“روائح ماري كلير”.. حكايات الحب من البدء إلى الخاتمة
يخوض الكاتب التونسي الحبيب السالمي في روايته “روائح ماري كلير” في طبيعة العلاقة البشرية العاطفية بين الرجل والمرأة منذ المرحلة التي تمهد لنشوء العلاقة، وصولًا إلى مرحلة البكاء على الأطلال، التي يبقى فيها الرجل لوحده مستجمعًا بقاياه، ومحصيًا خسائره وأخطاءه التي سببت نهاية غير سعيدة لحب لم يشأ له النهاية.
هذا الوقوف وهذا الإحصاء للأخطاء والخسائر لن يسفر بطبيعة الحال عن نتيجة، إذ لا يمكن الاستفادة منه في علاقة مقبلة، فكل علاقة سواء كانت عاطفية أو اجتماعية طبيعية، ما يحكمها من ظروف ومنطق خاص يرفض الاستفادة من دروس الآخرين.
ويبدأ الحبيب السالمي روايته من مشهد هادئ ويومي، وهو تناول وجبة الإفطار، ثم يبرم العجلة إلى الخلف ليعود بالزمن والقارئ إلى عهده الأول بماري كلير، الشابة الفرنسية التي لم تكمل دراسة التاريخ، لأنها اكتشفت في نفسها انقطاع رغبتها في التحول إلى معلّمة، وآثرت الانتقال إلى وظيفة في القطاع العام، ضمن دائرة البريد والبرق والهاتف.
وكان حينها بطل الرواية والعلاقة العاطفية أمضى تسع سنوات من حياته في باريس، حصل خلال الخمس الأولى منها على شهادة الدكتوراه، وفي الأربع التالية اشتغل في الفنادق وألقى المحاضرات في الجامعة بشكل متقطع، رافضًا العودة إلى تونس، خوفًا من الانقطاع عن باريس.
وفي هذه الرواية لا يصوّر الحبيب الاختلافات القائمة فقط على أساس الجنس بينه وبين حبيبته، التي انتقلت للإقامة في بيته، معيدة بناء قواعد المعيشة ومفاهيمها، بل يتطرق إلى الاختلافات الثقافية المتجذرة بين شابة فرنسية تحب الحياة وتقبل عليها بقليل من التحفظ، وشاب تونسي ريفي يحتفظ تحت جلده الأسمر بكثير من موروث وعادات ومعتقدات البلاد التي صبغت جلده بشمسها.
ماري تحب العمل في النهار، أما حبيبها التونسي محفوظ، فيفضل العمل في الليل، ماري تحب قضاء الأمسيات في المقاهي والبارات والمطاعم، ومحفوظ يستهجن الاحتفاء الجماعي بالطعام بما يشبه الانزعاج، ولا يحبذ فكرة تناول الطعام في مكان تتجاور فيه الطاولات ويتطلع الناس فيه إلى بعضهم.
وماري صبية باريسية من مينيلمنتون، ومحفوظ تونسي ريفي من قرية المخاليف، ذو طفولة عشوائية لا تتقاطع مع طفولة حبيبته سوى بالاسم.
هكذا يتحول الاختلاف إلى نقطة التقاء، وتبنى العلاقات على ما يمكن أن ينهيها من اختلافات في طريقة عيش الماضي والحاضر وطبيعة النشأة الاجتماعية، وتأثير مخزون الذاكرة والوعي منذ مرحلة الطفولة.
وعلى هذه الاختلافات وغيرها قامت العلاقة بينهما، وبهذه الاختلافات وغيرها يمكن لبعض العلاقات أن تستمر وتتكامل، إذ تغذي وتتغذى على الفائض لدى الآخر، أو أنها تتنافر لتصل إلى نقطة لا استمرارية فيها على الأرض، إذا أمكن الاستمرار في القلوب.
ويمشي الحبيب السالمي في الرواية ضمن تسلسل منطقي لا يتعارض مع التسلسل الطبيعي لأحداث العلاقات البشرية، بدءًا بالانبهار والفترات الأولى التي تغلب فيها الحماسة وفوران العاطفة على وجود ما ينغصها، وصولًا إلى التأمل في النواقص وبدء أسطوانة النقد والشكوى، ثم التذمر والخلافات، فالقطيعة، التي لم تكن لطيفة في حالة محفوظ، إذ استبدل بطيش وقلة دراية ريفية الوحدة والعزلة بحبيبة فرنسية، على شرف المفاهيم التي جاء بها من بلاد لا يرغب هو نفسه بالعودة إليها.
وفي هذه الرواية المبنية على 223 صفحة، يقدّم الحبيب السالمي دروسًا عملية يمكن قراءتها لتلافي الوقوع بها خلال العلاقات العاطفية، بأسلوب يكتسي بالثقافة والرؤى الشخصية المثقفة أيضًا.
صدرت رواية “روائح ماري كلير” عام 2008، ووصلت عام 2009 إلى القائمة القصيرة للنسخة العربية من جائزة “بوكر”.
والحبيب السالمي روائي تونسي من مواليد كانون الثاني 1951، وفي رصيده مجموعتان قصصيتان وأكثر من عشر روايات، آخرها رواية “الاشتياق إلى الجارة” التي صدرت في شباط 2020، وتُرجمت العديد من رواياته إلى لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :