أسامة آغي
الصراع الأمريكي- الروسي ليس صراعًا جديدًا، فهو يمتد إلى مرحلة نهايات الحرب العالمية الثانية، إذ تعتبر روسيا محور الاتحاد السوفييتي سابقًا، نقيض النظام الليبرالي الغربي عمومًا، والأمريكي خصوصًا، ووريثة هذا الصراع لاحقًا.
الغرب الليبرالي بقي يعمل من أجل تفكيك المنظومة الاشتراكية، معتمدًا على نقاط ضعف بنية هذه المنظومة، وتحديدًا ما يتعلق بالتنافس الاقتصادي، حيث كان اقتصاد الاتحاد السوفييتي ضعيفًا، قياسًا إلى اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، في كل المراحل التالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
سياسة الاستنزاف، التي يتبعها الغرب في مجالات عديدة ضد الروس، تبدو سياسة ناجعة لديه في معركته الاستراتيجية، لاحتواء روسيا ضمن منظومة رأس المال العالمي الغربية، وهذا الاستنزاف يأخذ أشكالًا متعددة، باستثناء شكل واحد، هو المواجهة المباشرة بينهما.
ولعلّ التدخل الروسي المباشر في سوريا، والذي لم يعترض عليه الغرب، كان مدخلًا لتوريط الروس في الصراع السوري، ومدخلًا لاستنزاف الروس، من خلال التضييق السياسي والاقتصادي، ليس من أجل موقفهم المساند لنظام الأسد فحسب، بل لتدخلهم في أوكرانيا، وضمهم شبه جزيرة القرم، باستفتاء نظمه الروس وفق ما يخدمهم.
إن تصريحات جو بايدن بحق بوتين، التي وصفه فيها بأنه قاتل، تمثّل عمق التناقض بين الأمريكيين والروس، وهذا يدلّ على أن سياسة القادم الجديد إلى البيت الأبيض الأمريكي، لن تكون سوى حلقة من حلقات التسلسل في السياسة الأمريكية، التي ترتكز على قاعدة الاستنزاف بهدف الاحتواء.
تصريح بايدن ليس مؤشرًا نهائيًا على انغلاق دائرة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ولكن التناقض العميق بين جوهر السياستين، هو المؤشر الحقيقي على الصراع بينهما، وبالتالي هو من يجب تتبعه، لمعرفة اتجاهات هذا الصراع وأدواته الممكنة.
الصراع الأمريكي- الروسي في الساحة السورية، تتبلور ملامحه شيئًا فشيئًا، فالأمريكيون الذين لم يقولوا بعد كيف سيكون موقفهم النهائي من نظام الأسد، يعرفون تمامًا الاحتيال الروسي على الوقت، حيث يريد الروس إعادة إنتاج هذا النظام، وترويج وتسويق مقولة أن “نظام الأسد انتصر في معركته ضد الإرهاب”، في حين تشير كل الدلائل إلى جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبها هذا النظام، وهي موثقة لدى الغرب، ومنها صور “قيصر” وغيرها من الوثائق الدامغة التي تدين النظام السوري.
الصراع بين الأمريكيين والروس في سوريا، يحتمل تطور الاتجاهات التالية: الأول يتعلق بضرورة كسر الإطار الذي يحتوي هذا الصراع، وهذا يتطلب منهم توتير المواجهة غير المباشرة مع الأمريكيين، عبر أذرع تعمل لمصلحتهم، من خلال شنّ هجمات على القواعد الأمريكية في سوريا، غاية هذه الهجمات، منع الأمريكيين تطبيق حصار خانق عليهم في هذا البلد، ما يزيد من تكاليف تدخلهم، وبالتالي تبديد استثمارهم العسكري والاقتصادي في سوريا.
الاتجاه الثاني، يحتمل من الأمريكيين تغيير قواعد تدخلهم في الصراع السوري، وتعديل أهداف هذا التدخل، وهذا يتطلب مراجعة أمريكية لعلاقاتها مع حلفائها الحقيقيين في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، وفي سوريا خصوصًا.
تغيير قواعد التدخل الأمريكي في سوريا ينبغي أن يرتكز على التخفيف من اعتمادهم على الحليف الأضعف في المعادلة وهو هنا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لمصلحة الحليف الأقوى تركيا ومجموعة أصدقائهم في المنطقة، لأن الحليف الأضعف غير قادر بصورة جدية على أن يقوم بعملية استنزاف الروس وحلفهم في سوريا، بينما تستطيع تركيا ومجموعة أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة فعل ذلك.
تغيير قواعد الصراع الأمريكي- الروسي في سوريا ضرورة للولايات المتحدة الأمريكية استراتيجيًا، فانسحاب الأمريكيين من حلبة هذا الصراع لمصلحة الروس، سيخرّب عليهم تركيز الجهود، لوقف زحف التنين الصيني وتهديداته الاقتصادية لهم، ثم السياسية للغرب، وهذا يتطلب من الأمريكيين تقديم التحالف الرئيس على حساب التحالف الثانوي، أي إعادة ترتيب أوراق الصراع ضد روسيا وحلفها في سوريا والمنطقة، هذا الترتيب يتطلب لحظ مصالح تركيا في أمنها القومي، وفي تطورها الاقتصادي، دون هيمنة أمريكية.
ولكن قد تكون هناك اتجاهات أخرى للصراع الأمريكي- الروسي في سوريا، مثل اتجاه تثبيت الأوضاع القائمة حاليًا، ريثما تتبدل معطيات الواقع، ويتم التوافق على حل سياسي مستدام في سوريا، وهذا الاتجاه خطير استراتيجيًا على سياسة الولايات المتحدة والغرب، حيث سيكون تثبيت الأمر الواقع بمثابة إتاحة زمن مريح، لإنتاج قوى أكثر راديكالية، تهدّد مصالح الأمريكيين والأوربيين في المنطقة برمتها.
وفق ما تقدّم، هل نستطيع أن نقول إن هناك احتمالًا لزيادة وتيرة الصراع الأمريكي- الروسي؟ وكيف ستنعكس زيادة وتيرة هذا الصراع على الوضع السوري؟
إن انسداد أفق الحل السياسي في سوريا وفق القرارات الدولية، التي وقّعت عليها روسيا، وتحديدًا بيان “جنيف 1” والقرار الدولي “2118” والقرار “2254”، سيعقّد حلّ هذا الصراع، ما سيضيف عناصر جديدة إليه، قد تغيّر في اتجاهاته وأهدافه، وهو أمر ليس بمصلحة الروس أولًا، لأن اشتراطهم السياسي إعادة تأهيل نظام سياسي ارتكب مجازر كبرى ضد شعبه، يصنّف ابتزازًا سياسيًا لا يمكن قبوله في العقل السياسي الغربي، ولعل محاولة تمرير انتخابات زائفة، يقوم بها النظام في مناطقه، ستكون تعبيرًا عن اتجاه روسي يزيد من تعقيدات الصراع في سوريا.
هذا المسعى الروسي، سيكون عامل جذب لعناصر صراع أكثر راديكالية، فهو عمليًا، عبر انتهاجه هذا الطريق، كأنه يستدعي مزيدًا من عقوبات اقتصادية وسياسية أمريكية على النظام وحلفه الروسي- الإيراني، أي يفتح الباب باتجاه استنزاف حقيقي للروس في سوريا، ما يعني تبديد ثمرات ما حصلوا عليه من النظام السوري، سواء في الجانب الاقتصادي أو في الجانب السياسي.
هذا المسعى الروسي، لن يمكنه الاحتفاظ بالمعادلات القائمة حاليًا، مثل تقاربه مع تركيا، أو بقاء صراعه مع الإيرانيين تحت الرماد، بل يجب أن يحسبوا أن تركيا تاريخيًا، كانت ولا تزال ضمن قطب سياسي عسكري دولي، هو حلف شمال الأطلسي، وأن هذا القطب يجب أن يتخلى عن فرض هيمنة أوروبية أو أمريكية على الأتراك، كي تستقيم علاقة التحالف بين مكوناته.
الروس في ورطة حقيقية في سوريا، وخطة بوتين لافروف باتت فخًا لروسيا، فهل يفهم الروس هذه المعادلة، ويعملون على نزع فتيل تطوير الصراع لمصلحة الحل السياسي في سوريا وفق “2254”، أم أنهم سيغامرون بنظامهم السياسي حتى الهاوية؟