للزراعة والرسم وتصنيع المدافئ..
سكان إدلب يعيدون تدوير الصواريخ والقذائف
عنب بلدي – إدلب
في ساحة للخردوات، على الطريق الواصل بين مدينة إدلب ومعرة مصرين في الريف الشمالي، يقف حمود (أبو أحمد) مع أبنائه وعماله حاملًا بيديه قطع الحديد التي يفرزونها حسب الحجم والنوع، “بفضل الله لم يُصب أحد منا، ولم يحدث أي انفجار للذخائر”، قال الرجل الأربعيني لعنب بلدي، مشيرًا إلى الصواريخ والقنابل غير المنفجرة التي يحملها الأطفال.
“سمعنا قصصًا لأشخاص أُصيبوا، لأن هذا ليس اختصاصهم ولا يعرفون خطورة القذائف”، قال “أبو أحمد”، الذي اتجه للعمل بمجال تفكيك الصواريخ وبيعها بعد أن أجبره الغلاء والنزوح على بيع الأبقار التي كان يعتاش منها في بلدته كفرنبل، “كان اختصاصي في العسكرية هندسة، وعندي خبرة بالتعامل معها، مع خبرة السنوات العشر للحرب، إذ كان أي برميل يسقط من الطائرة في المنطقة لا يستطيع أحد التعامل معه، أنا كنت أقوم بتأمينه”.
تنفق الدول حول العالم مليارات الدولارات سنويًا على تصنيع الصواريخ والقذائف، وتصمم لتحقيق الضرر الأكبر بالهدف الذي توجه إليه، لكن في إدلب، التي أمطرها النظام السوري بمئات آلاف الذخائر التي حصل عليها من داعميه الروس والإيرانيين خلال سنوات الحرب، تحولت دورة حياة الصاروخ ولم تعد الأذية قدره الوحيد.
بالإزميل والمطرقة
كل ما في الصواريخ يمكن استثماره، حسبما شرح “أبو أحمد”، معددًا إيجابيات حديدها الصلب واستعمالاتها المتعددة، فبعد أن يشتري الحديد من المقاتلين التابعين لفصائل المعارضة أحيانًا، أو بعد أن يستجيب لدعوة السكان على خطوط التماس الذين يتصلون به لأخذ القذائف التي لم تنفجر أو لشرائها، تبدأ مرحلة التفكيك.
يقطع “أبو أحمد” مسافة 80 كيلومترًا للوصول إلى القذائف التي يريدها، “من الممكن أن يأخذ منا فك القذيفة يومًا كاملًا، وهي بالحقيقة لا يجب أن تستغرق أكثر من ساعة”، حسبما قال، مشيرًا إلى أنه يدرك مدى خطورة التعامل مع الذخائر غير المنفجرة.
لا يملك العاملون بمجال تفكيك القذائف في إدلب “العدة المناسبة”، حسبما قال “أبو أحمد”، معددًا ماكينة القص ومثاقب البطاريات ومناشير الكهرباء، “عدتنا بدائية، هي المطرقة والإزميل ومفتاح الرنش”، ولذلك يستغرق التعامل الحذر مع القذائف، من المدفعية و”الهاون” والدبابات، وقتًا طويلًا، حسب تقديره.
القذائف الكبيرة تتطلب استخدام الرافعة، ويستمر العمل على تفكيكها يومين أو ثلاثة، للحفر حولها وترطيبها بالماء وتأمينها من الانفجار، “كانت آلة قتل ودمار وتهجير ورعب، وحولناها لما ينفع الناس ولتكون مصدر رزق لنا ولعيالنا. نتمنى أن نعود إلى منطقتنا ونعمل بعملنا الأساسي”، قال “أبو أحمد” الذي درّب 15 شابًا على التعامل مع البراميل المتفجرة والصواريخ والقذائف غير المنفجرة.
بعد تفكيك الصاروخ تباع المواد المتفجرة فيه إلى العاملين بالمقالع الحجرية، الذين يستخدمونها لتفجير الصخور وتفتيتها، وهو ما يتطلب مهارة بالتعامل لتلافي حوادث الانفجار غير المقصود التي تكررت في المنطقة.
جسم الصاروخ يذوب لاستعمالات متعددة، “بعد التأمين نبيعها لمعامل الصهر التي تسحب منها الحديد”، يمتاز حديد الصواريخ برخص الثمن، مع 500 دولار ثمن الطن، مقابل الحديد المستورد، الذي يبلغ سعره 800 دولار للطن الواحد، إضافة إلى نوعيته الجيدة.
يستخدم الحديد الناتج في البناء، أو في تصنيع المدافئ، التي لا تكلف سوى 15 دولارًا، بينما لا يقل سعر المدافئ الأخرى في السوق عن 50 دولارًا، “حديدها يتحمل الفحم والحطب والبيرين”، كما قال “أبو أحمد”، مضيفًا أن البعض يستخدمونها بديلًا عن الغاز أو “بابور” الطبخ.
فائدة ورسالة
حين تقف عند عربة “الإكسبريس” التي تبيع القهوة وبعض أنواع البسكويت والفطائر على أوتوستراد طريق “إدلب – باب الهوى”، تجد ثلاثة هياكل للصواريخ، كل منها له دور.
يستخدم محمد المحمود، مالك العربة، أحد الهياكل ليرمي به ما تبقى من البن بعد أن تحضره آلة “الإكسبريس”، بينما يترك قاعدة “مدفع جهنم” لرمي النفايات على الجانب الآخر من العربة، “هي لا تصلح لأكثر من رمي القمامة”، قال الشاب العشريني لعنب بلدي.
لم يشترِ محمد الصواريخ التي يستخدمها، كما لم ينتظر اختصاصيًا لمساعدته على تفكيكها، بل توجه للصاروخ غير المنفجر، الذي وقع بين بيوت المدنيين، وأمّنه قبل أن ينقله إلى عربته، التي يزينها بنبتة مرزوعة ضمن هيكل آخر.
يعتبر محمد استخدام فوارغ الصواريخ لزراعة الورود “رسالة” للنظام السوري والعالم، أن أداة القتل تحولت إلى زينة ومصدر للجمال، مؤكدًا أن “الكثير” من السكان يستخدمون الصواريخ للزينة في المنطقة.
“الرسم على الموت”
عند تصنيع الصواريخ يراعى عند تصميمها ما ستتمكن من حمله من متفجرات، ومدى مقاومة الرياح وإمكانية التوجيه، لكنها تحولت في سوريا أيضًا إلى تحف مزخرفة بالرسوم، مع الاستفادة من هياكلها الرشيقة.
اشتهر أكرم سويدان، المعروف باسم “أكرم أبو الفوز”، بمشروع الرسم على الصواريخ والقذائف غير المنفجرة الذي كان قد بدأه في الغوطة الشرقية، والذي كان ملهمًا لغيره في المنطقة التي هُجّر إليها عام 2018.
استمر حصار الغوطة وقصفها المستمر أكثر من خمس سنوات، ما سبب نقص المواد الأساسية التي يحتاج إليها السكان، مع وفرة بقايا الصواريخ والقذائف، ” كنا نشاهدها مرمية هنا وهناك، على الطرق والمباني والمناطق الزراعية، وقد لا يوجد متر واحد في المناطق السكانية إلا وبه أثر من آثار قصف أو مخلفات الحرب”، قال أكرم لعنب بلدي.
“مخلفات الحرب كانت أكثر وفرة من الخبز في مدينتي، بدأتُ بجمعها لتكون في أحد الأيام شاهدًا على ما جرى من أحداث في هذه الثورة، وتوثيقًا لانتهاك حقوق الإنسان بجميع معاييرها، وأيضًا توعية من مخاطر هذه القطع”، كما قال أكرم شارحًا مشروعه “الرسم على الموت”، الذي بدأه عام 2014.
استخدم أكرم حواضن الصواريخ والقذائف، التي تتكون من مجسم حديدي خالٍ من أي مواد متفجرة أو سامة أو خطيرة، كما يستخدم بعض المخلفات التي تزيد خطورتها في حال الانفجار، مستعينًا باختصاصيين لتأمينها قبل الرسم عليها.
لاقت أعمال أكرم اهتمامًا محليًا وعالميًا، وكانت الرسوم، حسبما قال، تجذب اهتمام المتفرجين ويسألون عن سبب استخدام الصواريخ، ليحكي لهم من خلالها ما شهده السوريون في مختلف المحافظات، من الجنوب إلى الشمال.
استخدام “غير آمن”
وقع عدد “كبير” من المدنيين ضحية لمخلفات الحرب غير المنفجرة، خاصة من الأطفال، حسبما قال سامي محمد، منسق قسم الذخائر غير المنفجرة في “الدفاع المدني”، لعنب بلدي، إذ وثقت فرق الذخائر العاملة في المنطقة منذ خمس نوات، استخدام النظام السوري وحلفائه لـ60 نوعًا من الذخائر المنوعة، منها 11 نوعًا من القنابل العنقودية المحرمة دوليًا.
سببت الذخائر غير المنفجرة حالات بتر وإصابات متنوعة لدى المدنيين، ورغم انتشار فرق التوعية التابعة لـ”الدفاع المدني”، التي أجرت أكثر من 40 ألف جلسة توعية خلال عام 2020، وفرق المنظمات المدنية العاملة في المنطقة، فإن بعض المدنيين لا يكترثون بالتحذيرات، ويجمعون المخلفات لبيعها في ظل ظروفهم الاقتصادية، حسبما قال محمد.
تمسح الفرق المختصة الأراضي التي تتعرض للقصف، وتضع علامات التحذير في الأماكن الخطرة، ريثما تتخلص منها، حسبما أوضح منسق قسم الذخائر غير المنفجرة، “تركزت الهجمات الـ3470 التي شنها النظام وروسيا عام 2020 على منازل المدنيين والمرافق الحيوية في الشمال السوري، إذ وثقت الفرق 2218 هجومًا على منازل المدنيين، 17 هجومًا على المستشفيات والنقاط الطبية، و56 هجومًا على أسواق شعبية ومحال تجارية، وخمس هجمات على أفران، و43 هجومًا على مدارس ومنشآت تعليمية، وعشرات الهجمات الأخرى على منشآت متنوعة”.
تختلف نسبة انفجار الذخائر تبعًا لعدة عوامل ترتبط بنوعها وطرق تخزينها أو المشكلات الفنية التي تعاني منها، وحسبما قال محمد، لا يمكن تحديد نسبة معيّنة للذخائر التي لا تنفجر، ولكنها تقدر بعشرات الآلاف من الذخائر المنتشرة بين المدنيين، وهي بمثابة “قنابل موقوتة” تهدد حياتهم.
أسهم مراسل عنب بلدي في إدلب يوسف غريبي في إعداد هذه المادة
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :