخل الأراضي التركية، لأنه لا يملك أوراقًا ثبوتية يمكن استعمالها داخل الأراضي التركية، وإذا ألقي القبض عليه من قبل الشرطة التركية يعاد مباشرة إلى الأراضي السورية.
معارضون متورطون.. عن علم أو دون قصد؟
في آذار عام 2020، نشر نائب رئيس “الائتلاف الوطني”، عقاب يحيى، عبر صفحته الشخصية في “فيس بوك”، أنه “بمجرد إعلام وزير الدفاع في (الجيش الوطني)، سليم إدريس، قام على الفور بإجراء اتصالاته للإفراج عن ريمون مصطفى سيفو وعائلته”، شاكرًا وزير الدفاع على ذلك.
خلال بحث أجرته عنب بلدي عن ريمون سيفو، اتضح أنه كان يعمل لمصلحة “الحرس الثوري الإيراني” في سوريا، وفق ما وثقه عبر صفحته الشخصية في “فيس بوك”.
وينحدر ريمون من مدينة سلمية التي غادرها مطلع عام 2020، متجهًا إلى مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، التي أوقف فيها لمدة أسبوع، ليفرج عنه بعدها بوساطة من عقاب يحيى، ويكمل طريقه إلى تركيا، ومنها إلى اليونان.
حاولت عنب بلدي التواصل مع نائب رئيس “الائتلاف الوطني” عدة مرات، إلا أنه لم يدلِ بأي إجابة أو تصريح.
ثم أوضح يحيى، عبر “فيس بوك”، موقفه من الأسئلة التي وُجهت إليه من قبل ناشطين ومواقع إعلامية، برر فيها بأنه لم يكن يعلم من هو ريمون سيفو، بحكم أن المعارض السوري غادر البلد قبل أكثر من 40 عامًا.
المهرب يستفيد من قريبه المعارض؟
المهرب الذي يشرف على عمليات التهريب من مناطق سيطرة النظام إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، هو ابن أخ عقاب يحيى، ويدعى كرم، وهو موقوف سابق لدى “هيئة تحرير الشام” في إدلب، التي قضى في سجونها قرابة عامين، حتى أُفرج عنه في نهاية عام 2019، ليغادر بعدها إلى تركيا.
وتواصلت عنب بلدي مع مدنيين وصلوا إلى تركيا عبر دفاع مبالغ للمهرب كرم يحيى، تحدثوا عن استعانته بسمعة عمه في “الائتلاف” والمعارضة السورية، لإيهامهم بشرعية نشاطه وليمنعهم من مساءلته في حال اختلفوا معه.
إلا أن نائب رئيس “الائتلاف”، عقاب يحيى، لم يجب عن أسئلة طرحتها عنب بلدي عن علاقته بالإفراج عن كرم من سجون “هيئة تحرير الشام” وتسهيل وصوله إلى تركيا، أو عن استفادة ابن أخيه من اسمه كمعارض سوري لتسهيل عملياته في تركيا.
وخلال بحث أجرته عنب بلدي عن كرم يحيى، عبر موقع “فيس بوك”، ظهرت صور نشرها في أثناء عمله ضمن صفوف “الدفاع الوطني” في دمشق، حذفها من حسابه لاحقًا.
ويُشتبه بأن يكون المهرب كرم يحيى سببًا بوفاة الشاب السوري توفيق زريق على الحدود اليونانية- التركية نهاية عام 2020، الذي توفي جراء البرد بعد أن ضلّ طريقه في الغابات الممتدة بين الحدود التركية- اليونانية، بحسب ما قاله أحد أصدقاء توفيق المقربين لعنب بلدي، تحفظ على ذكر اسمه خوفًا من عمليات انتقامية.
وقال صديق توفيق، إن توفيق نسّق لخروجه من تركيا إلى اليونان مع المهرب كرم يحيى مقابل مبلغ قدره 2200 يورو، لكن توفيق فُقد على الحدود لمدة 14 يومًا حتى عثر عليه حرس الحدود اليوناني جثة هامدة، لتبلّغ بعدها الجهات الرسمية اليونانية أسرة توفيق، بأنها عثرت على الشاب متوفيًا نتيجة البرد والخوف على الحدود اليونانية- التركية.
ما إجراءات “الجيش الوطني”
رغم الشهادات التي أدلت بها المصادر لعنب بلدي، عن تسهيلات يقدمها أفراد من “الجيش الوطني”، بشكل منظم، في عمليات التهريب، قال “الجيش الوطني” إنه يعمل باستمرار على ملاحقة هؤلاء المهربين، وإيقاف عمليات التهريب ضمن مناطق سيطرته.
وفي حديث لعنب بلدي مع الناطق الرسمي باسم “الجيش الوطني”، الرائد يوسف الحمود، قال إن حالات الاعتقال التي تجري بحق بعض القادمين من مناطق سيطرة النظام، تخضع للتحقيقات من قبل “الشرطة العسكرية” و”القضاء العسكري” التابعين لـ”الجيش الوطني”.
وبمجرد وجود أي دلائل على عمل المشتبه بهم مع جهات عسكرية تتبع للنظام السوري أو الميليشيات الرديفة له، يخضعون للمحاسبة وفق قانون “القضاء العسكري”، بحسب الرائد يوسف حمود.
وقال مصدر مسؤول في “الشرطة العسكرية” التابعة لـ”الجيش الوطني”، لعنب بلدي، (تحفظ على ذكر اسمه)، إن التهريب يعتبر نشطًا في جميع دول العالم، وحتى أكثرها أمانًا، فمن الطبيعي أن تكون هذه العمليات نشطة بكثرة في المناطق التي تشهد بعض “الفوضى الأمنية”، بحسب المصدر.
ويتحرك القادمون من مناطق سيطرة النظام، بحسب المصدر، بطرق مخفية يعدها المهربون مسبقًا، ما يجعل تتبعها صعبًا، ولكن قوات “الشرطة العسكرية” تعمل على محاولة تعقبها دائمًا، بحسب المصدر، وفي حال ألقي القبض على مشتبه بهم في هذه الحالات، فإن أول من يجري البحث عنه هم المهربون المشرفون على إيصال هؤلاء “الشبيحة” إلى الحدود.
وبعد وصول المشتبه بهم إلى داخل الأراضي التركية، يجري التنسيق مع الجانب التركي، لمتابعة تحركات المشتبه بهم وإلقاء القبض عليهم، ثم إعادة إرسالهم إلى “القضاء العسكري” التابع لـ”الجيش الوطني”، بحسب المصدر في “الشرطة العسكرية”.
نقطة الانطلاق باتجاه مدينة عفرين تبدأ من مدينتي نبّل والزهراء في ريف حلب الشمالي، ويصل إليها الساعون للعبور عن طريق ضباط تابعين لقوات النظام السوري.
وتنتظر المجموعات التي تنوي إكمال طريقها نحو تركيا بين منطقتي نبّل والزهراء لعدة ساعات أو أيام في بعض الأحيان، ثم يجري إعلامهم عن طريق المهرب ونقلهم إلى مدينة عفرين، ومنها إلى الحدود التركية.
“شبيحة” تابعون لجهات أمنية؟
خلال لقاء أجرته عنب بلدي مع الخبير في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية اللواء محمود علي، قال إن احتمالية أن يكون هؤلاء “الشبيحة” قادمين إلى أوروبا أو إلى المجتمعات المضيفة للاجئين السوريين وفق مهام أمنية تعتبر واردة جدًا.
أغلبية مجرمي الحرب الفارين إلى أوروبا أو إلى دول الجوار لهم أسبابهم الخاصة، كالضغوط التي يمارسها عليهم المجتمع، ويأتي هروبهم خارج البلد للتواري عن الأنظار لفترة معيّنة، بحسب اللواء محمود علي.
وأضاف أن احتمالية استغلال مثل هؤلاء المجرمين تعتبر كبيرة جدًا، إذا توفرت فيهم الميزات التي تخدم منظمات الجريمة المنظمة في البلدان المضيفة، أو إذا توفرت الارتباطات مع النظام السوري أو إيران أو جهات عسكرية أخرى، فالبقاء على قيد الحياة هو ما يهم هؤلاء “الفارين من العدالة”، بحسب علي.
ويعتقد اللواء أن المستفيد من وصول هؤلاء المجرمين إلى المجتمعات المضيفة للاجئين في المقام الأول، هم المجرمون أنفسهم، في حال لم يكونوا من ذوي الارتباطات الاستخباراتية مع تنظيمات متطرفة أو إرهابية.
ولكن مهما كانت قدرة مجرمي الحرب على التخفي كبيرة، إلا أنهم سيُكشفون في هذه المجتمعات، فمكان المجرمين الطبيعي هو السجون وليس السياحة في أوروبا.
ويرى اللواء محمود علي أن العقاب هو مصير مجرمي الحرب، وخاصة الموجودين خارج سوريا منهم، ولكن على الدول المضيفة للاجئين السوريين أن تكون أكثر صرامة في التعامل مع مثل هذه القضايا، كون مجرمي الحرب لم يعودوا يشكلون أي خطر على المجتمعات السورية بعد تجاوزهم حدود سوريا.
وأوضح أن قرار محاكمة وملاحقة مجرمي الحرب السوريين خارج سوريا يعتبر قرارًا سياسيًا من الدولة التي يقيم المجرم على أراضيها
محاكمات
يواصل ناشطون وحقوقيون سوريون في أوروبا، محاولاتهم لمحاكمة مجرمي الحرب، وتسليط الضوء عليهم في المجتمعات الأوروبية التي يقيمون فيها، باعتبار هؤلاء يشكلون خطرًا فعليًا على المجتمعات الأوروبية الحاضنة للاجئين.
وجرت العديد من محاولات ناشطين وحقوقيين لملاحقة “مجرمي الحرب” والضالعين في عمليات قتل وتعذيب بحق السوريين، إلا أن نقص الأدلة يحول بين “المجرمين” والمحاسبة، بحسب ما قاله مصدر في “اللجنة الدولة للعدالة والمساءلة” (CIJA)، لعنب بلدي، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه خوفًا على أسرته الموجودة في مناطق سيطرة النظام.
وفي حديث للناشط والحقوقي أنور البني، إلى عنب بلدي، قال إن انتظار وصول مجرمي الحرب إلى أوروبا أمر لا مفر منه، فمن الصعب محاكمتهم ضمن الأراضي التركية.
ويرجع البني ذلك إلى صعوبة في القوانين التركية من جهة، وضعف نشاط المنظمات الحقوقية السورية ضمن الأراضي التركية من جهة أخرى، فالشروع بمثل هذه الخطوة يتطلّب التواصل مع حقوقيين أتراك، بحسب البني.
حاولت عنب بلدي التوجه بالسؤال إلى محامين وحقوقيين أتراك عن حيثيات القانون التركي فيما يتعلق بمجرمي الحرب الأجانب، إلا أنها لم تحصل على إجابة واضحة في هذا الشأن.
أغلب معلومات الحقوقيين الأتراك كانت حول كون المشتبه به متسببًا بأذى للأمن التركي أو أنه ارتكب جرمًا يمس تركيا بشكل مباشر أو غير مباشر.
لكن بعض الحقوقيين قالوا إن محاكمة مجرمي الحرب في المحاكم التركية أمر متاح، رغم عدم وجود قانون صريح يتعلق بهذا الشأن، فالتوجه بالشكوى إلى المدّعي العام كافٍ للشروع بمحاكمة المشتبه به.
ماذا يقول البروتوكول الدولي والقانون التركي؟
يتحدث “البروتوكول” الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 2000 فيما يتعلق بجرائم تهريب البشر، عن اتخاذ تدابير فعالة لمنع ومكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البر والبحر والجو، وهو ما يتطلب نهجًا دوليًا شاملًا، ومعالجة الأسباب الجذرية للهجرة، وبخاصة ما يتصل منها بالفقر، وتعتبر تركيا إحدى الدول المنضمة إلى الاتفاقية.
واحتوى “البروتوكول” على العديد من البنود التي تتحدث عن تهريب البشر، الذي وصفته بـ”الجريمة التي تنتهك حقوق الإنسان”، وتحدثت عن العقوبات التي تطال مهربي البشر والمساهمين في عمليات التهريب أو من يقدمون تسهيلات فيها.
وتعتبر الحدود السورية- التركية من أكثر المناطق الحدودية التي تشهد حالات الهجرة غير الشرعية والتي يقصدها السوريون، وتلتها لبنان ثم الأردن، وفق “المفوضية السامية لحقوق اللاجئين“، والوجهة أوروبا.
أما في تركيا فعقوبة تجار البشر تمتد من ثمانية إلى 12 عامًا، يقضيها المتهم في السجن في حال أدانته المحكمة، بالإضافة إلى غرامة مالية يدفعها المُدان وتتراوح بين 20 و100 ليرة تركية عن كل يوم واحد ولمدة 30 عامًا، وتحددها المحكمة بالنظر إلى حيثيات القضية.