أساليب حياة متعددة لشعب واحد.. التفاوت الطبقي يزيد الاستقطاب
عنب بلدي – حسام المحمود
تنقسم المجتمعات البشرية عادة إلى ثلاث طبقات اجتماعية رئيسة (عليا، وسطى، دنيا)، تتفاوت في المستوى الثقافي والبيئة الاجتماعية، والمستوى الاقتصادي أيضًا الذي يسهم أحيانًا في تكوين الهوية الثقافية لفرد أو مجموعة أو منطقة سكنية.
وتقع الطبقة الوسطى أو المتوسطة اجتماعيًا واقتصاديًا وسط الهرم الاجتماعي، وتمتلك من الموارد ما يمكنها من الحصول على مستويات معتدلة من الصحة والتعليم والمأكل والملبس، وهي المجموعة أو الفئة المستعدة للعمل لتحقيق أهدافها وطموحاتها.
وتتألف هذه الطبقة في الوضع الطبيعي من الحرفيين وأصحاب المهن الحرة، لكنها تتسع في سوريا لتشمل الأطباء والمهندسين والمعلمين، في كتلة غير متجانسة، لكنها تتقاسم بعض الصفات المشتركة، ومنها القدرة على تحصيل ما يمكّنها من تغطية تكلفة ما تستهلكه.
وبالمقارنة بين حضور الطبقة الوسطى خلال حكم حافظ الأسد وبشار الأسد، فقد تراجعت الطبقة الوسطى وانحسرت اجتماعيًا واقتصاديًا في حكم بشار الأسد، منذ عام 2000، إذ اشتغل الأسد الأب على ترسيخ التشابه والتماثل في حياة السوريين على مستوى ألبستهم وأطعمتهم ووسائل عيشهم، لأسباب تتعلق بتجنب النعرات وترسيخ السلطة الأمنية، وعدم إبراز الفوارق الطبقية في عيون الفقراء على الأقل، فالكل متساوون أمام حكم حزب “البعث”، ولكنهم متساوون في التعرض للظلم.
ويُستثنى من المساواة السابقة فئة رجال الأعمال والأمن والجيش والسياسة، الذين نما نفوذهم وأُتخمت حساباتهم المصرفية بشكل أكبر خلال فترة حكم بشار الأسد.
الآباء يسلّمون الراية.. مغتربون يسدون الفجوة
وبحسب دراسة صادرة عن مؤسسة “فريدريش إيبرت” في أيلول 2019، فقد أدى التشتت الذي عاشه السوريون خلال سنوات الثورة إلى تحسين الظروف المعيشية لكثير من العائلات.
وشكّل الآباء خلال السنوات الأولى من عمر الثورة مركز القوة الاقتصادية لعائلاتهم، إذ كان لديهم أعمالهم الأكثر استقرارًا بحكم الأقدمية، بخلاف جيل الأبناء، الأحدث نسبيًا في سوق العمل.
ووفقًا للدراسة، فقد كان الآباء هم المتحكمين بممتلكات العائلة ومواردها، ما منحهم القدرة على ممارسة دورهم الاقتصادي بشكل فاعل خلال السنوات الأولى للثورة السورية، ثم انتقلت الأعباء المادية بعد ذلك إلى جيل الأبناء، الذي أثبت قدرة أكبر على التأقلم مع المتغيرات في سوق العمل، إذ استطاع كثير من الأبناء بعد عام 2011 تغيير مهنهم، بخلاف الآباء الذين أبدوا مرونة أقل حيال ذلك.
ومع خسارة كثير من العائلات ممتلكاتها جراء القصف والعمليات العسكرية، حظي الأبناء بالدور الاقتصادي في الأسرة، مع محافظة الآباء على الدور الاجتماعي الرابط بين أفراد الأسرة.
الباحث الاجتماعي سلطان جلبي قال في حديث إلى عنب بلدي، إن رغبة بالانفتاح الاقتصادي ظهرت في سوريا منذ عام 2000، ولكن سياسات تحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة تُرجمت لمصلحة رجال أعمال متنفذين في تلك الفترة، ما أحدث خللًا في نموذج تحرير السوق.
وأدت هذه المعطيات، بحسب جلبي، إلى انحسار دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، كما عززت التفاوت في مستوى المعيشة بين الناس، ما مهّد لاحقًا وشكّل بيئة خصبة لانطلاق الثورة.
وأوضح جلبي أن ما يحكم طبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين السوريين الموزعين في داخل البلاد وخارجها، هو عمق الروابط والصلات العائلية أو الاجتماعية، إذ دعم السوريون المغتربون السوريين الذين بقوا في سوريا، وزوّدوهم بالمال، ما حقق دورًا وظيفيًا بتحسين الوتيرة الاقتصادية، ليس للعائلات فحسب، بل أيضًا للنظام الذي استفاد منهم باعتبارهم عنصرًا داعمًا للعملة الصعبة.
ووفقًا لدراسة ستصدر قريبًا عن مركز “السياسات وبحوث العمليات”، فإن أغلبية السوريين ينظرون إلى المغترِب باعتباره محظوظًا أو مجبرًا على مغادرة البلاد، ولا يملك قرار البقاء أو الرحيل.
ورغم الضخ الإعلامي لأدوات النظام، وبث خطاب غير ودي تجاه السوريين في الخارج، فإن أغلبية العيّنة التي شملتها الدراسة كانت معجبة بهم أو متعاطفة معهم، وترغب بالمغادرة واللحاق بهم لو أُتيحت لها الفرصة.
وأكّد جلبي أن العوامل الاقتصادية خلقت فجوة اجتماعية غير إرادية بين الناس، محكومة بالوضع المعيشي واختلاف الأولويات، وقد لا يدركها أو يعيها الشخص، لكنها موجودة.
يعلو التفاوت.. فينخفض التواصل
عمار مدرّس مقيم في سوريا (34 عامًا)، يرى أن من الأفضل التصالح مع فكرة وجود طبقات في المجتمع السوري، مؤكدًا في الوقت نفسه أن الطبقة الوسطى التي كان ينتمي إليها تلاشت، وأصبحت فقيرة.
وقال عمار لعنب بلدي، إن تواصل السوريين المقيمين في الداخل بالسوريين المقيمين في الخارج تأثر بالوضع المعيشي، فاختلاف الاهتمامات، وسعي السوريين داخل البلاد لتحصيل لقمة العيش، جعل الاهتمامات بين الناس مختلفة، وبالتالي سبّب اختلافًا في الثقافة وأسلوب مناقشة الأمور وتناولها، كل حسب ظروفه.
وعن تواصله مع أصدقائه المغتربين، أوضح عمار أن التواصل انخفض إلى حد كبير، ويكاد ينعدم في بعض الأحيان، لأن قسوة الوضع المعيشي تقود الشخص للتقوقع حول نفسه، والبحث عن حلول لمشكلاته بطريقة قد لا تخلو من الأنانية، بدلًا من مشاركة هذه المشكلات مع شخص تخطاها إلى حياة أفضل.
وبحسب تقرير صدر، في 23 من آذار الماضي، عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، تواجه سوريا، بالإضافة إلى 19 دولة أخرى، مخاطر انعدام الأمن الغذائي في العام الحالي، ما يوضح بشكل أعمق سوء الوضع المعيشي، وقسوته على المواطن السوري الذي يستيقظ يوميًا على ارتفاع جديد في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، وارتفاع في أسعار السلع والمواد الغذائية التي يواجه صعوبة في تأمينها، بدءًا برغيف الخبز، في حين يتجاوز أقاربه أو أصدقاؤه المقيمون خارج سوريا هذه التفاصيل.
ومنذ عام 2020، يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، بحسب ما ذكرته ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أكجمال ماجتيموفا، في وقت سابق.
عبد الكريم رجل متزوج (28 عامًا)، يرى أن طريقة وأسلوب التعامل بين المغترب والمقيم داخل سوريا اختلفت عما كانت عليه حين كان الطرفان يقيمان في الداخل السوري، لأن نمط الحياة تفاوت بين الطرفين.
وقال عبد الكريم لعنب بلدي، “الشخص الذي كنتُ أتناول معه الفلافل باعتبارها وجبة ذات قيمة، يتناول اليوم مختلف أنواع الأطعمة الباهظة الثمن، ويرتدي الملابس الأنيقة التي لا أستطيع تأمينها اليوم في بلدي”، مشيرًا إلى تشابه ظروفه مع ظروف كثير من السوريين الذين يفكر من بقي منهم في سوريا بكيفية تأمين قوت يومه.
أسلوب التواصل أيضًا يتأثر في هذه المعادلة بحكم غياب ما هو مشترك، بحسب عبد الكريم، طالما أن المأكل والملبس ومكان الإقامة والهواجس والأحلام اختلفت بين الشخصين، ما يفتح الباب أمام أسئلة قد تفضي إلى جلد الذات وتأنيبها، من منطلق الحسرة والندم على البقاء في سوريا.
ما رأي علم النفس؟
في كتاب “السلم المكسور.. كيف تؤثر اللامساواة في طريقتنا في التفكير والعيش“، يقول عالم النفس الاجتماعي كيث باين، إنه “عندما يجري تذكيرنا بأننا أكثر فقرًا أو أقل قوة من الآخرين، نصبح أقل صحة وأكثر غضبًا”، معتبرًا أن عدم المساواة “يدور حول حجم الفجوة بين الأثرياء والفقراء”.
ووفقًا لكيث باين، فإن مفهوم التفاوت أو التباين أو عدم المساواة يمنح الشخص شعورًا بأنه أشد فقرًا مما هو عليه، بالمقارنة مع من يمتلك مالًا أكثر منه، بالإضافة إلى رفع سقف التوقعات حول ما هو طبيعي.
وأوضح الطبيب النفسي محمد أبو هلال، في حديث إلى عنب بلدي، أنه رغم فداحة تأثير الصدمات والقتل والتهجير على الإنسان، فإن التأثير السلبي لمصاعب الحياة اليومية ومشقاتها التي لا تصنف في إطار الصدمات، لا يقل عن تأثير تلك الصدمات نفسها.
وأوضح أبو هلال أن الشعور بالتفاوت الاقتصادي غير القائم على أسس عادلة، وعدم القدرة على تأمين الأولويات والشعور بالظلم، كل ذلك يضاعف من طبقات الضغط النفسي والقهر الذي يتعرض له الفرد.
ويمكن للشعور بعدم المساواة أو الشعور بالفقر (الذي يعتبر أشد وطأة من الفقر نفسه) أن يسهم في زيادة حالات الاستقطاب الديني أو السياسي، برأي عالم النفس الاجتماعي كيث باين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :