أسامة آغي
بقيت السياسة الأمريكية حيال ملف الصراع في سوريا أسيرة مقولاتها المحدودة والغامضة نسبيًا، فمنذ عهد أوباما، الذي اُشتهر بمقولته “النظام السوري فقد شرعيته”، مرورًا بسياسة دونالد ترامب، التي كانت تخلق انطباعات بعدم الاهتمام بالملف السوري، وصولًا إلى العهد الجديد بقيادة جو بايدن، الذي لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه تحديد سياسة بلاده حيال الكارثة السورية.
الشغل الشاغل لجو بايدن هو استعادة إيران تحت سقف الاتفاق النووي، الذي انسحب منه سلفه ترامب، ولكن بايدن يدرك أن مياهًا كثيرة مرّت تحت جسر الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “5+1” منذ أن أطلق ترامب رصاصة الرحمة على الاتفاق المذكور.
يُدرك بايدن أن علاقات إيران ونفوذها لا يمكن عزلهما عن مفاوضات استعادتها إلى مربع الاتفاق النووي مرة جديدة، وهذه العلاقات تتمثل بمحاور عديدة، أولها البرنامج النووي، وضرورة بقائه مكشوفًا أمام تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لمنع أي احتمال بتحويل البرنامج النووي السلمي إلى برنامج ذي طبيعة نووية عسكرية.
وثاني المحاور، يتعلق ببرنامج إيران لإنتاج الصواريخ الباليستية، التي تشكّل تهديدًا للعالم، كما يردد الأمريكيون والأوروبيون.
احتواء إيران أمريكيًا يحتاج من الولايات المتحدة وحلفها إلى مراجعة حقيقية لسياسة إيران في الإقليم، المرتبطة بالضرورة ببرنامجها النووي، فهذه السياسة مهددة للاستقرار لدول المنطقة، وبالتالي لمصالح الغرب والأمريكيين، وهذا يتطلب اتفاقًا جديدًا، أو اتخاذ خطوات صعبة نحو إيران، قد تصل إلى ضربات عسكرية، إذا أحس الغرب وإسرائيل بخطورة وضع البرنامج النووي الإيراني.
احتواء إيران لا يعني احتواء برنامجها النووي فحسب، بل ينبغي أن يتزامن مع احتواء تدخلها في شؤون بلدان المنطقة، فهذا التدخل مرتبط أساسًا بجذر سياستها المركزية، منذ صعود الخميني إلى السلطة في طهران عام 1979، المسمى “تصدير الثورة”، أي التدخل والاحتواء، تحت راية الأيديولوجيا الدينية لملالي طهران.
أما سياسة جو بايدن تجاه نظام بوتين، فهي سياسة تتسم بالريبة والشك، إلى درجة تصريح وزير الخارجية الأمريكي الجديد بلينكن، بتشديد العقوبات على مشروع أنابيب خط الغاز الروسي الواصل إلى ألمانيا، والمسمى “نورد ستريم 2″، إضافة إلى رفض الولايات المتحدة الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، ومحاولات روسيا لعب دور دولي في قضايا تعتبرها الولايات المتحدة مساسًا بمناطق مجالها الحيوي.
إن تزايد الاهتمام بالزحف الاقتصادي الصيني نحو قارات العالم، يتطلب هو الآخر استراتيجية، تستبق تطورات في وضع الاقتصاد الصيني لا يمكن السيطرة عليها أمريكيًا لاحقًا، وهذا الأمر يشغل السياسات الاستراتيجية للأمريكيين.
وفق ما تقدم، يمكننا القول إن ترابطًا حيويًا يجمع في جذره العميق مصالح الأطراف الثلاثة (إيران وروسيا والصين)، هذا الترابط، يتطلب تنسيقًا سياسيًا بين هذه الأطراف، لمواجهة السياسة الأمريكية حيال كل طرف منهم، وهذا سينعكس بصورة غير مباشرة على الوضع السوري، وهو ما يجعل الرؤية الأمريكية لملف الصراع السوري في وضع مشوّش، فهذا الصراع يستمر ويعيش، مستفيدًا من الانشغال الأمريكي بالملفات الكبرى، رغم أنه (أي الصراع السوري) يشكّل مفصلًا رئيسًا في سياسات هذه الدول.
الأمريكيون، لا يمكنهم في النهاية إغفال أهمية إنجاز الحل السياسي للصراع في سوريا، فكلما تأخر هذا الإنجاز، ضعفت القدرة الأمريكية على التأثير في إنجازه، وهذا يمكن الاستدلال عليه من خلال تصريحات نيد برايس، الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الذي قال: “إن الإدارة الأمريكية ستستخدم الأدوات المتاحة، بما في ذلك الضغط الاقتصادي، من أجل إصلاح ذي مغزى، ومساءلة نظام الأسد”.
لكن نيد برايس لم يقل لنا ما الأدوات التي ستستخدمها الإدارة الأمريكية خارج نظام العقوبات، التي لا يكترث لها نظام الأسد البتة، رغم بلوغ نسبة 90% من السوريين خط الفقر. فهل كلام بايدن في حفل تنصيبه يشير إلى الأدوات المحتملة التي يمكن أن تستخدمها إدارته؟ حيث قال: “يا معشر الناس لقد حان وقت الاختبار”.
إدارة بايدن التي تذهب إلى البحث عن مواجهات مع الأطراف الثلاثة (إيران وروسيا والصين)، لا ينبغي لها أن تتغافل عن أن حلّ الصراع السوري، وفق القرارات الدولية، التي تضمن انتقالًا حقيقيًا للسلطة في سوريا، هو خطوة مفصلية في تشتيت جهد هذه الدول، في المحافظة على بؤرة التوتر السورية، لأنها ستكون بؤرة توليد مزيد من الأزمات والتضييق على مصالح الغرب عمومًا ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا.
هذه القرارات لا يمكن أن تشكّل نافذة حل سياسي ملموس في صيغتها الحالية، ما دامت هذه الصيغة توفّر للروس فرصة استخدام حق “النقض”، أي تعطيل فعالية الحل، كذلك، فنظام العقوبات لا يربك النظام وحلفه فحسب، بل له انعكاسات مختلفة على الصعيد السياسي الاستراتيجي الغربي، وهو ما يسمح بنشوء حالات سياسية ذات طبيعة خطرة في ارتدادها على الغرب، كما حدث من قبل في هجمات القوى الإرهابية داخل أوروبا.
الأمريكيون معنيون إذًا بإعادة برمجة رؤيتهم للصراع السوري، ليس باعتباره صراعًا داخليًا فحسب، بل بوصفه مربعًا تجتمع فيه صراعات الأطراف المذكورة، من أجل أهداف تتجاوز الساحة السورية وصراعها.
برمجة الأمريكيين لرؤيتهم السياسية نحو الصراع السوري، تحتاج إلى الربط بين نظام الأسد وسياسة إيران الإقليمية، والأهداف الروسية البعيدة، والمساعي الصينية بالزحف الاقتصادي في مناطق النفوذ الأمريكية، هذه البرمجة قد تشكّل مفتاح رؤية جدية، ترتكز عليه صياغة الحل السياسي في سوريا.
مثل هذه الرؤية، تتطلب ليس نظام عقوبات أمريكية بحق النظام السوري فحسب، بل البحث عن كيفية فرض مسار الحل السياسي، وإن كان من خارج مجلس الأمن، وهو أمر يوفر كثيرًا من الجهد الأمريكي في مواجهة الأطراف الثلاثة (إيران وروسيا والصين).
إن فرض حل يتضمن انتقالًا سياسيًا في سوريا، مع مساءلة لنظام الأسد عن جرائم الحرب التي ارتكبتها قواته، سيقطّع أوصال النفوذ الإيراني، الذي يرتكز بقوته الحقيقية على الحلقة السورية، فتضعف بسقوط هذه الحلقة الحلقتان الأخريان (العراقية واللبنانية)، ثم كتحصيل حاصل تضعف الحلقة اليمنية.
كذلك، إن الانتقال السياسي في سوريا سيحرم الروس من استخدام الورقة السورية، للمقايضة مع الغرب في حلقات صراع أخرى، وسيزيد من أعباء نظامهم السياسي، لرده عن التغريد خارج السرب الدولي.
فهل تذهب الولايات المتحدة لبرمجة سياستها من جديد؟ وهل ستعيّن مبعوثًا دوليًا جديدًا للملف السوري، يكون من ذوي الخبرة في تفكيك الوضع القائم حاليًا؟ وهل ستعيد النظر بسياستها حيال حلفائها التقليديين مثل مصر وتركيا والسعودية، أم أنها تريد اشتقاق طريق جديد غير واضح الآفاق والنتائج؟
إنه غبش السياسات الأمريكية الكبرى، فهل يقدر بايدن على تبديده؟ ننتظر الأيام القريبة لتجيب عن هذه التساؤلات.