القامشلي – مجد السالم
زادت ظاهرة مزاولة النساء للأعمال الشاقة في مدينة القامشلي، وأصبح من المعتاد مشاهدة عشرات الفتيات يقمن بتفريغ شاحنات مليئة بمختلف أنواع السلع الغذائية، تعود ملكيتها لتجار الجملة، قادمة إما من مناطق النظام في المحافظات الأخرى، وإما من شمالي العراق عبر معبر “سيمالكا” في منطقة المالكية، الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، حاملات على أكتافهن أكياس الأرز والبرغل وغيرها، التي يتجاوز وزنها 20 كيلوغرامًا، إلى داخل المستودعات والأقبية.
عمل غير معتاد
عتاب الرضوان (20 عامًا) من ريف القامشلي الجنوبي، قالت لعنب بلدي، إنها تعمل في التحميل والتنزيل منذ نحو أربعة أشهر، ومع أن العمل “كان متعبًا في البداية”، إذ لم تكن معتادة على مثل هذا النوع من الأعمال، فإنها تأقلمت معه بمرور الوقت، على حد تعبيرها.
عتاب هي واحدة من عشرات الفتيات في المنطقة، يعملن في ورشة واحدة مؤلفة من عشر إلى 15 فتاة، يشرف عليها رجل، يقوم بتأمين العمل بعد الاتفاق على الأجرة مع صاحب المستودع الأساسي، وهو يتقاضى نحو ستة آلاف ليرة سورية أجرة مستقلة عن كل حمولة، لقاء تأمين العاملات والإشراف عليهن، كما يعتبر مسؤولًا عن تأمين وسيلة لنقل العاملات من مكان إقامتهن إلى العمل وبالعكس.
هناك فتيات يعملن في التحميل والتنزيل منذ أكثر من عام، من حي علايا في القامشلي ومن ريفها الجنوبي والشرقي، في ظل غياب أي رقابة من أي جهة كانت، للتأكد من نوعية الحمولات وأوزانها أو لتحديد أعمار العاملات التي تقل أحيانًا عن 18 عامًا، حسبما قالت عتاب.
لا يرتبط عمل التفريغ والتحميل بوقت معيّن، “فبعض الشاحنات نقوم بتفريغ حمولتها عند السادسة صباحًا، وأحيانًا نقوم بالتفريغ عند الساعة 12 ليلًا، وعادة ما يكون العمل لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات دون توقف، والأجرة واحدة لا تتغير في كلتا الحالتين، وهي نحو خمسة آلاف ليرة سورية (دولار ونصف) عن كل حمولة، وخلال الأسبوع نفرغ حمولتين أو ثلاث حمولات”، حسبما قالت الفتاة التي تساعد على تأمين معيشة أهلها.
أحيانًا يمر الأسبوع دون عمل، مثل شهر نيسان الحالي، الذي لا يوجد فيه عمل بالتحميل والتنزيل بسبب فرض الحظر الكلي من قبل “الإدارة الذاتية” لمكافحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، إذ تتجه حينها عتاب للعمل مع ورشات للعناية بمحاصيل الكمّون والكزبرة وإزالة الأعشاب الضارة بين النباتات، لقاء أربعة آلاف ليرة سورية عن كل ست ساعات من العمل.
لا بدائل
سهام عيد (18 عامًا) من حي علايا في القامشلي، تعمل مع ورشة للتفريغ والتحميل منذ عام تقريبًا، قالت لعنب بلدي، إنها مضطرة لهذا النوع من الأعمال، بعد أن توفي والدها وترك طفلين صغيرين مع أمها، فأصبحت “المعيلة الوحيدة للأسرة” التي تعاني كغيرها من الفقر والارتفاع “الكبير” في أسعار السلع وتدهور قيمة الليرة السورية،، التي بلغت نحو 3300 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد خلال نيسان الحالي.
لا تحمل سهام شهادة تعليمية تساعدها على إيجاد وظيفة تناسبها، إذ تركت الدراسة بعد وفاة والدها، وأغلب من يعملن معها “يعشن نفس الظروف تقريبًا من فقدان المعيل والفقر”، حسبما قالت، مشيرة إلى أنها حاولت أكثر من مرة إيجاد بديل، كتعلم مهنة الخياطة أو التجميل في صالونات العرائس، لكنها كانت مكلفة وبحاجة إلى رأس مال لم تستطع تأمينه، فأسعار ماكينات الخياطة تتراوح بين 500 ألف ومليون و500 ألف ليرة سورية، حسب حالة الماكينة ونوعيتها.
عانت الفتاة التي لم تبلغ الـ20 من آلام الظهر والرقبة مع إصابتها بالرضوض جراء عملها الشاق، الذي تسبب بتعرض بعض الفتيات للكسور، حسبما قالت سهام.
وبحسب الدكتور علوان عويد، اختصاصي الجراحة العامة، فإن عظام المرأة تكون أصغر حجمًا وأقل كثافة من عظام الرجل، كما أن الكتلة العضلية لديها أقل مما هي عليه لدى الرجل، وهذا يجعل جسم المرأة غير ملائم لمزاولة الأعمال الشاقة، حسبما قال لعنب بلدي.
وعندما قررت “الإدارة الذاتية” العام الماضي اعتماد لون واحد لواجهات المحال التجارية في مدينة القامشلي، كان معظم من يقمن بعمليات الدهان هم من النساء، يبدأ عملهن بعد إغلاق السوق وحلول الظلام حتى ساعات الفجر الأولى، حسبما قالت سهام التي شاركت في تلك الورشات، إذ اتفق أصحاب المحال التجارية المتجاورة مع ورشة نسائية لدهن محالهم، دون أن تتدخل “الإدارة” في تحديد الأجرة المستحقة، أو فرض شروط صحية معيّنة على أصحاب المحال، كتأمين الكمامات أو القفازات للعاملات.
دور “محدود” للجمعيات والمنظمات التي تُعنى بشؤون المرأة
لا تعرف سهام شيئًا عن منظمات دعم المرأة الموجودة في المنطقة أو نشاطها، وكل ما كانت تطلبه من المنظمات الدولية أو الجمعيات المحلية هو “تأمين سلة غذائية”، حصلت عليها مرة واحدة فقط خلال العام الماضي.
حاولت بعض الجمعيات الخيرية إيجاد بدائل لعمل النساء في المهن الشاقة، مثل “جمعية البر” التي افتتحت ورشات لتعليم فن الخياطة النسائية، وإنشاء مشغل صغير، تؤمّن له المواد الأولية من الأقمشة والخيطان، لإنتاج الملابس التي يتم بيعها في السوق المحلية أو لمخيمات اللاجئين، ويعود قسم من المبيعات لمصلحة العاملات في الورشة.
لكن تلك الورشات تبقى “غير كافية”، نظرًا إلى قلة النساء المستفيدات، وانقطاع التمويل أكثر من مرة، إذ لا يتجاوز عدد المستفيدات 20 امرأة، حسبما قالت خزنة حسن (25 عامًا)، إحدى المستفيدات من تلك المبادرة، والتي مكنتها من ترك عملها السابق في أحد المطاعم، حيث كانت تعمل في تنظيف الطاولات وجلي الأواني لمدة سبع ساعات يوميًا، مقابل ثلاثة آلاف ليرة سورية في اليوم.
ترى خزنة أن مبادرة ورشات تعليم مهنة الخياطة كانت “جيدة” بالنسبة لها، وهي أفضل من العمل في المطاعم، مشيرة إلى أنه أصبح بإمكانها البدء بعمل خاص في حال توفرت لها ماكينة خاصة.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قالت هناء خليف، وهي موظفة في منظمة “لجنة الإنقاذ الدولية” (IRC)، إن المنظمة قدمت عدة مبادرات لدعم المرأة في المنطقة وتعليمها بعض المهن المناسبة لها، كالخياطة والتطريز والطهو.
وأضافت هناء أن هناك ما لايقل عن مئة فتاة من ريفي القامشلي والقحطانية، حصلن على التدريب المهني، خلال شهري كانون الثاني وشباط الماضيين، أمّنت المنظمة لهن المدربين والمواد الأولية، ودفعت بدل المواصلات والطعام للمتدربات طوال فترة الدورة المهنية، التي استمرت شهرًا تقريبًا، “لكن أعداد الراغبات بالتسجيل دائمًا تكون أكبر من قدرة المنظمة، ما يحد من عدد المستفيدات”.
ومن المبادرات التي نفذتها “لجنة الإنقاذ” أيضًا دعم المشاريع الصغيرة للنساء في الريف، كإنشاء الحديقة المنزلية أو تربية الأبقار.
كما أنشأت “الإدارة الذاتية”، عام 2016، “لجنة الكادحين”، بهدف “حماية حقوق العمال”، وقالت الإدارية في مكتب المرأة ضمن اللجنة بإقليم الجزيرة حميدة فرمان، في تصريح لقناة “روناهي”، في 15 من حزيران 2020، إن أعداد النساء العاملات المسجلات في اللجنة تصل إلى عشرة آلاف امرأة.
وأضافت حميدة أن “المرأة العاملة تلقى صعوبات شتى في العمل الذي تقوم به والذي يعتمد على جهد بدني، على الرغم من البنية الجسدية للمرأة التي تختلف عن بنية الرجل في تحمل مشاق العمل”، مشيرة إلى أن “لجنة الكادحين” تحاول “تنظيم عمل النساء أكثر من السابق وتطويره للأفضل، والدفاع عن حقوقهن المشروعة في العمل، وكذلك العمل على تأمين أعمال أقل جهدًا لهن”.