عنب بلدي – أمل رنتيسي
“أبيع قطعة من الأرض لأضع أولادي بمدارس خاصة، فأعداد الطلاب في المدارس الحكومية كبيرة جدًا، وأجواؤها غير محتملة، والكوادر التدريسية ناقصة دائمًا”.
بهذه الكلمات تنقل معلمة في منطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق (تحفظت على ذكر اسمها لأسباب أمنية) قول الأهالي المُنتقدين للمدارس الحكومية في مناطق حكومة النظام السوري.
وتتابع المُعلمة، “تصل أعداد الطلاب في الصف الواحد إلى 60 طالبًا، ويجلس في المقعد الواحد ثلاثة طلاب، عدا أن الأوضاع الصحية الآن سيئة جدًا ولا تحتمل 60 نفسًا في غرفة واحدة”.
وأشارت المُعلمة، في حديثها إلى عنب بلدي، إلى أن للمدرسة الواحدة موجهًا واحدًا، وتقع على عاتقه، مع مدير المدرسة، مسؤوليات كثيرة، وكذلك يوجد نقص في المُستخدَمين (الأذنة)، ما يجعل الأوضاع في المدارس الحكومية صعبة.
“من الرفاهية” وجود كمبيوترات أو خرائط تفاعلية لحصص الجغرافيا أو مجسمات لحصص العلوم أو مخبر كيمياء، بحسب المعلمة، “فهذا الأمر مستحيل في المدارس العامة”.
مدارس دمشق.. المدينة والريف يتشابهان
تعاني المدارس الحكومية سواء في الريف أو في المدينة من نقص في الإمكانيات والأدوات التعليمية والكوادر التدريسية والاكتظاظ الكبير في الأعداد، ما يجعل بعض الأهالي يتوجهون إلى المدارس الخصوصية، رغم ارتفاع أقساطها التي تصل إلى مليوني ليرة سورية تقريبًا في السنة الواحدة.
إلّا أن الإعلام المقرب من الحكومة يُصدّر العكس بقوله، إن الصفوف تضم 30 طالبًا، إذ صرح مدير تربية دمشق، سلمان يونس، لإذاعة “ميلودي إف إم“، في 28 من آذار الماضي، أن المدارس العامة ليست أقل كفاءة من الخاصة، والأوائل كل عام منها، وأحيانًا تكون الدروس الخصوصية نوعًا من “البريستيج” ليس لها داعٍ، وهي ثقافة مجتمعية غير صحية.
وقال، “كأب، أجد أن المدارس العامة لا تقل كفاءة عن الخاصة، وعندما أريد تقدمة رفاهية لطفلي فهذا حتمًا مدفوع”.
ورصدت عنب بلدي أوضاع المدارس الحكومية، إذ قالت مُعلمة أخرى في ثانوية حكومية في حي الميدان بالعاصمة دمشق (تحفظت على ذكر اسمها لأسباب أمنية) لعنب بلدي، إن المشكلات ذاتها التي ذُكرت في منطقة الغوطة الشرقية تواجه المدرسة التي تعمل فيها، كالأعداد الكبيرة التي تصل إلى 40 أو 50 طالبًا أحيانًا، ما يؤثر على طريقة إعطاء الدروس وعلى الهدوء في الصفوف، وتدهور النظافة في المدرسة لنقص المستخدَمين.
وكذلك عدم توفر أساتذة للمواد خلال السنة الدراسية، إذ من الممكن أن يمضي شهر وأكثر على الطلاب من دوت أستاذ للمادة.
وأوضحت أيضًا أن الطلاب يعانون أصلًا من مشكلات معيشية، كانقطاع الكهرباء المستمر أو اضطرارهم للسكن مع عائلات أخرى بسبب ظروف التهجير، الأمر الذي لا يترك مجالًا للطلاب للدراسة ومتابعة دروسهم.
“هذه الظروف لا تؤثر فقط على الطلاب، بل حتى المُدرسين أصبحوا يأتون مجبرين إلى المدرسة”، بحسب المعلمة، فـ”أغلبهم يفضلون المعاهد والدروس الخاصة، أما المدارس فهي آخر اهتماماتهم”.
ويتقاضى المُعلم الجديد في المدارس الحكومية 45 ألف ليرة سوريّة، ما يعادل 12 دولارًا أمريكيًا، “الأمر الذي يجعل الدافع للتدريس أقل بكثير”، حسب المُعلمة.
حمص.. استغلال المدارس الخاصة للأهالي
في حمص، تواصلت عنب بلدي مع أم سجلت أولادها في مدرسة خاصة، وقالت الأم (تحفظت على ذكر اسمها لأسباب أمنية)، إنها وضعت أولادها في مدرسة خاصة لعدّة أسباب، كعدم وجود أي مدرسة حكومية جيدة، وعدم اهتمام المدرّسات في المدارس الحكومية بالطلاب، معبرة عن ذلك: “ما بيعطو من قلبن، بيعطو الدرس وبيمشو”.
لكن الأم أشارت إلى أن المدارس الخاصة تستغل أحيانًا الأهالي ماديًا، وضربت مثالًا بالمدرسة التي سجلت أولادها فيها قائلة، “المدرسة تريد ثمن سترة 20 ألفًا، وأنا لم أرد شراءها، وأحيانًا أخرى يفرضون شراء الحقائب بأسعار عالية من المدرسة حصرًا ويبلغ سعرها 60 ألفًا”.
حلب.. طلاب عانوا من قسوة الشتاء
في محافظة حلب، قضى الطلاب في المدارس شتاء صعبًا من دون تدفئة مع شح مادة المازوت، وأوضح مراسل عنب بلدي في المنطقة أن المحروقات إذا توفرت فهي لمكتب المدير أو لغرفة استراحة المعلمين.
ورغم المطالب المستمرة من أهالي الطلاب بإصلاح النوافذ وتركيب زجاج، كانت الاستجابة خجولة دون أي ترميم أو صيانة.
محمود، وهو والد لطالبين في مدرسة “أدهم مصطفى” بحي “الإذاعة”، قال لعنب بلدي، “أمضى أبنائي هذا العام الدراسي وهم مرضى، بسبب عدم وجود تدفئة في الصفوف، بالإضافة إلى الاكتظاظ الكبير في الصف الواحد، إذ يوضع 55 طالبًا وأحيانًا 65 طالبًا ضمن الصف”.
وحول إمكانية الدروس الخصوصية، قال محمود، “لم يكن بإمكاني تعليم أبنائي من قِبل أساتذة خصوصيين، لأن الساعة الواحد للأستاذ الخصوصي أصبحت ثمانية آلاف ليرة سورية للطالبين أو الطالب، وطبيعة عملي لا تساعدني على تحمل هذه النفقات”.
المنطقة الجنوبية.. أهالٍ يرممون
في درعا، دُمرت المدارس خلال سنوات الحرب، ما دفع الأهالي إلى ترميمها على حسابهم الشخصي، وذلك من أجل استيعاب مدارس البلدة جميع الطلاب، ولضمان عدم إضاعة فرصة التعليم عليهم.
محمد دياب (45 عامًا)، وهو مدرّس في درعا، قال لعنب بلدي، إن المدارس تشهد ضغطًا طلابيًا في العام الدراسي، وقد يصل عدد الطلاب إلى أكثر من 30 طالبًا داخل القاعة، ما يسبب إرهاقًا للمعلم في إيصال الفكرة إلى جميع الطلاب.
ويعود سبب الضغط الطلابي، بحسب المدرّس، لسببين، الأول خروج بعض المدارس عن الخدمة، ما شكّل ضغطًا طلابيًا على المدارس المؤهلة للتدريس، والسبب الثاني هو عدم وجود مدارس تتناسب مع الزيادة السكانية.
ونتيجة فصل عدد كبير من المعلمين قبل اتفاقات “التسوية”، جرى الاعتماد على المعلمين الوكلاء، وهم إما طلاب جامعيون أو خريجون جدد تنقصهم الخبرة التدريسية.
حالة غير مسبوقة.. ما الحلول؟
المنسق العام لمشاريع “المدرسة الرقمية السورية” في غازي عينتاب، عبد الله زنجير، تحدث إلى عنب بلدي عن حالة غير مسبوقة من التراجع والتخبط التعليمي، ومعظم الناس لا يمتلكون القدرة المادية للإتيان بمدرّسين خصوصيين أو تسجيلهم في مدارس خاصة.
ووصف زنجير الأجيال الجديدة في مناطق سيطرة النظام السوري، بأنها “أشبه بركاب الطائرة المختطفة، فهم مجرد رهائن لدى مختطفين مفلسين من المال ومن القدرات ومن الحلول الأخلاقية”، على حد قوله.
وأضاف زنجير أنه لا قدرة على التعامل مع فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، ولا فرصة للاهتمام بالمعلمين، ولا قدرة على ترميم وإعادة إعمار المدارس بعد هدم أكثر من ثلث مدارس سوريا.
كما أن جودة المدارس لها صلة وثيقة جدًا بالتطورات الصحية والوبائية وبالوضع السياسي والاقتصادي المتدهور، وبحسب زنجير، فالحكومة اليوم هي مجرد حالة انتظار أو تصريف أعمال أو مجاملات للروس والإيرانيين.
الباحث الاجتماعي محمد السلوم قال لعنب بلدي، إن الجيل الجديد السوري يُعتبر جيلًا ضائعًا، وقد أُنقذ العديد منهم في بلدان اللجوء الأوربية، إذ تلقوا تعليمًا جيدًا في المدارس.
فالنظام التعليمي الآن في سوريا كاذب ومزيّف، والطلاب يشعرون بهذا المستوى المتدني، فالأجيال الآن يجب أن تواكب تطورات التكنولوجيا لا أن يتم تعليمها بأساليب القرن الـ20، حسب السلوم.
يرى زنجير أن هناك حلولًا مختلفة يمكن لحكومة النظام اعتمادها، مثل تبني “التعليم عن بُعد” أسوة بكل العالم، كبديل عن الاكتظاظ بالمدارس، وكذلك إقامة دورات مجانية لتخريج “المعلم الإلكتروني” تسهم بتكلفتها الأمم المتحدة.
وأضاف أنه يمكن اختصار المواد غير الضرورية من المنهاج بحيث تختصر سنوات الدراسة، لكن استبعد زنجير أن تطبق هذه الحلول، “بسبب الشلل العام في التفكير والتدبير”.
قدرات مترهلة.. النظام يتحمل المسؤولية
دمرت قوات النظام السوري المرافق التعليمية في سياق النزاع المسلح داخل عدة مدن سورية، بالإضافة إلى استخدام تلك القوات الممتلكات ذات الصلة بالتعليم لأغراض عسكرية.
ونشر “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، في 21 من كانون الثاني الماضي، عيّنة من وثائق حكومية، توضح مدى الدمار الذي لحق بنظام التعليم في سوريا بسبب النزاع.
وفي هذه الوثائق، “تُقر الحكومة بوضوح باستخدامها المدارس لأغراض عسكرية”، وفق تقرير المركز، وتُقر بالدمار الواسع الذي تعرّضت له المدارس، وتحديدًا في محافظة إدلب شمال غربي سوريا.
ويمثل الاستخدام العسكري للمباني المدرسية خطرًا واضحًا على الأطفال، حيث يؤدي وجود قوات عسكرية في المرافق التعليمية إما إلى إغلاق المدارس، وإما إلى حرمان الأطفال من حقهم في التعليم، وإما وضع الأطفال على مسافة قريبة من الفصائل المسلحة بشكل خطير، ما يعرضهم غالبًا لاحتمالية الاستغلال والتجنيد.
ووثقت الأمم المتحدة ما يقارب 700 هجوم على منشآت التعليم والموظفين في سوريا، منذ بدء التحقق من الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال، 52 هجومًا منها عام 2020.
وأكدت الأمم المتحدة أن التعليم حق يجب حمايته، ودعت الجهات المقاتلة في سوريا إلى الامتناع عن الهجمات على المرافق التعليمية وطواقم قطاع التعليم في جميع أنحاء البلاد.
وقدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في 24 من كانون الثاني الماضي، عدد الأطفال المحرومين من التعليم في سوريا خلال عشر سنوات من الحرب، بأكثر من مليوني طفل.
ويعاني نظام التعليم في سوريا من إرهاق كبير، ونقص في التمويل، وهو نظام مجزّأ وغير قادر على توفير خدمات آمنة وعادلة ومستدامة لملايين الأطفال، بحسب بيان مشترك للمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية، مهند هادي، والمدير الإقليمي لـ”يونيسف” للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تيد شيبان.