عنب بلدي – لؤي رحيباني
“إذا كانت تفصلني عنها مسافة، فالراحة المادية في القطب الشمالي وأنا في القطب الجنوبي”، هكذا عبرت راوية المقيمة في مدينة عين ترما بغوطة دمشق الشرقية عن معاناتها والحالة الاقتصادية السيئة التي وصلت إليها.
عائلة هذه السيدة (31 عامًا) المكونة من أربعة أشخاص (والدتها وأختاها)، تلقي بحملها المادي الثقيل على راوية، التي تعمل محاسبة في أحد محال الألبسة بالعاصمة دمشق، حيث تجني معاشًا لا يكفي لإسكات صوت الجوع في معدة أسرتها.
ربما كانت حياة راوية أخف وطأة لو بقي أبوها وإخوتها بجانبها، ولكن معتقلات النظام السوري غيّبت أخويها اللذين قُتلا تحت التعذيب، وخطفت نيران النظام التي استهدفت الغوطة الشرقية عام 2018 روح أخيها الصغير، بينما فر أبوها من الاعتقال إلى لبنان.
وبحسب موقع العملات “الليرة اليوم”، يبلغ سعر صرف الدولار في دمشق 3500 ليرة سورية.
عادات غيّر الفقر ملامحها
عادات يومية كثيرة شُطبت من حياة راوية وأسرتها في هذه الأيام العصيبة، فضيق الحالة المادية جعل أبعد نزهاتهم لا تعدو شرفة المنزل، التي طالتها نيران الحرب ودمرت قسمًا منها أيضًا.
وبحسب ما روته الشابة لعنب بلدي، فإن معاشها ينتهي في الأيام الثلاثة الأولى، لذا تعيش وأسرتها على الزعتر جافًا بلا زيت، وعلى البرغل، فالأصناف الغذائية الأخرى صارت طي النسيان بالنسبة لها.
ولم تكن فكرة السفر من سوريا واردة لدى عائلة راوية، ربما بسبب الحصار الذي كان مفروضًا على الغوطة حتى عام 2018، الذي جعل الفكرة “مستحيلة ومنسية” عمليًا، ولكن الآن تتمنى فرصة للخروج من سوريا والبدء بصفحة جديدة.
تجديف في محيط هائج
إلى مدينة حمص التي تزداد فيها المعاناة أيضًا، حيث يعيش سامر وأسرته المؤلفة من سبعة أفراد، والذي يصرف على منزله مع ابنه الأكبر لسد رمقهم.
ومع انهيار الليرة السورية وقفز الأسعار إلى حدود غير منطقية، هبط المستوى المعيشي لعائلة سامر (54 عامًا) بشكل كبير، فعمله ممرضًا في مستوصف وعمل ابنه في معمل المعادن لا يؤمّنان حياة لا حرمان فيها، وفق ما أوضحه لعنب بلدي.
عرق جبين العاملين في هذه الأسرة بالكاد يؤمّن حاجيات المنزل الأساسية، من تدفئة وخبز ومؤن أساسية، كالسكر والأرز والزيت والسمن والخضار.
“في وجبة الفطور خفضنا كمية استهلاك البيض من 60 بيضة في الشهر إلى 15 تقريبًا”، قال سامر لعنب بلدي، وأشار إلى أن العائلة صارت تعتمد في طعامها على الزيت والزعتر والزيتون و”المكدوس”، مع إيقاف استهلاك الألبان ومشتقاتها بشكل نهائي.
وفي وجبة الغداء، استغنت العائلة عن اللحم الأحمر، والمال الذي كان يصرف على اللحوم تخصصه الأسرة اليوم لشراء الزيت والخضار.
الآن أصبح الدجاج يعد من أفخم الأصناف على مائدة سامر، إذ صار بديلًا أساسيًا عن لحم الغنم، وأشار إلى ازدياد الاعتماد على الخضار الموسمية، مثل الفول والسبانخ والسلق والملفوف، على حساب البطاطا التي ارتفع سعرها أيضًا.
وعلى الرغم من امتلاك رب الأسرة دراجة نارية، فإنها أصبحت تلبيهم للمهام الضرورية فقط، نظرًا إلى غلاء أسعار الوقود.
أما فيما يخص الملابس، فصارت عائلة سامر تعتمد على المستعمل المعروف بألبسة “البالة”، كما أصبح جميع أفرادها حريصين على ألا تتمزق ثيابهم أو تهترئ.
تفكك عائلي
زيارات الأقارب والأصدقاء صارت تؤخذ في الحسبان، إذ قال سامر، “خففنا زيارة الأقارب والمعارف كرمال تخف الزيارات لعنا”، في إشارة منه إلى ضرورة تقنين التكاليف الناتجة عن هذه الزيارات.
وأوضح أن موضوع “النقوط (مبلغ يقدم في المناسبات كهدية) في مجتمعنا دين ووفا، وما حدا بيقدر يخلي عليه”، وهو ما جعل “حضور الحفلات مقتصرًا على المقربين فقط، ومن ندين لهم برد النقوط”، وفق تعبيره.
حائرون بلا طعام في حلب
طارق من حي سيف الدولة في حلب، يعمل خياط ألبسة وهو رب أسرة قوامها خمسة أبناء وزوجة، وحالته ليست أفضل من سابقيه، ففضلًا عن مسؤوليته في إمداد منزله بأساسيات الحياة، يتكبد تكاليف ثلاثة من أبنائه في المدرسة، مشيرًا إلى أن مصروفهم تضاعف بسبب الغلاء، وأن ما يجنيه من عمله لا يكفي.
صار تأمين الطعام مسببًا للحيرة بالنسبة لهذه الأسرة، فما يتوفر لهذه العائلة من طعام مرهون بالمساعدات الغذائية التي يحرصون على ألا تنفد طوال الشهر.
الفقر المدقع دفع طارق مكرهًا للاستدانة من “البقالية” والمحال المجاورة له بشكل روتيني في كل شهر، وقال، “الأوضاع خلال هذه الفترة صارت سيئة جدًا ولكن نحمد الله، ليس بيدنا حيلة سوى انتظار الفرج”.
نزهات أسرة طارق تقلصت إلى نزهة واحدة أو اثنتين طوال الشهر، ووجهتهم في أحسن الأحوال هي الحديقة القريبة من مسكنهم، حيث يأخذون الشاي ونوعًا رخيصًا من المكسرات (البزر).
ولم يكن طارق يخطط للبقاء على هذه الحال في سوريا، إذ كانت أنظاره تتجه إلى تركيا، لكن حالته المادية حالت دون عبوره للحدود، إذ تزيد تكلفة العبور إليها على ألفي دولار.
الطعام للأثرياء
في 30 من آذار الماضي، قال مدير المسالخ في “السورية للتجارة”، مجدي البشير، لصحيفة “الوطن” المحلية، إن استهلاك اللحوم تراجع منذ ما قبل عام 2010 من تسعة كيلوغرامات للفرد إلى كيلوغرامين سنويًا، موضحًا أن الأسعار ارتفعت 20 ضعفًا خلال السنوات الماضية.
ويبلغ كيلو لحم الغنم الهبرة في الأسواق 28 ألف ليرة، ولحم الغنم 20% دهنة 22 ألف ليرة، بينما يباع لحم العجل بـ22 ألف ليرة سورية.
وكان رئيس “جمعية اللحامين في دمشق وريفها”، أدمون قطيش، قال، في 8 من آذار الماضي، إن 15% من محال بيع اللحوم أُغلقت لتراجع الطلب عليها، محذرًا من أن الثروة الحيوانية في سوريا “مهددة بالانقراض”.
وأوضح قطيش في لقاء مع إذاعة “شام إف إم” المحلية حينها، أن 40% هي نسبة شراء اللحوم بسبب الغلاء، وتقتصر على ميسوري الحال، عازيًا السبب الرئيس خلف ذلك إلى تهريب المواشي صوب “لبنان وشمالي سوريا”.
ويعاني 12.4 مليون شخص في سوريا، أي حوالي 60% من السكان، من انعدام الأمن الغذائي، في “أسوأ” حالة أمن غذائي شهدتها سوريا على الإطلاق، بحسب تقرير لبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، في 11 من شباط الماضي.
وذكر برنامج الأغذية أن التدهور الملحوظ هو في المقام الأول نتيجة النزاع الذي طال أمده، والنزوح الجماعي للسكان الذي أدى إلى تآكل سبل العيش والقدرة على الصمود، بالإضافة إلى أزمة اقتصادية منذ عام 2019.
شارك في إعداد التقرير مراسل حمص عروة المنذر ومراسل حلب مالك العمر