تشويه عقول الأطفال وتغييب المواطنة..
كيف أثر تلقين “حب القائد” في المدارس السورية
عنب بلدي – أمل رنتيسي
تداول ناشطون سوريون تسجيلًا مصوّرًا لمعلمة سورية تلقّن طلابها عبارة “لا مستقبل لسوريا من دون الأسد”، لافتة إلى أن بشار الأسد هو أمل سوريا للخلاص من الاحتلال، ليرد التلاميذ بالعبارة ذاتها.
ويظهر التسجيل الذي نشرته إحدى المدارس، في 5 من آذار الحالي، وحذفته لاحقًا من صفحتها في “فيس بوك”، معلمة أمام عدد من التلاميذ وبحضور معلمين آخرين تتحدث عن الأسد.
كما خاطبت المعلمة التلاميذ بالقول، “نحن تحت السن القانونية لكن يحق لنا أن نبدي رأينا”، وأضافت أن السوريين حاربوا الإرهاب، وأصبح في كل بيت “شهيد”، واستشهدت بثلاثة تلاميذ أيتام في الصف وبنفسها وقالت، “وأنا أيضًا أخت الشهيد أحمد منصور وأفتخر”.
وتابعت أن كل ذلك “من أجل تغيير خيارنا”، وعادت إلى الأيتام بالسؤال “هل غيّرتم خياركم؟ من هو خياركم؟”، ليرد التلاميذ بأنه الأسد.
واستنكر العديد من الناشطين السوريين التسجيل المصوّر، إذ وصف الصحفي السوري عمر قصير، الفيديو بأنه “أسوأ ما يمكن أن تشاهده منذ سنوات، ويحتاج إلى تحذير لا يقل عن التحذيرات التي تُذكر قبل عرض فيديوهات القصف أو القتل أو التعذيب”.
كما تداولت التسجيل شبكات محلية سورية وصفت المدارس بأنها أصبحت منبرًا انتخابيًا، وما يجري هو عملية غسل عقول الأطفال.
وخلال سنوات حكم حافظ الأسد في الثمانينيات وبعده نجله، بشار الأسد، اشتهرت عبارات التمجيد والتقديس للقائد، مثل “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد” و”حافظ أسد بعد الله بنعبده”، ليصبح لاحقًا الشعار بعد موت حافظ الأسد بأنه “القائد الخالد”، لتليها شعارات تمجد رئيس النظام السوري الحالي، بشار الأسد، وخاصة بعد الثورة عام 2011 في رد فعل على المطالبة برحيله، كـ”الأسد أو نحرق البلد”، و”نحنا رجالك بشار”، و”سوريا الأسد”…
غُرست هذه العبارات بعقول الأطفال في المدارس، ورافقها خوف ورهبة مما سيحل بمصير الشخص الذي يخالف هذه الأقوال أو ينتهك قدسية بيت الأسد.
ورصدت عنب بلدي حوادث عديدة عبر سؤال عدة أشخاص عن تجاربهم حول هذا الموضوع، كـ”تقبيل صورة الرئيس” بعدما سقطت على الأرض، وعند تمزيق صورة الأسد بالخطأ قالت إحداهن “أستغفر الله العظيم”، وتحذير الأهالي المستمر لأطفالهم قبل الذهاب إلى المدرسة بـ”عدم الشخبرة على صور الرئيس”.
الباحث الاجتماعي طلال مصطفى علّق على التسجيل، في حديث سابق إلى عنب بلدي، بأن ما جاء فيه ليس مفاجئًا للسوريين، إذ اعتمدت المناهج التعليمية في سوريا بعد انقلاب الأسد الأب واستيلائه على الحكم عام 1970، الفلسفةَ التعليمية الاستبدادية المعتمدة في تلك الأنظمة الشمولية، واستعارت بعض جوانبها من النظام التعليمي في كوريا الشمالية، مثل “طلائع البعث” وغيرها.
وهدف الأسد من ذلك، بحسب مصطفى، إلى تدجين عقول الأطفال بالأفكار الأسطورية التقديسية الأقرب إلى الإيمانية المطلقة عن الأسد الأب والآن عن الأسد الابن.
وبعد الثورة السورية في 2011، عدّل النظام السوري معظم المناهج في المستويات التعليمية، بما يلائم فلسفته السياسية الاستبدادية، إذ وصمت مناهجه الجديدة المتظاهرين من أجل الحرية والكرامة بـ”الإرهابيين وعملاء المؤامرة الإمبريالية الكونية”.
تأثير نفسي سلبي على الأطفال
الاختصاصية النفسية آلاء الدالي، قالت لعنب بلدي، إن هذا السلوك الممنهج من قبل المعلمة يؤثر على الأطفال في هذا العمر، وذلك عبر زرع أفكار تهدف إلى تغييبهم عن الواقع الحقيقي.
وأوضحت الدالي أن لهذا الأسلوب جوانب خفية يجري فيها التأثير نفسيًا على الأطفال من خلال “تجييشهم وتعبئتهم ضد الآخرين، وزرع الحقد في نفوسهم والرغبة المتجددة في الانتقام، فالأطفال مؤمنون بأفكار مغلوطة وقيم غير موجودة لبناء أساس شخصيتهم المستقبلية”.
تمنع هذه التربية عقول الأطفال من التفكير، ما يؤدي إلى قصر أدوارهم في المستقبل وتقليصها باعتبارهم أداة مهمتها حماية القائد وتقديسه وتنفيذ أوامره من غير نقاش.
ومن جهتها، أوضحت الاختصاصية النفسية كوثر جودت لعنب بلدي أن الأطفال “صفحة بيضاء”، والتعامل معهم يجب أن يكون بحساسية ووعي نظرًا إلى نشأتهم في أجواء حرب.
وهذه الحرب تؤثر وتخلق لديهم مشاعر سلبية وخوفًا، ولذلك من الضروري أن يكون المعلمون على دراية بما يتم تلقين الأطفال، وضرورة خلق أجواء من الأمان النفسي، حسب كوثر.
وأوضحت أن تكريس فكرة “المُنقذ” في عقول الأطفال تخلق أفكارًا سلبية لديهم، سترتبط بمشاعر خوف أو غضب وحقد عندما لا يجدون لها تجسيدًا واقعيًا.
وفي حديث إلى عنب بلدي مع معلمة لغة عربية للمرحلة الإعدادية في ريف حمص (تحفظت على نشر اسمها لأسباب أمنية)، قالت إنه ليس من الصحيح الحديث في هذه الأمور مع أطفال بهذا العمر، بل يجب أن تتركز المواضيع على الأمور التربوية والاجتماعية كغرس المحبة والتعاون، لا الأفكار السياسية.
كما أوضحت المعلمة أنه يمكن أن يكون هناك التفاف أو حديث سطحي من قبل المعلم حول الأمور السياسية عند لزوم التحدث فيها.
وأوضحت أن “الأطفال يتأثرون الآن بالواقع الحالي في سوريا، فهم على وعي بكل شيء يحدث حولهم، كالغلاء وأزمة الكهرباء والواقع المعيشي الصعب”.
رعايا طيّعون
ذكرت مناقشة لمركز “مالكوم كير-كارنيغي” في عام 2011، حول التعليم والديمقراطية في العالم العربي، أعدها الباحث في الإصلاح التربوي محمد فاعور، أنه في ظل الحكم السلطوي، الطلاب يعلَّمون في المقام الأول أن يكونوا رعايا طيّعين للدولة، كما تتم محاولة منع التفكير الخلّاق، والمعلومات تعامَل على أنها غير قابلة للنقاش، إذ “لا يوجد دكتاتور يرغب في أن يتحدى رعاياه سلطته”.
وأشارت المناقشة إلى أن الديمقراطية لن تزدهر إلا في ظل ثقافة تقبل التنوع وتحترم وجهات النظر المختلفة، وتنظر إلى الحقائق على أنها نسبية، وتتحمّل المعارضة، لا بل تشجعها.
أين دور الأهل؟
ركزت الاختصاصية النفسية آلاء الدالي على دور العائلة في مواجهة زرع أفكار مغلوطة ومنافية للواقع، وذلك عبر الشرح للطفل حقيقة ما الذي يحدث، ومساعدته في التفكير بالحقائق والجوانب الناقصة التي يتم تحاشيها في المدارس.
وبحسب الدالي، فإن على الطفل في سن مبكرة التفكير بأي معلومة تذكر له ومناقشتها وتحليلها، وتشجيعه على النقاش وإبداء الرأي، ومعرفة حقوقه وواجباته، والتعبير عن مشاعره وأفكاره، وتكوين معتقدات وأفكار ومبادئ أساسية ثابتة، وذلك “من أجل التغلب على محاولة تحويله إلى دمية مهمتها اتباع سياسة القطيع، وجاهزة لتقبل أي أفكار والاندماج بها”، على حد تعبيرها.
وبدورها ترى الاختصاصية النفسية كوثر جودت، أن الطفل إذا كان لديه دعم من الأهل فستتكرس لديه مشاعر إيجابية، ستسهم بعدم تأثره بما يُلقَّن به من أفكار سلبية في المدارس، وعدم اعتبار “القائد” أملًا للخلاص أو تجسيده كـ”مُنقذ”.
كيف استغل حزب “البعث” التعليم لتثبيت حكمه؟
ذكرت دراسة لمعهد “واشنطن لدراسات الشرق الأوسط” تحت عنوان “أیدیولوجیة السلطة: خمسون عامًا على التعليم في سوريا” نُشرت عام 2016، أنه قبل عام 2011، وعلى مدى عقود في سوريا، ساد مشهد اعتلاء علم حزب “البعث” الحاكم للدولة والمجتمع، وصورة الرئيس “القائد” ونُصبه كل المنصات العامة، وفي أروقة مؤسسات الدولة وأجهزتها، وفي الساحات العامة، وحتى في المؤسسات غير الحكومية.
وبحسب الدراسة، نالت مؤسسات التعليم النصيب الأوفر من مشهد اعتلاء علم الحزب على صعيد الجامعات والمدارس ومؤسسات المنظمات الطلابية، إذ طغت هذه الهيمنة على كل عناصر المنظومة التعليمية.
فعلَم “البعث” وصور الرئيس مطبوعة على الوثائق التعليمية من أغلفة الكتب التعليمية والسجلات الرسمية، وفي أركان الجامعات والمدارس، وداخل حجرات وقاعات التعليم، وتم تشريب مضامين جميع المناهج تقريبًا بأفكار الحزب والقائد، وصار على الطلاب حفظ أقواله وسيرته، ومؤتمرات الحزب ودور القائد فيها.
وأوضحت الدراسة أنه جرى توثيق ربط التعليم بحزب “البعث” عبر إحداث منظمات تربوية غير نظامية تعمل إلى جوار المنظومة التربوية الرسمية وتكمل وظيفتها، وهي منظمة “طلائع البعث”، و”اتحاد شبيبة الثورة”، و”الاتحاد الوطني لطلبة سوريا”، إذ تتمتع هذه المنظمات بهياكل تنظيمية مستقلة وأطر قانونية ومالية.
وتعمل هذه المنظمات مع جمهور واسع من الطلبة من سن السادسة حتى سن الـ24، كما أُوكلت إليها وظيفة دعم المؤسسات النظامية في تحقيق أهداف السياسة التربوية، “فهي بمثابة منظمات رديفة للحزب تسهم في تحقيق أهدافه في (الوحدة والحرية والاشتراكية)”.
الباحث الاجتماعي محمد السلوم قال لعنب بلدي، إن وجود مثل هذه المنظمات المشبوهة وسيطرتها على الأطفال منذ مرحلة “الطلائع”، أدى إلى تشويه الأطفال وتحويلهم بعد ذلك إلى الانضمام لـ”جيش عقائدي” و”خدمة العلم”.
وأكد الباحث الاجتماعي أن ظاهرة “تقديس” و”حب القائد” بدأت من حزب “البعث” عام 1963 الذي كان شعاره “التقدمية” و”محاربة الرجعية”.
وبعد تسلّم حافظ الأسد الحكم في 1971، حوّل الأسد الأب نظام الحكم إلى قمعي شمولي كما ورّثه أيضًا إلى ابنه بشار الأسد.
وبحسب السلوم، كل هذه الأشياء، فضلًا عن الإعلام الشمولي الموجّه، أدت إلى عملية تشويه منظمة منذ أكثر من 50 عامًا في سوريا، وبالتالي كان من الواضح أن ظاهرة “تقديس” و”حب القائد” هي ظاهرة ناجمة عن أنظمة عقلية يسارية شمولية كانت رائجة في ذاك الوقت، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي.
وأشار السلوم إلى أنه حتى بعد قيام الثورة في سوريا عام 2011، كان هناك شعار “الأسد أو نحرق البلد”، “فالمواطن تم تعويده على الانحناء والقمع، لدرجة ما يشاع حول عدم وجود تاريخ في سوريا قبل حافظ الأسد”، على حد تعبير الباحث.
أثر ناتج عن القمع في المدارس غيّب مفهوم المواطنة
تُعرّف المواطنة بأنها العلاقة بين فرد ودولة، يحددها قانون تلك الدولة، بما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق.
وأجرت الباحثة الأكاديمية والناشطة في المجتمع المدني السوري رغداء زيدان بحثًا بعنوان: “المواطنة في سوريا بين الواقع وما يجب أن يكون”، ذكرت فيه أن من أحد مقومات المواطنة وجود نظم تربوية وتعليمية واجتماعية ترسخ الانتماء للوطن ككل، وليس الانتماءات العصبوية الضيقة.
وبحسب زيدان، تعد المواطنة ثمرة التفاعلات التي ينتجها مجتمع حضاري، كما تعد مكوّنًا أساسيًا من مكوّنات الدولة بصيغتها المدنية المنظمة المعبرة عن انصهار وتفاعل جميع تكويناتها الداخلية.
وأضافت زيدان أن المواطنة بهذا الوصف لم يحصل عليها السوريون، ولم تتحقق في سوريا لأسباب كثيرة، منها الاستبداد الذي خيّم على البلاد منذ عقود، والذي كان من نتائج سياساته تغييب مفهوم المواطنة وجعله ملتبسًا وغير مفهوم بشكل صحيح لدى الجزء الأكبر من المجتمع السوري بشرائحه كافة.
وأشارت الباحثة إلى أن أحد أسباب غياب مفهوم المواطنة في المجتمع السوري هو عدم وجود نظام تربوي يرسخ قيم هذا المفهوم، “فتحولت المؤسسات التربوية (مجتمعية ودينية وتعليمية) في ظل الاستبداد إلى أداة تدجين وتبرير لسياسات الاستبداد ومديح للمستبد، وغيّبت الحقوق والحريات، ولم تعلِّم السوريين قيم المواطنة وواجباتهم نحو الوطن والدولة”.
في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول تأثير تلقين فكرة “الولاء للقائد” في المدارس السورية على ثقافة الانتماء للوطن عند الأطفال، أظهرت نتائج الاستطلاع أن 342 شخصًا وافقوا الرأي وصوّتوا بـ”نعم”، بينما صوّت 216 شخصًا بـ”لا”.
وبرأي الباحث الاجتماعي محمد السلوم، فإن غياب ثقافة المواطنة بالنسبة للسوريين جاء بسبب اعتبار المواطن “مقصوص الجناح، وعدم وضوح معنى الوطن بالنسبة له، فهو مُجزأ بين الطائفة والمنطقة والقبيلة والمجتمع، ومنذ الطفولة يتم ترسيخ عدّة أمور في رأسه كالطائفية والمناطقية”.
وهذه الحالة المتشرذمة من عدم الانتماء أدت إلى توجيهه بخبث لما يسمى “القائد الخالد أو المُلهم أو المنقذ”، على حد تعبيره.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :