عنب بلدي – إدلب
فوق الأرض الطينية تجمّع الأطفال على الحصير منتظرين بدء العرض، لا ستائر أمامهم ولا أضواء ولا خشبة للمسرح، فمخيمهم المفتقد لأبسط الخدمات لم يوفر لهم تلك المقومات، لكن من خلف لوح بسيط من الخشب، أُلصقت عليه بعض الرسومات وفُتحت نافذة صغيرة، طلّت العرائس لتحكي لهم الحكاية التي حملتهم بعيدًا عن واقعهم بعضًا من الوقت.
ما زال الطيران الحربي يُسمع في أجواء إدلب، والقذائف التي تحمل الموت والدمار لا تنقطع يوميًا، رغم اتفاق “وقف إطلاق النار” منذ 6 من آذار عام 2020، في المنطقة التي سكنها أكثر من مليوني مهجر ونازح، وهي تفتقر للخدمات وسبل المعيشة الكافية، ومع ذلك لا يخلو مقعد في قاعة المركز الثقافي وسط المدينة عند بدء العرض المسرحي.
المسرح كفن تعبيري، يقدم عروضًا متنوعة للكبار والصغار، ضمن قاعات أو في الهواء الطلق، لم يُنسَ في إدلب ولم يفقد جمهوره، بل أخذ منابر وأساليب جديدة بجهود من أحبوه وآثروا استخدامه، على الرغم من نقص الدعم وظروف الحرب.
تسلّط عنب بلدي الضوء في هذا الملف على المسرح في إدلب خلال الحرب، ما مكانته؟ وما أثره؟ وكيف حاله بالمقارنة مع بقية المناطق السورية؟ وقد التقت بعدد من المسرحيين والخبراء والمسؤولين، الذين شاركوا تجاربهم وحكى كل منهم قصته.
في مدينة المتناقضات
حين تستقبلك أشجار السرو في مدخل مدينة إدلب، وتمر من أحيائها التي تتجاور بها المباني المهدمة مع اللافتات اللامعة للمحال المزدحمة المزينة، وترى اللافتات والعبارات التي تحمل رسائل فكرية وواعظة، يمر من أمامها الناس دون أن يلحظوها، وقد اعتادوا عليها كجزء من المكان، لا تجد أن عرض المسرحيات والاهتمام بها أكثر ما يثير الاستغراب.
اتُهمت مدينة إدلب بـ”الإرهاب”، منذ أن سيطر عليها “جيش الفتح”، الذي شاركت “جبهة النصرة” (التي انحلت وانضم مقاتلوها إلى “هيئة تحرير الشام” لاحقًا) في تشكيله، عام 2015، ومع ما عانته من قصف واستهداف من قوات النظام وحليفته روسيا، واستقبالها لمئات آلاف المهجرين والنازحين، ظنها العالم غارقة بالسواد والموت وبعيدة عن الاهتمام بالفنون.
سوريا التي حفظت ضمن آثارها، من جنوب البلاد إلى شمالها، المدرجات المسرحية، مثل مدرج بصرى ومسرح تدمر، لآلاف السنين، عانى فيها المسرح، حتى قبل الحرب، من نقص الاهتمام والتشجيع، وأغلبية السوريين لا يحفظون منه سوى بعض المسرحيات المتلفزة التي حملت أفكارًا قومية وسياسية بقالب كوميدي، مثل “غربة” (1976) و”كاسك يا وطن” (1979).
كانت سوريا من الدول العربية الرائدة في المجال المسرحي، إذ بدأت العروض الأولى فيها عام 1871، على يد أحمد أبو خليل القباني، الذي واجه النقد المجتمعي والديني منذ البداية، وتابع من بعده الكاتب سعد الله ونوس مع المسرحي فواز الساجر في تأسيس “المسرح التجريبي” في السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن التحفظات الدينية والمجتمعية على الفن التمثيلي لم تبقَ عائقه الأكبر، إذ تحوّل إلى أداة بيد النظام والحزب الحاكم لتمرير الرسائل الفكرية والقومية مع تجريده من حرية الطرح تحت أعين الرقابة.
بعد عشر سنوات على قيام الثورة التي طالبت بـ”الحرية” و”الإصلاح”، لم يحصل السوريون على أي منها على أرضهم، وإنما اختلفت نسبتها من منطقة إلى أخرى. في إدلب، التي تقع تحت سيطرة حكومة “الإنقاذ” و”هيئة تحرير الشام”، تصدر قرارات منوعة تحدد “المسموح والممنوع” في الحياة العامة، تكون غالبًا من منطلقات دينية أو منفعية، يستخدم المسرح لنقد النظام السوري أولًا ولدعم وترفيه الأطفال والكبار من سكان المخيمات من قبل فرق مسرحية ومنظمات إنسانية.
المسرح وسط الأزمات
خلال السنوات الأولى من الثورة السورية، لم تكن هناك أعمال مسرحية تُذكر في منطقة إدلب، نظرًا إلى شدة القصف وتتابع الأعمال العسكرية وحركة النزوح والتهجير، إلا أن المسرح بقي محفوظًا في فكر المسرحيين الباقين في المنطقة.
كان محبو المسرح يخشون تجميع المشاهدين لحضور أي عمل، كي لا يُستهدفوا من قبل قوات النظام السوري، التي كررت رمي القذائف والبراميل المتفجرة على التجمعات المدنية عند الأفران والمدارس والمستشفيات من قبل، حسبما قال المسرحي إبراهيم سرميني لعنب بلدي.
عام 2018، كانت المحاولات الأولى لإعادة تفعيل المسرح، مع بدء تطبيق اتفاقيات مناطق “خفض التصعيد” بين الدول الضامنة، روسيا وتركيا وإيران، التي وعلى الرغم من استمرار خروقاتها سمحت بنوع من الهدوء، استغله إبراهيم عند انضمامه إلى منظمة “بنفسج” لإطلاق دورة لإعداد الممثلين.
على منصة المركز الثقافي في إدلب، تمكن إبراهيم في العام ذاته من أن يعرض مع فرقته مسرحية “سرداب الموت”، التي تناولت قضية المعتقلين في سجون النظام السوري، بإخراجه، وبنص كُتب بشكل محلي من قبل كاتب السيناريو مصطفى شحود، وبإنشاد، لم تصاحبه الموسيقى، من قبل المنشد موفق النجار، “لاقى تفاعلًا كبيرًا، رأيت بعض الناس وهم يبكون في المدرجات”، قال المخرج متحدثًا بفخر.
لم يحِد العرض الثاني الذي أخرجه إبراهيم عن فكرة المعتقلين، لكنه تناولها بطريقة جديدة، تتضمن استحضار الشخصيات المعتقلة لشخصيات غائبة عنهم تواسيهم داخل المعتقل، بسيناريو من كتابة قاسم مطرود، لكن الفترة التي فصلت بين العرضين كانت ثلاث سنوات، مع عرض مسرحية “تحت الصفر” في 27 من آذار الماضي.
خلال تلك الفترة، أقامت “بنفسج” دورة لإعداد الممثلين، عام 2019، وجهزت لعرض ختامي، لم يتحقق بعد، نتيجة عملية التهجير التي شهدها ريف إدلب الجنوبي، بعد تجدد العمليات العسكرية من نيسان ذاك العام وحتى آذار من عام 2020، والتي كانت الأولوية خلالها لفرق الحماية، التي يديرها إبراهيم، أن تتجه للدعم النفسي والإسعافات النفسية للأطفال والبالغين الذين اضطروا لترك ديارهم تحت القصف.
أبرز المصاعب التي وجدها إبراهيم في عمله هي إعادة تعريف الجيل الناشئ بالمسرح، “فكرة المسرح غائبة عن هذا الجيل، لأنه توقف بالكامل عامي 2011 و2012، والآن عند إعادته لا بد من أن تكون العروض حذرة وجاذبة ومفهومة ليحبها الجمهور ويرغب بالعودة لمشاهدة المزيد”، حسبما قال، مشيرًا إلى أن المسرح لا يجوز أن يبقى مغلقًا دون تفعيل.
بإمكان المسرح أن يوصل رسائل “إلى العالم”، حسب قول إبراهيم، الذي أضاف أن أحد أصدقائه في هولندا شارك صورًا لعرض “سرداب الموت”، وقرأ من تعليقات المتابعين أن هناك من صُدم واستغرب أن يكون ذاك العرض في إدلب، “كل العالم لديه فكرة أن هذه المنطقة منطقة إرهابيين، ولا يعلمون أننا دعاة حرية، وهذا ما نريد إيصاله عبر المسرح”.
البدء من الصفر مجددًا
حين وصل ضياء عسود إلى الشمال السوري، بين قوافل المهجرين من الغوطة الشرقية عام 2018، علم أن عليه البدء من جديد، “كنت دائمًا ضمن الصفر، حين كنتُ في سنتي الجامعية الثانية في دمشق (عام 2009) أطلقتُ فرقة مسرحية، ولكني انتقلتُ إلى الغوطة مع بدء الثورة وبدأتُ من الصفر، وأسستُ فرقة جديدة وجمعتُ الشباب، وحين هُجّرنا عدنا إلى الصفر من جديد”، حسبما قال الشاب الثلاثيني لعنب بلدي، مضيفًا أن إعادة البناء المستمرة هدفها إرضاء الشغف الذي في داخله للمسرح.
استفادت الفرقة التي أنشأها ضياء مع رفاقه تحت اسم “الفرقة السورية للفنون المسرحية“، من التعاون مع “فريق تحدي” لإقامة دورة لإعداد الممثلين، كان نتاجها إقامة مسرحية “طب القاطع” في المركز الثقافي بإدلب في نيسان من عام 2020، “تفاجأتُ بالإقبال الكبير على المسرح في إدلب، المتوقع أن يقول الناس أن هذا وقت الحرب، ولكن عرضت عدة مسرحيات للكبار وكان الحضور مميزًا”، قال الشاب المنحدر من دمشق.
يحضّر ضياء مع فرقته لعمل جديد، يأمل أن يُعرَض في عيد الأضحى المقبل، بعنوان “ضايعة الطاسة”، ورغم سعادته بالتقبل الجماهيري للمسرح فإن معوقاته ما زالت تقف في الطريق.
المركز الثقافي، الذي يمثل منصة العرض المسرحية “الأفضل” في إدلب وعموم شمال غربي سوريا، يعاني من نقص التجهيزات، من الإضاءة المحترفة، إلى مؤثرات الصوت، “نحن نعمل بالحد الأدنى ولا دعم أبدًا، ونعمل بشكل تطوعي، وغالبًا ما تكون الدعوات لمسرحياتنا عامة دون أجر”، كما قال ضياء، مشيرًا إلى أنه وفريقه يعملون الآن على جذب الدعم بطريقة جديدة.
اعتمدت الفرقة المسرحية على تجهيز مسلسل للعرض في رمضان عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لاستقطاب الدعم من المنظمات أو شركات الإنتاج، ليتمكن المسرحيون من الاستمرار بعملهم لتحقيق الفائدة، “دور المسرح يبرز أكثر وقت الحرب، في المجتمعات المضطربة المنقسمة”، حسب رأي المسرحي الشاب.
إن لم يكن على الخشبة بعيدًا عن الجدران
وليد شلاش لم يقبل التنازل عن أي من المؤثرات التي أرادها لعروضه المسرحية، لذا فإن اللافتة التي كُتب عليها “ممنوع الموسيقا” على باب المسرح في المركز الثقافي في مدينة إدلب، جعلته يتخلى عن فكرة تقديم عروضه فيه.
أحب الشاب، البالغ من العمر 28 عامًا، تجسيد الشخصيات منذ الصغر، من متابعة المسلسلات السورية إلى قراءة الروايات والمسرحيات العالمية، كان شكسبير وتشيخوف وفيكتور هوغو من دفعوه للتعلق بالمسرح.
بعد أن نال وليد أدوارًا في المسرحيات المدرسية، حاول الدخول إلى المعهد العالي للفنون المسرحية لمتابعة دراسته، لكن قيام الثورة السورية غيّر تلك الحسابات، تاركًا المؤسسات التابعة للنظام السوري ومفضلًا التظاهر ومتابعة القراءة، إلى أن انضم إلى فريق “الكرفان السحري” الذي انطلق بداية عام 2014 لتقديم العروض الترفيهية للأطفال في إدلب وريفها.
عام 2018، أسس وليد فريق “مسرح الحارة“، وهو عبارة عن لوح خشبي تطل الشخصيات عن طريقه على الأطفال، واستخدمه وسيلة لترفيه الأطفال ودعمهم، وحوّل عن طريقه الهدايا إلى جمهوره من الصغار بتبرعات من أصدقائه وممن أحبوا فكرته، “كان لدي صديق لديه محل (بالة) كان يعطيني الألعاب لأهديها للأطفال، وكل منطقة أذهب إليها كان الناس يرحبون بالفكرة والأهالي هم من يحضرون الأطعمة للأطفال لأقدمها بعد كل عرض مسرحي”.
قدم “مسرح الحارة” عروضه فوق المنازل التي دمرتها الطائرات الحربية، وفي أثناء القصف، قدم العروض في الملاجئ تحت الأرض، واستخدم تلك العروض لدمج الأطفال الذين هُجروا من الجنوب نحو الشمال بأطفال المنطقة.
اهتم وليد أيضًا بمسرح خيال الظل، بهدف التذكير برائد هذا النوع من الأداء في سوريا، الفنان زكي كورديللو، الذي اعتقل مع ابنه مهيار عام 2012 لأنه ساند الثورة السورية، كما اختار اسم زكي كورديللو للمركز المختص بالثقافة والفنون، والذي يهدف لتنمية مواهب الأطفال وجمع الفنانين والهواة في الداخل السوري، والذي افتتحه في العام الحالي مع منظمة “ناجون” بدعم من منظمة “اتجاهات”.
لا يجد وليد ضيرًا في أن تكون عروضه في الهواء الطلق أو دون خشبة مسرحية، “أنا مع تقديم العروض في كل مكان، إن كان المسرح مغلقًا أو مفتوحًا، لتكون كل الأماكن مسرحًا، ففي كل مكان وجد به المسرح كان هناك شعب مثقف وواعٍ”، حسب تعبيره.
في حياة أخرى..
المسرح بيد “الطلائع” و”الشبيبة”
غياب الموسيقى عن العروض المسرحية في المركز الثقافي بإدلب، وغياب المشاركة النسائية في أي من العروض المسرحية التي عُرضت عليه حتى الآن، يعيد إلى الذهن نهجًا سابقًا اعتمده النظام الحاكم في ملاحقة أي عمل فني لا يتوافق مع شروطه الخاصة.
النظام السوري الذي ارتكز على حزب “البعث” في تنظيم الشعب وتوجيهه، كان قد أتاح الوصول إلى المسرح عبر “الطلائع” و”الشبيبة”، وأقام مهرجانات دورية لعرض المسرحيات المرتكزة على النصوص التي تسمح بها وزارة الثقافة.
يذكر إبراهيم سرميني، البالغ من العمر 38 عامًا، رد فعل معلمته في المرحلة الابتدائية حين كتب أنه يحب التمثيل، “قالت لي إشخط واكتب المطالعة والقراءة”، قالها ضاحكًا، قبل أن يعدد ما تمكن من تحقيقه خلال سنوات الدراسة، من المشاركة في العروض المسرحية على صعيد المدرسة ثم المحافظة.
شكّل إبراهيم مع أصدقائه فرقة “حلم” المسرحية، منذ عام 2001، وقدم معهم عرضين مسرحيين قبل أن يشارك بمعسكر تدريبي أقامته وزارة الثقافة لمدة 50 يومًا للإخراج المسرحي، تحت إشراف الفنانين نضال سيجري ومحمد آل رشي وغيرهما، حصل في نهايته على شهادة الامتياز وعاد لمتابعة نشاطاته التي حصل خلالها مع فرقته على جوائز متنوعة.
مواضيع المسرحيات كانت متعددة ومفتوحة، ومن طبيعة المسرح أن يطلب ملامسة “الثالوث المسرحي”، الجنس والدين والسياسة، وكانت الأخيرة هي ما يشغل الفرقة، التي لم يكن يجوز لأي من نصوصها أن تمر قبل مراجعتها من قبل الرقابة، وكان منها ما يعدل أو يلغى من الأساس، وعندما قدمت الفرقة عام 2009 عرض “لا تواخذونا” الذي تمكنوا من تمريره دون مراجعة النص مع الرقابة، مُنعوا من عرضه مجددًا.
برأي إبراهيم فإن النظام السوري كان يتيح المسرح لمن يريد الخوض فيه، لكنه كان يقيده ويهمشه، فلا عروض تنتقد الجرائم التي ارتكبها النظام خلال حكمه، ورغم رقابته الأولى على النصوص، كان العرض المسرحي لا يخلو من أحد عناصر “أمن الدولة” و”الأمن السياسي”، الذي كانت مهمته رقابة ما يعرض مباشرة، “أحيانًا كان أحدهم لا يفهم الفكرة ويأتي لسؤالنا، فكنا دومًا نجيب أن ما نعرضه يرمز لفلسطين وأمريكا وإسرائيل”، كما قال، مشيرًا إلى أن العروض التي اشتهرت سابقًا بين السوريين بانتقادها الحكومة والأوضاع المعيشية، إن كان على خشبة المسرح أو التلفاز، تكون غالبًا “متنفسًا” أو “معدة بالأفرع الأمنية”.
“حلم” جديد.. بلا نساء
بعد عام 2011، انقسمت فرقة “حلم”، من أفرادها من اعتقل ومنهم من هاجر وآخرون اختاروا البقاء مع النظام السوري، “مع الأسف، تربينا على فكرة واحدة ولكنهم ذهبوا لاتجاه آخر”، على حد تعبير مدير الفرقة التي ضمت أفرادًا جددًا في إدلب.
يعتبر إبراهيم أن حال المسرح في إدلب اليوم أفضل بالنسبة له عما كانت من قبل، إذ لم يطلب منه مراجعة نص المسرحيات قبل عرضها، “أنا والموجودون هنا متفقون على الموضوع الذي أقدمه (…) قضيتنا واحدة وفكرتنا واحدة”، حسبما قال، مشيرًا إلى أنه لا يعتبر رفض الأفكار الأخرى، مثل تأييد النظام السوري، شبيهة بما يقوم به النظام في مناطقه من رفض المعارضة، إنما هي تحديد “الصواب والحقيقة”.
لكن فرقة “حلم”، التي كانت في بدايتها قبل الثورة مؤلفة من شباب وشابات، تخلو اليوم من العنصر النسائي، وهذا برأي إبراهيم ناتج عن “البيئة المحلية”، وعدم تقدم النساء للمشاركة بالأعمال المسرحية، “بإمكاني تقديم قضايا تهم الجميع”، لا تتطلب وجود المرأة على خشبة المسرح، على حد تعبيره.
مدير “مديرية الثقافة” التابعة لحكومة “الإنقاذ”، جمال الشحود، قال لعنب بلدي، إن إعداد المرأة “ضمن الضوابط التي تحافظ على قيمتها ومكانتها بالمجتمع وعفتها”، هو هدف “الحكومة”، التي تعد لأعمال مسرحية “هادفة” للنساء مع النساء، مع دعم الأنشطة النسوية وممارسة الأعمال التي “تليق بالمرأة لخدمة المرأة”، ضاربًا مثلًا بعض الأعمال، مثل أن تكون المرأة طبيبة أو معلمة أو ممرضة أو مرشدة أو حلاقة نسائية أو خياطة.
ونفى الشحود فرض “الحكومة” أي شروط على العروض المسرحية “إلا الشروط التي يطلبها كل مجتمع، وهي أن تكون النصوص هادفة، تحمل هدفًا ساميًا، ولا تتعارض مع مبدأ أو عرف أو دين، وألا تكون من الخيال الأسطوري غير المعقول أو الصحيح”.
برأي مدير “مديرية الثقافة” فإن العروض المسرحية تراجعت خلال السنوات السابقة بسبب الحرب وهجرة الممثلين ورواد المسارح، مع الظروف النفسية الصعبة التي مرت بالمجتمع، إذ إن “المواطن لم تعد لديه الرغبة حتى في مشاهدة التلفاز أو الاستماع إلى المذياع وهو بين يديه، فكيف سيحضر أو يهتم بالعرض المسرحي”، حسبما قال، مشيرًا إلى أن نقص المستلزمات وخاصة الكهرباء أثر على تلك العروض، مع استمرار أكثر من عشر فرق مسرحية بتقديم العروض الجوالة، وعرض 20 مسرحية خلال العامين السابقين في المركز الثقافي، حسب تقديره.
حين تغيب الخدمات يكون الفن
يزين مدير مكتب الحماية التابع لمنظمة “بنفسج”، إبراهيم سرميني، مكتبه بالدمى، مثل دمية “الضفدع كامل” و”كعكي”، من شخصيات المسلسل الشهير “افتح يا سمسم”، التي يقدم لها أسماء جديدة عند زيارة المخيمات وتقديم العروض للأطفال، “حين لا أذهب أنا يسأل الأطفال عن أبو الفوف”، قال مشيرًا إلى دمية الضفدع الأخضر، التي تتوفر لها العديد من الأحجام.
لا تتضمن العروض التي تقدمها فرق “بنفسج” في المخيمات مسرح العرائس والدمى فقط، وإنما تقدم مسارح خيال الظل للعائلات، مثل “كراكوز وعواظ”، أو حتى لوحات خيال الظل التي تعرض مسرحيات صامتة يؤدي من خلالها الممثلون من خلف الستارة التي تعكس ظلالهم.
“بنفسج”، التي امتازت، برأي إبراهيم، عن بقية المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة بكونها ضمت اختصاصيين في المسرح اهتموا بنقل خبراتهم إلى عملهم الإنساني، تقدم جلسات التوعية بالمخاطر، مثل فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) أو الألغام والبقايا غير المتفجرة، عن طريق المسرحيات، “يرى الأطفال أنني من أتكلم وأنا أحمل الدمية، ولكنهم يتفاعلون معها ويصدقونها”، حسبما قال مدير مكتب الحماية، مشيرًا إلى أهمية استخدام الدمى عند توعية الأطفال.
المشروع الجديد الذي تعمل المنظمة على تحقيقه هو التعليم عن طريق الأقران، من خلال تدريب أطفال المخيمات على أداء العروض المسرحية التوعوية لبقية الأطفال في المخيم، “بهذه الطريقة بإمكانك بناء ثقة الطفل بأنه قادر على التغيير، وهذا يشجع البقية ويمنح الأهل شعورًا بالفخر”، حسب رأي إبراهيم.
تنتقل فرحة الأطفال إلى أهلهم، حسبما يرى إبراهيم، وهو ما يسمح لهم بنسيان مصاعبهم ولو لفترة وجيزة، كما أن ذاك الفرح ينتقل لأعضاء الفرق الذين يلعبون مع الأطفال ويحملون حماستهم وفرحهم.
الاختصاصية النفسية كوثر سعيد قالت لعنب بلدي، إن التمثيل يمكّن الإنسان من تفريغ مشاعره وطاقاته، ويسمح للمتفرج أن يشعر بالمشاركة، لأنه ليس الوحيد الذي يمر بمشاعر معيّنة أو يفكر بأفكار معيّنة.
كما أن دور التمثيل في ملامسة ما يشعر به المتفرج، حين ينقل قضاياه وواقعه، تفرض عليه المسؤولية ليقدم بوعي، حسب تعبير الاختصاصية، التي حذرت من أن التوجه غير الواعي قد تكون له آثار سلبية لا إيجابية.
إبراهيم لا يرى أن فائدة المسرح تعود على الجمهور فحسب، لكنها تمنح الممثل الذي يشارك بالعرض الثقة بالنفس، والقدرة على التحكم بالمشاعر، وتسمح له بتنمية عادة القراءة والسعي للثقافة، وكل ذلك يفيد بإطار العمل الإنساني.
في ريف حلب..
تكريم وحدود مفتوحة بلا دعم أساسي
تختلف ملامح منطقة ريف حلب الشمالي، التي تخضع للإدارة التركية وسيطرة فصائل “الجيش الوطني” عن منطقة إدلب، إذ لا تتوفر فيها منصات مختصة بالعرض المسرحي، كما لا يتوفر الاهتمام الشعبي بحضور المسرحيات، وإن اهتمت بعض المنظمات بنقل بعض العروض إلى تركيا.
مريم معمار، تمكنت من المشاركة في العروض المسرحية في اعزاز، على الرغم من “عدم تقبل المجتمع”، كما قالت لعنب بلدي.
تدرس مريم الطب النفسي في جامعة “شام” بالمدينة، وحسبما قالت فإن “النقد الكبير” الذي تتعرض له الفتيات يبعدهن عن المشاركة بالمسرح والتمثيل، بينما شجعها تقبل عائلتها للأمر على المتابعة.
شاركت مريم في مسرحية “كوفيد جامعي“، التي عُرضت في المركز الثقافي باعزاز، كما عُرضت في تركيا، “يعتقد الشعب أن المسرح عرض بلا هدف، لكننا نحمل أهدافًا ثورية واجتماعية واقتصادية، فالمسرح يجسد جميع القصص ومشكلات الحياة”، حسب رأي الشابة الثلاثينية.
شعبان العثمان، مدير فرقة “بصمة حرية”، التي تشارك فيها مريم، يعتبر نقص المشاركة النسائية في الأعمال المسرحية من أهم المعوقات أمام المسرح في المنطقة، إضافة إلى نقص مراكز التدريب والدورات الخاصة بإعداد الممثلين، والدعم الذي في حال توفر لا يكفي سوى لتغطية تكاليف الإنتاج، دون أي تعويضات للممثلين، الذين أغلبهم من الطلاب الجامعيين، الذين يعولون أسرهم، ولا يستطيعون التفرغ للفن.
شعبان، الشاب البالغ من العمر 32 عامًا، درس المسرح بمعهد “أورنينا” الخاص وتخرج عام 2010، وبعد قيام الثورة عام 2011 غادر البلاد أعوامًا قبل أن يعود بهدف بدء العمل المسرحي.
عرض شعبان مشروعه على جامعة “شام”، التي لم تقبل بداية، وواجه الرفض قبل أن يشترك مع منظمة “بصمة وطن” لإقامة فيلمين، ثم تعاون مع منظمة “خطى الأمل” التي أتاحت له إقامة مسرحية “كوفيد جامعي”، وتشكيل الفريق المسرحي الذي عرض مسرحية “كرسي مع وقف التنفيذ” في “شام” مع بداية نيسان الحالي، ويعمل على تحضير مسرحية “شتات عائلي” التي ستعرض في أيار المقبل.
المجلس المحلي في اعزاز كرّم، في 14 من آذار الماضي، فرقة “بلد للمسرح الشعبي”، التي يقودها عماد حمدو، الشاب الذي كان مدربًا في مركز “يونس إمرة” وتمكن من تقديم عروضه المسرحية في مراكز متعددة بريف حلب الشمالي، إضافة إلى ماردين ومرعش في تركيا، حيث حصلت فرقته على تكريم من الولاة الأتراك.
ما مر به عماد، الذي اتجه إلى حلب من ريف حمص قبل بدء الثورة عام 2011 لدراسة المسرح، من نقص الدعم، لم يبعده عن إقامة العروض المسرحية خلال السنوات الماضية، إذ عمل على تقديم المسرحيات للأطفال، مستفيدًا من مهارته بالحديث من البطن، ومع بدء عمله في المنظمات الإنسانية عام 2013، اتجه لتقديم المسرحيات في المخيمات، للكبار والصغار.
وبرأي الشاب الثلاثيني، فإن أهم ما تفتقر إليه المنطقة، فيما يخص المسرح، هو إحداث نقابة للمسرحيين، تساعد الفنانين على تطوير مواهبهم وتقدم لهم ما يزيد على الدعم المعنوي، الذي لم يحصل على غيره حتى الآن.
ماذا عن مناطق النظام و”الإدارة الذاتية”؟
كان الخط البياني لتطور المسرح في سوريا قبل الحرب بمرحلة صعود، وفي السنوات العشر الماضية لم يستمر الصعود لكنه لم يتقهقر أيضًا، حسب تقييم ناقد مسرحي مقيم في دمشق، تحفظ على ذكر اسمه لاعتبارات أمنية، وأشار في حديث إلى عنب بلدي إلى “متانة التأسيس الأكاديمي” للمسرح من جهة، وإصرار مديرية المسارح ومن ورائها وزارة الثقافة على تقديم “كم كبير من العروض حتى ولو لم تكن كلها بالمستوى المقبول”.
كما ساعدت بعض المؤسسات الثقافية من خارج البلاد على دعم المسرح، مع اهتمام بعض الفنانين السوريين به وعملهم على إنعاشه، مثل عبد المنعم عمايري وبسام كوسا وغيرهما، ممن يدرّسون الطلاب بالمجان أو بأجور زهيدة، حسبما قال الناقد المسرحي، مضيفًا أن الاهتمام الحكومي لم يقل بالمسرح وإنما زاد، “يبدو أن ذلك رغبة في إظهار أن كل شيء على ما يرام”، حسب تعبيره.
قدم المسرح فرصة للجمهور وللممثلين المتدربين واليافعين للهرب من ضيق الحياة اليومية وسط الحرب، حسبما قال الناقد، مشيرًا إلى مواظبة الطلاب المسرحيين على حضور دروسهم ومتابعة الجمهور حضور المسرحيات، رغم الظروف الأمنية والمعيشية “الصعبة”.
وأضاف الناقد المسرحي أن الشروط الرقابية لم تختلف على النصوص والعروض المسرحية، ولم تكن ثقيلة عليه حتى الآن، وبرأيه فإن المسرح في زمن الحرب له دوران، الأول الدور الترفيهي الذي يذكّر الناس بجمال الحياة وطرافتها وينسيهم مآسيهم، والدور التثقيفي التوعوي الذي يحلل ما يجري ويناقش المسائل المُختلَف عليها، “ويدعو للتمسك بالقيم الإنسانية النبيلة التي تجمع شتات المجتمع”، حسبما قال.
من جهته، قال المسرحي أمجد زريقي، المقيم في محافظة درعا التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة أغلب أعوام الحرب الماضية، قبل أن تعود إلى سيطرة النظام السوري في تموز من عام 2018، إن الدعم الحكومي للمسرح كان سابقًا أفضل من الآن، وباعتقاده فإن ذلك يعود إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي تشغل القدر الأكبر من الاهتمام.
يبتعد أمجد، الذي بدأ بعمله المسرحي منذ طفولته في الثمانينيات، عن السياسة في أعماله، التي ما كانت لتحصل لولا جهده الخاص، حسبما قال، ملتزمًا بالبقاء على “بر الأمان” والحديث عن القضية الفلسطينية، وبرأيه فإن الاهتمام بالمسرح خلال الوقت الحالي يجب أن يكون أضعاف ما كان عليه سابقًا “لدوره بتغيير نظرة وقناعة الناس لكثير من الأمور”.
في شمال شرقي سوريا، اعتمدت “الإدارة الذاتية” في تعاملها مع المسرح على فكرة الدعم المسرحي لتوجيه الأفكار، فخلال مئات العروض التي قُدمت في المنطقة منذ وقوعها تحت سيطرة القوات ذات القيادة الكردية، كان النصيب الأكبر منها للحديث عن أفكار زعيم حزب “العمال الكردستاني” عبد الله أوجلان، الذي اعتبرت عيد ميلاده، في 3 من نيسان، مناسبة قومية للاحتفال.
“الإدارة الذاتية” ركزت على قضايا المرأة في التسويق لمشروعها، كما أسست المسارح والفرق المسرحية في مناطق متعددة من شمالي وشرقي سوريا، خلال السنوات الأربع الماضية، إلى جانب المهرجان المسرحي الذي يقام سنويًا في مدينة القامشلي.
تم إعداد هذا التقرير ضمن مشروع مشترك بين مؤسسة عنب بلدي ومنظمة “بنفسج” بدعم من منظمة “Free Press Unlimited”
–