أسامة آغي
حين تصل المفاوضات إلى طريق مسدود بين مراكز قوى عسكرية، تلجأ هذه القوى إلى الاستمرار بالتفاوض عبر البندقية، هذا ما يجري فعليًا في شمال شرقي سوريا عمومًا، وفي القامشلي خصوصًا، إذ جرت خلال الأسبوع الماضي اشتباكات بأسلحة ثقيلة، بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من جهة، وبين ما تسمى “ميليشيات الدفاع الوطني”، وهي ميليشيا تناصر النظام السوري في هذه المناطق، وتنحدر من عشائر عربية، لا تزال ترتبط بهذا النظام بمصالح مختلفة، وأهداف سياسية معروفة.
الاشتباكات تكشف عن تباينات عميقة، بشأن اتفاق بين الطرفين (النظام وقسد)، فحين التقى الطرفان في دمشق في 13 من شباط الماضي، كان من الواضح أن أجندتي الطرفين لا تزالان متباعدتين، حيث يصرّ النظام على فرض سيادته، وفق منظوره، على كامل شمال شرقي سوريا، دون تقديم أي التزامات لـ”قسد” المتحالفة مع الولايات المتحدة.
“قسد”، وهي الذراع العسكرية لحزب “PYD”، تريد من النظام الاعتراف الصريح بحقها في إقامة ما تُطلق عليه اسم “الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا”، لكن النظام يرفض مثل هذه الشروط، ويطالب “قسد” بالرضوخ لفهمه لإدارة البلاد، وفق أسلوب مركزية الدولة، دون السماح بأي سلطات لا ينصّ عليها دستوره.
توهم النظام بمقدرته على هزيمة “قسد”، تدفعه من حين لآخر إلى محاولة بسط سيطرته الإدارية والعسكرية، دون أن تكون لديه الشروط الكافية لتحقيق هذه السيطرة.
توهم “قسد” بقدرتها على فرض رؤيتها (نظام الإدارة الذاتية) نابع من استقوائها بحليفها الأمريكي الموجود على الأرض في هذه المنطقة، هذا التوهم يقودها إلى التصادم مع مشروع النظام، باستعادة السيطرة على كل الأراضي السورية، دون حسابات بعيدة المدى، تتعلق بتوازن القوى الإقليمية والداخلية، التي لا يمكن حسابها بصورة مجردة.
التوهم المتبادل بين الطرفين، قاد إلى اشتباكات مدينة القامشلي، هذه الاشتباكات لا تقتصر على معارك بين فصيلين عسكريين، بل ستمتد بالضرورة لتشمل حاضنتيهما الشعبيتين (الكرد في الشمال الشرقي من سوريا، وبعض العشائر المناصرة للنظام والمرتبطة به بمصالح متعددة).
الاشتباكات إذا تطورت إلى أبعد من ذلك، فهي ستُحدث موجة نزوح في المنطقة، وستغيّر التركيبة السكانية المتعايشة دائمًا، قبل أن يشنّ النظام السوري حربه على مكونات الشعب السوري بعامته. لهذا يمكن التساؤل، لماذا تمّ اللجوء إلى استخدام أسلحة ثقيلة في معارك القامشلي؟ ولماذا بقي الروس يتفرجون، ويرفضون أن يدفع النظام السوري بتعزيزات عسكرية، من خارج منطقة الاشتباكات، لدعم ميليشياته ذات الانتماء العشائري العربي؟
الروس يريدون أن يسيطر النظام على كل سوريا، ولكنهم لا يستطيعون تحقيق ذلك، بل يتبعون سياسة ابتلاع اللقمة تلو الأخرى من الأراضي الواقعة خارج نفوذ حليفهم الأسد، هذه السياسة، تحتاج إلى زمن طويل، وتغيرات في مواقف الأطراف الدولية المنخرطة في الصراع السوري، وهو أمر بعيد المنال في هذه المرحلة، ولذلك لجؤوا (أي الروس) إلى الدفع بمسرحية انتخابات الرئاسة الهزلية التي يجريها النظام.
إن “قسد” تريد تعزيز أوراق قوتها، من أجل أي انخراط، قد تضطر له، في مفاوضات الحلّ النهائي، ولهذا فهي تستفيد مبدئيًا من المظلة الأمريكية، فتشن معاركها الجزئية، قبل أن تنسحب الولايات المتحدة تدريجيًا من سوريا، إذا ما توفرت شروط حل سياسي نهائي للصراع السوري وفق “2254”.
إن هذه الصراعات الجانبية في شمال شرقي سوريا، ربما تأخذ شكلًا أكثر دموية، في حال بقي الحل السياسي بعيد المنال، وهذا يفترض من كل القوى ذات النفوذ في سوريا، أن تسعى لفرض صيغة إدارية، توحي بالاستقرار الإداري والسياسي المؤقت، في انتظار ظروف دولية تسمح بالتوافق على حل سياسي سوري مستدام.
لهذا تريد “قسد” تعزيز هذه الرؤية، والإيحاء لحاضنتها بأن فرض سيطرتها على كامل منطقة شمال شرقي سوريا هو أمر لمصلحة السكان، لسبب عدم بقاء ازدواجية السلطة في هذه المنطقة.
ولكن، هل تقدر “قسد” على خوض غمار هذه اللعبة الخطرة عسكريًا وديموغرافيًا وسياسيًا؟ وهل لدى النظام أوراق يستطيع من خلالها استعادة سيطرته من جديد على هذه المناطق؟
إن الجواب سهل وبسيط وواضح، فالطرفان عاجزان عن تنفيذ طموحهما العسكري على الأرض، ومثل هذا الطموح يعرف الطرفان أنه مرتبط بتفاهمات دولية غير موجودة الآن، ولذلك ستبقى معاركهما قيد مربعات صغيرة، لا يجرؤ كلاهما على توسيعها، لخطورة نتائجها.
المعارك لها علاقة من جهة أخرى، بمحاولة النظام تمرير انتخابات رئاسته الهزلية في عموم شمال شرقي سوريا، وهذا ما يجعل من هذه الانتخابات مقتصرة على منطقة هيمنته، وسيطرة أجهزة أمنه.
فسلطات الأمر الواقع في شمال شرقي سوريا، هي الأخرى تريد إجراء انتخابات فرعية في المنطقة، لتقول إن ما سينتج عن هذه الانتخابات هو مجالس محلية شرعية، في وقت لا تجري انتخابات كهذه في ظل شروط منافسة واستقرار سياسي.
إن أي خطوة سياسية غير محسوبة من سلطات الأمر الواقع في شمال شرقي سوريا، ربما تقود إلى تدخل قوى أخرى منخرطة بالصراع السوري، ونقصد بذلك الجارة الكبرى لسوريا تركيا، التي لا تريد أي تهديدات قرب حدودها الجنوبية، وهذا يعني وضع مشروع “الإدارة الذاتية على كفّ عفريت”. ولهذا لا ينبغي أن تخرج الاشتباكات عن مربعاتها الصغرى، كي لا تلتهم نار المربعات الكبرى كل اللاعبين في هذا الحيّز السوري.
فهل يحدث ما لا يُعقل في هذه المنطقة؟ وهل يجرّب سكانها الطيبون مرارات النزوح واللجوء؟ ولكن إلى أين؟