نور الدين رمضان | حسام المحمود | سكينة المهدي
بينما كان الطلاب مصطفين في باحة مدرستهم استعدادًا للدخول إلى صفوفهم، أظهر تسجيل مصوّر نشره ناشطون، في 6 من نيسان الحالي، أستاذًا يضربهم بشكل جماعي.
التسجيل المصوّر من خارج المدرسة الواقعة في مدينة إدلب، أثار على مواقع التواصل الاجتماعي موجة من غضب السوريين، وسط تساؤلات عن طريقة التربية التي يتعامل بها المعلمون في شمال غربي سوريا مع أبنائهم الطلاب.
الضرب في المدارس ليس جديدًا على السوريين، فلا يكاد يوجد سوري لم يتعرض للضرب في صغره بالمدارس، خاصة الحكومية منها، ما يطرح تساؤلات حول الأسباب التي تدفع المعلمين لضرب تلاميذهم.
وبينما يربط بعضهم الضرب بأساليب التربية المنزلية، يربطه آخرون بعقلية “حزب البعث” الحاكم في سوريا منذ 50 سنة، المعروفة بقسوتها التي وصلت إلى تعريض طلاب المدارس في السنوات السابقة إلى عقوبات قاسية بشكل منظم.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف ظاهرة الضرب في مدارس شمال غربي سوريا، بين صعوبات التعليم وواقع المعلمين، وآثار ذلك على الطلاب.
وسيلة لتحسين مستوى الطلاب؟
“بدأت المعلمة بضرب أطفالي لتحسين مستواهم العلمي، وفعلًا حدث ذلك. كنا رافضين للضرب في بداية الأمر، لكن بعد هذه النتيجة شددنا على يد المعلمة، وشعرنا بالفخر بتفوقهم الدراسي، وسرعان ما شعرنا بالذنب لأن خوف الطفل هو ما دفعه لمتابعة دراسته بشكل أفضل”.
هذا ما قاله والد الطفل حسن، عبد الإله الشمالي، لعنب بلدي، وهو أب لثلاثة أطفال يدرسون في ابتدائية “الشيخ يوسف” في إدلب.
أضاف الأب، “كان المستوى الدراسي لأطفالي متوسطًا ولم أكن راضيًا عنه، عندما بدأ مستواهم بالتراجع أكثر، اتصلت المدرسة بي وشرحت سوء وضعهم فحثثتها على تأنيبهم، لكنها ضربتهم بهدف تحسين مستواهم التعليمي، ولم أكن بالبداية موافقًا على الضرب لكن عندما أحسست بجدوى الضرب لرفع مستواهم لم أنكره”.
لم يتخذ عبد الإله خطوة قانونية ولم يتقدم بشكوى على المدرسة، وقد لا يكون على دراية بمدى أحقيته بتقديم شكوى ضد المدرسة، كما أنه لم يستنكر بالبداية ضرب المعلمة لأطفاله.
قانونية توجيه عقوبات للطلاب في المدارس
يتضمن الأمر الإداري رقم “961”، تعليمات مقترحة من لجنة الأمر الإداري التي كانت منعقدة بين مديرية التربية في حلب وإدلب، للعناية بقضية التعليمات الناظمة لصون الطفل وإلزام المجمعات التربوية والمدرسين العاملين بقطاع التربية ببنودها.
ويوجد تدرّج في عقوبة الطالب في حال تجاوز مدوّنة السلوك، إذ تبدأ بالتنبيه فالإنذار ثم استدعاء ولي الأمر إذا استدعى الأمر، ولا يحق للمعلم ضرب الطالب مهما كانت الأسباب ومهما استُفز، ويمكنه تحويله إلى المدير أو الداعم النفسي لاتخاذ الإجراء اللازم بحقه، بحسب حديث رئيس دائرة التعليم الأساسي في إدلب، محمود الباشا، لعنب بلدي.
وبحسب الباشا، فالتعليمات الناظمة لقضايا صون الطفل التي أقرتها اللجنة بالأمر الإداري، كانت بين مديرية التربية في إدلب، والمنظمات الشريكة العاملة في قطاع التعليم، وحددت عدة مستويات للخطورة ونوع العقوبة بالنسبة للمدرّس الذي يتجاوز هذه القيود.
في المستوى الأول، يمكن توجيه تنبيه شفوي أو خطي للمدرّس، والمستوى الثاني إنذار خطي، والثالث خصم من الأجر، والمستوى الرابع نقل وإنهاء تكليف، والمستوى الأخير إحالة إلى القضاء، كما أوضح رئيس دائرة التعليم الأساسي في إدلب.
التعنيف الجماعي يستوجب الفصل الفوري
بالعودة إلى مطلع نيسان الحالي، والتسجيل المصوّر للمدرّس في مدرسة “البراعم النموذجية” بمدينة إدلب، الذي يضرب طلابه بواسطة خرطوم مياه، إذ أظهر التسجيل طلابًا مصطفين في باحة المدرسة، يتعرضون للضرب على أيديهم وعلى أجسادهم بشكل جماعي، قال رئيس دائرة التعليم الأساسي في إدلب، محمود الباشا، إن الضرب بالعصا أو بأي أداة إذا أثر على الطالب يستوجب الإنذار الخطي للمعلم، وإذا وصل الضرب إلى الشدة أو الأذى اللفظي بكلمات نابية، والعقوبة الجماعية والتعنيف الجماعي، فإن ذلك يستوجب فصل المعلم فورًا.
والحالة التي حدثت مؤخرًا في مدرسة “البراعم النموذجية” هي من المستوى الرابع، التعنيف والضرب المبرح وعقوبة جماعية وإساءة للطلاب في الباحة، والموقف بحد ذاته استوجب الفصل أكثر من كونه للضرب على مستوى فردي أو غيره، فالموقف حدث أمام الناس وأُدين من الجميع.
وأصدرت مديرية التربية والتعليم في إدلب قرارًا بفصل المدرّس بعد موافقة مدير التربية والتعليم، بسبب مخالفته لقواعد مدوّنة السلوك، بحسب ما نشره “المكتب الإعلامي لمدينة سراقب وريفها” عبر “فيس بوك“.
حاولت عنب بلدي التواصل مع وزارة التربية التابعة لحكومة “الإنقاذ” في إدلب وريفها، للاطلاع على القوانين المنصوص عليها حول تنظيم سلوك المدرّسين بالتعامل مع الطلاب في المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلا أنها لم تتلقَّ ردًا من الوزارة حتى ساعة نشر هذه المادة الصحفية.
وتعتبر مديرية التربية والتعليم في إدلب المنظم الرئيس للعملية التعليمية، وعلى الرغم من وجود حكومة “الإنقاذ”، تنفي المديرية تبعيتها لها أو أي ارتباط بها.
وتعرّف مديرية التربية والتعليم في إدلب نفسها بأنها هيئة مستقلة لا تتبع لأي جهة، وذلك عبر بيان تصدره كل عام للتأكيد على استقلاليتها، حسب حديث سابق لمدير دائرة الإعلام في مديرية تربية إدلب، مصطفى الحاج علي، لعنب بلدي.
منظمات المجتمع المدني.. واجب التوعية
إكرام المصطفى، مديرة مشاريع تعليم في منظمة “بنيان” بإدلب، تحدثت لعنب بلدي عن وجود مبادرات في المنظمات تعنى بتوعية المدرّسين بكيفية التعامل مع الطلاب، من خلال التدريبات التي تقدمها هذه المنظمات وتشمل جميع المعلمين والكوادر التدريسية.
وتقدم منظمة “بنيان” برامج تدريبية للمعلمين حول توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال، ودورات حول كيفية ضبط الطلاب ضمن الصفوف ودمج ذوي الإعاقة مع أقرانهم، بحسب إكرام.
وأضافت إكرام أن المنظمة تقدم حلقات توعية حول الالتزام بمدوّنة السلوك للمعلمين، وتوعيتهم بكل البنود التي تتضمنها، وشرحها وشرح أهمية الالتزام بها، ومنذ عام 2019 أقامت المنظمة 13 برنامجًا تدريبيًا للمدرّسين، وكل المعلمين بحاجة إلى تدريبات كهذه، لكل الأعمار وجميع الاختصاصات.
وأضافت أن شريحة كبيرة من التدريبات متوفرة في المنظمة، أهمها تدريب الدعم النفسي الاجتماعي (PSS) والإسعاف النفسي الأولي والإدارة الصفية وتعديل السلوك، وتقام هذه التدريبات ببداية كل مشروع تدريبي.
وتوجد اجتماعات دورية وورشات دائمة مع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية، واجتماعات وندوات لمناقشة حالات مثل الحادثة الأخيرة والحالات التي تستوجب العقوبة، بحسب رئيس دائرة التعليم الأساسي في إدلب، محمود الباشا.
وقال الباشا، إن المدرّسين خضعوا لدورات دعم نفسي وطرائق التدريس للتعرف إلى طريقة التعامل مع الأطفال في كل الظروف بتنوع البيئات وبحسب أعمار الأطفال، والدورات مستمرة يقوم بها الداعم النفسي الموجود في المدرسة.
لماذا يَضرب المعلم؟
تربية منزلية أم عقلية “البعث”؟
بالعودة عشر سنوات إلى الخلف، يبدأ نهار الطالب السوري في السابعة والنصف صباحًا واقفًا في طابور من زملائه، يُحيي العلَم ويردد بشكل ببغائي قيم “البعث”، التي يسعى الحزب الحاكم من خلالها إلى زرع أفكاره في عقول الطلاب.
في مدارس تفتقر للمختبرات العلمية ولأساليب الرعاية وتكتظ بصور الأسدَين (حافظ الأسد وابنه بشار الأسد)، يتعرض الطلاب للضرب بذرائع كثيرة، كالتأديب وحفظ النظام والانضباط، وإجبار الطلاب على الدراسة والالتزام بالوظائف والواجبات.
لكن بعد سنوات من خروج مناطق جغرافية واسعة، بمدارسها وكوادرها التعليمية، عن سيطرة النظام، لا بد من التساؤل عن أسباب استمرار ظاهرة الضرب في المدارس، طالما أنه إحدى آليات النظام في التعامل، التي انتفض عليها السوريون في ثورتهم.
مشرف مجمع حماة التربوي في شمال غربي سوريا، خالد الفارس، يرى أن حالات الضرب ضمن المدارس ليست ظاهرة، ولا تعدو كونها حالات فردية خاصة لا تذكر، وتُعالَج بشكل فوري.
وأضاف الفارس، في حديث إلى عنب بلدي، أن المجتمع يسهم في تكريس ظاهرة الضرب في المدارس، مستشهدًا بما يقوله بعض الآباء للمعلّمين حول طريقة التعامل مع أبنائهم الطلاب: “اللحم إلك والعظم إلنا”.
وأوضح أن الموجهين التربويين يزورون المدارس بشكل دوري لتفقد مجريات سير العملية التعليمية، بما فيها ما إذا كان الطلاب يتعرضون للضرب.
وفي حال ثبت تعرض الطالب للضرب، يُحال المعلم إلى لجنة الرقابة الداخلية في كل مديرية، وتُتخذ بحقه الإجراءات القانونية، بحسب المشرف، مؤكدًا رفض الضرب والعنف بكل أشكاله، وضرورة تنشئة الطلاب بشكل أخلاقي وحضاري.
الواقع التعليمي عامل مساعد
منذ بداية عام 2020، انقطع الدعم عن المدرّسين في محافظة إدلب، نتيجة إيقاف دعم الاتحاد الأوروبي، واقتصاره على الحلقة الأولى، بينما كان يحوله عبر منظمة “مناهل” للحلقة الثانية والمرحلة الثانوية أيضًا، حسبما قال مدير دائرة التعليم الأساسي في مديرية التربية والتعليم في إدلب، محمود الباشا، لعنب بلدي.
وكان لانقطاع الدعم آثار على المعلمين، وصلت بعضها إلى لعب دور في ممارسة بعضهم العنف، بحسب ما أشار إليه الطبيب النفسي وائل الراس، في حديث إلى عنب بلدي، إذ قد يلجأ بعض المعلمين للضرب بسبب الضغوط المادية والاجتماعية التي تلعب دورًا في ردود الفعل العنيفة عند البالغين عمومًا، وقد يكون هذا العنف مدرسيًا من المعلمين أو أسريًا من الآباء.
وفسر الطبيب النفسي سلوك الضرب عند المعلم بعدة نقاط، منها ما هو مبني على ثقافة أن الضرب أحد الحلول في التعليم، ورغم وجود الدورات التي تنظمها مؤسسات إدارة التعليم، ما زالت ظاهرة ضرب الأطفال موجودة في بعض المجتمعات ومنها المجتمع السوري.
ومن النقاط أيضًا، بحسب الراس، أن المعلم فقد السيطرة، ولا يملك آلية لإدارة الصف، ويلجأ إلى العنف لفرض شخصيته الإدارية، ومن الأسباب التي تدفع المعلم للضرب أيضًا عدم تحمله لاستفزازات بعض الطلاب، كما قد تكون الأسباب مجتمعية أخرى.
ويواجه الأطفال في شمال غربي سوريا ظروفًا قاسية تتراوح بين الفقر والنزوح ونقص الاحتياجات، أمام دعم إغاثي خجول يسعى لسد الرمق، بالإضافة إلى انخفاض الدعم المقدم لسير العملية التعليمية في الشمال.
وتراجع أيضًا تصنيف التعليم كأولوية أمام بروز حاجات ملحّة، كتأمين مخيمات ومساعدات غذائية ودوائية ولقاحات في ظل تفشي فيروس “كورونا المستجد”(كوفيد- 19).
وتضم سوريا أعدادًا متزايدة من الأطفال غير المسجلين في المدارس، ما قد يضعهم أمام مصاعب في التسجيل والتكيف في التعليم الرسمي مع كبر سنهم، وبالتالي التأثير على تطورهم وفرصهم طويلة الأمد في الحياة العملية.
وبحسب تقرير أصدرته “يونيسف” عام 2018، فإن ما يقارب ثلث الأطفال المسجلين في المدارس يتسربون منها قبل إنهاء مرحلة التعليم الأساسي.
ولأن مثل هذه الظروف لا تمر دون أن تترك أثرها، فإن 13% من الأطفال النازحين في سوريا بحاجة إلى دعم نفسي اجتماعي متخصص في الفصل الدراسي، وفقًا لدراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
وتؤكد الدراسة أن التعرف إلى صدمات الأطفال النفسية ومعالجتها أمر معقد يتطلب تخصصًا من قبل المدرّسين.
ووفقًا لهذه المعطيات، فإن العملية التعليمية في شمال غربي سوريا تتراجع في الوقت الذي تتنامى فيه الحاجة إليها، إذ تكمن أهمية البرامج التعليمية في أوقات “الحروب وأزمات النزاعات المسلحة”، بحسب “يونسكو“، في السماح للأطفال بالتعبير عن مخاوفهم الذاتية وهواجسهم، والتخلص من المشاعر المؤلمة المكبوتة، وبناء آمال جديدة للمستقبل.
وفي تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا) في كانون الثاني 2020، تبيّن أن الأمم المتحدة لم تتلقَّ أكثر من 18% من التمويل المطلوب لقطاع التعليم، الذي يحتاج إلى نحو تسعة ملايين دولار.
وأوقف الاتحاد الأوروبي منذ مطلع 2020 دعمه المقدّم عبر منظمة “كومينكس” إلى مديرية التربية في إدلب، الذي كان يغطي 65% من رواتب المعلمين، ما دفع ببعضهم للاتجاه نحو ممارسة مهن أخرى لتأمين احتياجاتهم ومصاريف عائلاتهم، الأمر الذي زاد من نقص الكادر التعليمي.
وأسهم النقص إلى حد كبير في حرمان الأطفال من حقهم في التعليم، وفقًا لدراسة قدّمتها مبادرة “REACH“، إذ افتقدت نحو 50% من المناطق المشمولة بالدراسة للطاقم المؤهل الكافي.
المنزل و”الواقعية الأخلاقية”
الطبيب النفسي الحاصل على دكتوراه في علم النفس التربوي عامر الغضبان، أكد أن هناك ارتباطًا بين تعرض الطفل للضرب في المدرسة، وتعرضه للضرب في المنزل أيضًا، فإذا كانت ثقافة الأسرة تتقبل الضرب كوسيلة تُستخدم بين الكبار، يتقبله الطفل، وقد يؤثر ذلك على فهمه للحياة ككل، فيعتبر الأمر طبيعيًا، طالما أن السلطة أيضًا تضرب المواطن.
وفي حديث إلى عنب بلدي، قال الطبيب عامر الغضبان، إن تعرض الطفل للعنف بشكل متكرر سيحرمه من تدريب مشاعره الإيجابية، ويقوي فيه التأثيرات المرضية غير السويّة، ويخلق العداوات، ما يضعه أمام احتمال تربية أطفاله بنفس الطريقة.
ويختلف تأثير الضرب بين طالب وآخر، وفيما إذا كان الطالب مخطئًا أم لا، لا سيما في الأعمار الصغيرة، وهنا يكون الأثر كبيرًا إذا شعر الطفل بالظلم، أما إذا كان مخطئًا، فرغم شعوره بالحزن بسبب التعنيف، قد يشعر أنه يستحق العقوبة، وفقًا لنظرية عالم النفس السويسري جان بياجيه في التطور الأخلاقي، التي ينظر خلالها الأطفال الأصغر سنًا جزئيًا إلى القواعد باعتبارها غير مرنة ولا تتغير.
وبحسب النظرية نفسها، فإن الطفل يعتبر العقوبة السلبية بمثابة استجابة تلقائية لخرقه القواعد، وهو ما يطلق عليه بياجيه مصطلح “الواقعية الأخلاقية”.
ويشير الغضبان إلى ميل الطفل لتحمل الظلم والاضطهاد ليس فقط من المعلم، بل ومن الطلاب أيضًا، حين يشعر أن المعلم نفسه ظالم، ما يعني أن السلطة ظالمة، فلا يستعين بالمعلم أو الإدارة ضمن جو غير آمن.
ودعا الغضبان إلى تمسك الطالب بحقه في حال تعرضه للأذى، دون الوصول إلى العنف، كما لفت إلى ضرورة تعزيز دور المرشد الاجتماعي في المدارس، خاصة تلك التي تتكرر فيها حوادث الضرب، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنه لا يمكن بناء منهج علمي أو برنامج تربوي، أو تحقيق أي أهداف علمية وتعليمية عبر اللجوء للضرب.
وترى الاختصاصية النفسية فاطمة أسعد الأسعد، في حديث إلى عنب بلدي، أن أحد أسباب تكريس العنف في المجتمع، القبول بالتعرض للعنف في المدارس باعتباره أمرًا طبيعيًا، مرجعة أسباب هذا العنف إلى افتقار المعلم لأساليب التعليم التربوي السليم فيما يواجهه من مواقف ومشكلات خلال العملية التعليمية.
وبحسب دراسة صادرة عن جامعة “ميشغن” الأمريكية عام 2018، فالعقاب البدني يتسبب في “الإجهاد السام” عند الطفل، ما قد يؤثر في بنية دماغه في أثناء الطفولة المبكرة، بالإضافة إلى احتمالية تأثيره بشكل سلبي على قدرته المعرفية واللغوية، ونموه الاجتماعي والعاطفي، وصحته العقلية.
القانون السوري لا يمانع
وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل الصادرة عام 2007، تصف الأمم المتحدة الضرب وكل أشكال العنف الجسدي والعقلي بأنها انتهاك لحقوق الطفل، بحسب المادة “19” من الاتفاقية، التي تشير المادة “28” منها إلى ضرورة اتساق الانضباط المدرسي مع “الكرامة الإنسانية” للأطفال.
ويحظر القانون في 128 دولة العقوبة الجسدية، في حين لا توجد مادة في قانون العقوبات السوري تحمي الطفل من التعنيف باعتباره من الفئات المستضعفة في المجتمع، وفقًا لما قاله المحامي السوري عبدو عبد الغفور لعنب بلدي، وأشار إلى مادة واحدة في قانون العقوبات السوري، تحمل رقم “185”، وتسمح للأهل وللمعلمين بضرب الأطفال بذريعة “ضرب التأديب”، و”على نحو ما يبيحه العرف العام”.
ولم يحدد القانون على اتساعه تعريفًا واضحًا للعرف العام، الذي بموجبه قد يتعرض الطفل للضرب والتعنيف في المدرسة، بل ترك الأمر مرهونًا باتساع المصطلح.
ما تأثير الضرب على الطفل؟
الطبيب النفسي وائل الراس، قسّم آثار الضرب على الطفل إلى عدة أقسام، منها آثار مباشرة كأي اعتداء فيزيائي على الطفل، يؤثر على سلوكياته وأدائه وتعامله مع الأطفال المحيطين به، وتظهر على شكل عصبية زائدة أو صعوبات بالتعلم والاستيعاب، أو اعتداء الطفل على المحيطين أو انزواء، أو امتناعه عن الكلام بسبب عدم رغبته بالتواصل مع من حوله.
ومنها آثار متوسطة تظهر عن طريق تراجع التحصيل الدراسي، وبناء العلاقات، وإذ كان الطفل في مرحلة مبكرة يتعرض للعنف قد يؤثر ذلك على فترة مراهقته لاحقًا، ويتسبب له بالانطواء.
وعلى المدى البعيد، يؤثر العنف على نمط شخصية الطفل، وبعض اضطرابات الشخصية، وفي حالات أكثر كالاعتداء الجنسي تصبح هذه الاضطرابات صعبة المعالجة، وقد تؤثر على أدائه المهني، وقد يصل إلى إدمان المواد المخدرة أو شخصية تؤذي المجتمع أو تؤذي نفسها.
وتؤكد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) أن العنف في البيئات التعليمية واقع يومي يحرم ملايين الأطفال والشباب من حق الإنسان الأساسي في التعليم.
وتستند “يونسكو” في أحد تقديرات منظمة “بلان إنترناشيونال” إلى أن 246 مليون طفل ومراهق يتعرضون للعنف في المدارس وحولها كل عام.
وترى المنظمة الدولية أن المدارس غير الآمنة تنتهك الحق في التعليم على النحو المنصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وتخالف اتفاقية مناهضة التمييز في التعليم، التي تهدف إلى القضاء على التمييز وتشجيع اعتماد تدابير تضمن تكافؤ الفرص والمعاملة.
كيف أتعامل مع طفلي عند تعرضه للضرب؟
خطوات عدة يشرحها الطبيب النفسي وائل الراس، وينصح بها الأهالي لتخفيف الآثار المترتبة على تعرض طفلهم للعنف في المدرسة، منها محاولة تعزيز الثقة بالنفس والتحدث مباشرة مع إدارة المدرسة، وإبعاد المعلم عن الطالب.
وتشمل أيضًا العمل على تقوية ثقة الطفل بنفسه، ويكون ذلك عبر زيادة لعبه بالألعاب التي يحبها، وتشجيعه على الإنجاز، ومحاولة دمجه مع الأطفال، لأن الطفل في هذه المرحلة يستطيع ترميم نفسه.
التفسير السوسيولوجي للعنف الممارَس في مدارس الشمال السوري
طلال مصطفى
أستاذ علم الاجتماع في جامعة “دمشق” سابقًا، وباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”
يمثل العنف جانبًا رئيسًا من معاناة السوريين في الشمال السوري بشكل عام وفي المدارس التعليمية بشكل خاص، ويمكن مشاهدة آثاره بأشكال مختلفة في شتى أنحاء المدن والبلدات، إذ يشاهد العديد من سلوكيات العنف الموجه نحو الذات أو بين الأشخاص أو من جراء العنف الجماعي، إذ بلغ العنف في المؤسسات التعليمية أقصاه.
تطالعنا أخبار الطلاب والمعلمين يوميًا بأحداث العنف التي تعرفها مؤسساتنا التعليمية، وهذا يبيّن أن تلك الهالة والقدسية التي كانت للمؤسسة التعليمية ولطاقمها التعليمي قد سقطت وزالت، كما يبيّن أن معظم الطلاب العدوانيين في المؤسسات التعليمية من الذين يجدون صعوبة في التكيف مع الوسط المدرسي، وما يؤدي إليه من اضطراب في السلوك والأفعال، وعلى الرغم من أن المدرسة مكان يفترض أن يكون معدًا لتقليل التأثيرات السلبية للعنف في المجالات الاجتماعية، فإنها قد تصبح مصدر عنف بنفسها يتضمن شتى أنواع العنف.
يؤدي هذا السلوك العنيف داخل المدارس إلى الفوضى والارتباك والتوتر الانفعالي داخل المدارس، وينعكس أثره على كل من الطلاب والمعلمين، حيث ينخفض أداء المعلم من جهة، كما تنخفض قدرة الطلاب على التحصيل الدراسي من جهة ثانية.
وهنا تحضر أهمية البحث عن العنف المدرسي من المؤسسات التي تشرف على العملية التعليمية، كون المدرسة هي ثاني مؤسسات التنشئة الاجتماعية بعد الأسرة، وتقع على عاتقها مسؤولية كبيرة إلى جانب الأسرة في تنشئة الفرد تنشئة اجتماعية سليمة، و تأتي أهمية البحث أيضًا في السلوكيات العنيفة من المدرّسين، باعتبارهم الأقرب إلى نفوس الطلاب في التعرّف إلى مشكلاتهم الاجتماعية عن كثب، من خلال تصميم البرامج الإرشادية الاجتماعية والنفسية الخاصة بالحد من ظاهرة العنف المدرسي وتطبيقها في المدارس السورية كافة في الشمال.
وللبحث عن أسباب بروز ظاهرة العنف المدرسي في الشمال السوري علميًا، لا بد من تتبع النتاج العلمي الاجتماعي النفسي والتربوي بمجال البحث في موضوع العنف المدرسي، حيث تلاحَظ وفرة في النظريات التي تناولت موضوع العنف المدرسي، ومن أهمها النظرية البنائية الوظيفية التي ترى أنه لا يمكن أن يظهر العنف إلا داخل سياقه الاجتماعي، فهو إما أن يكون نتاجًا لفقدان الارتباط بالجماعات الاجتماعية التي تنظم السلوك وتوجهه، وإما هو نتيجة لفقدان المعايير والضبط الاجتماعي الصحيح، وعليه ينجرف الأفراد إلى العنف.
ويرجع فرويد، مؤسس نظرية التحليل النفسي، سلوك العنف إما لعجز “الأنا” عن تكييف النزعات الفطرية الغريزية مع مطالب المجتمع وقيمه ومثله ومعاييره، وإما لعجز الذات عن عملية التسامي أو الإعلاء خلال استبدال النزعات العدوانية والبدائية والشهوانية بالأنشطة المقبولة خلقيًا وروحانيًا ودينيًا واجتماعيًا، كما تكون “الأنا الأعلى” عنده “ضعيفة”، وفي هذه الحالة تنطلق الشهوات والميول الغريزية من عقالها، فتتلمس الإشباع عن طريق سلوك العنف والإجرام.
بالمقابل، هناك من يرى أن السلوك العنفي ناتج عن شعور ذاتي يمر به الفرد عندما يواجه عائقًا ما يحول دون تحقيق هدف مرغوب فيه أو نتيجة يتطلع إليها، والإحباط يؤدي إلى الغضب، ومن ثم يؤدي في الغالب إلى العدوان.
نخلص من هذه التفسيرات المتعددة إلى صعوبة تحديد عامل واحد وراء العنف في مدارس الشمال السوري في ظل النزاعات العسكرية وغياب المؤسسات المختصة.
ولكن يمكن تقديم بعض المقترحات للمؤسسات الفاعلة في المجال التعليمي للحد من آثار العنف:
-1الاهتمام الكبير بعملية تصميم البرامج التربوية والنفسية والاجتماعية الإرشادية للطلاب، والتوعية بمخاطر وأضرار العنف داخل المدارس، والمهمة هذه يجب أن يتولاها باهتمام خاص المتخصصون بالإرشاد الاجتماعي والنفسي.
2 -تشجيع الطلاب على إقامة الأنشطة الاجتماعية والرياضية والمسابقات الثقافية فيما بينهم، لتفريغ طاقاتهم بأعمال ذات فائدة للجسم الطلابي والمدرسة.
3 – غرس قيم الزمالة والأخوة والصداقة بين الطلاب في المدرسة، وإشعارهم بالمسؤولية على الصعيد الاجتماعي والوطني بشكل عام.