حنين النقري – عنب بلدي
تتصدر آلام السوريين منذ أربع سنوات الخطوط العريضة للأخبار ووسائل الإعلام، ما بين شهداء البراميل، المعتقلين، الغرقى على شواطئ اليونان؛ والمحاصرين في المناطق المنكوبة، لكن ما بين الموت قصفًا، والموت غرقًا، حكاياتٌ لمئات الألوف ممن حملوا همومًا أخرى لا تقلّ عن الجوع والموت، يعيشون الغربة وصعوبة الاندماج، فقدوا أعمالهم وبيوتهم وهم في منتصف العمر بأفضل الحالات، ليجدوا أنفسهم عند نقطة الصفر من جديد لكن بصحبة عائلة وأطفال ومتطلّبات كثيرة، علاوةً على معيشتهم لهموم بلدهم عاجزين عن تقديم أدنى مساعدة.
في نهاية المطاف تدفع هذه المشكلات والتحديات الكثير من السوريين في دول الجوار نحو «بلم» مطاطي طلبًا للنجاة في أوروبا أو الراحة في الموت، ويظلّ من يختار البقاء وجهًا لوجه أمام معارك يوميّة يكافح من خلالها ليخلق وجودًا جديدًا له ولعائلته، فكيف يتجلى ذلك على أرض الواقع؟
عائلة أبي أحمد والنزوح من اليمن
أبو أحمد وإخوته الأربعة من الغوطة الشرقية، كانوا يملكون معملًا صغيرًا لتعبئة المواد الغذائية عندما بدأت الأوضاع تشتدّ على مدينتهم، فخرجوا مع زوجاتهم وأبنائهم من سوريا قاصدين اليمن، وهناك أعادوا تأسيس عملهم وأثبتوا جدارتهم في السوق ما جعل أمورهم تتحسن بشكل سريع. تقول أم أحمد «كانت أوضاعنا في اليمن ممتازة، الخبرة والتميز جعلا العمل يستمر وينجح، ارتاد أولادنا المدارس وقررنا الاستقرار في صنعاء وبدء حياة جديدة تمامًا إلى أن بدأت عاصفة الحزم في آذار الماضي».
فمع انطلاق عاصفة الحزم وسوء الأوضاع الأمنية، سافرت العائلات الخمسة إلى تركيا كخيارٍ وحيد يستقبل السوريين دونما شروط، تكمل أم أحمد «لم نصطحب كل متاعنا وملابسنا، إذ أقنعنا أنفسنا أننا متجهون إلى تركيا كسياحة لعدة أيام، لم نكن نتخيّل أن نُخرج من اليمن كما أُخرجنا من سوريا، اعتبرنا اليمن وطننا الثاني وأحببنا البلد وأهله، لكننا كما ترين وجدنا أنفسنا فجأة نازحين في تركيا، مولين ظهرنا لأعمالنا ومتاعنا وكل ما أسسناه خلال ثلاث سنوات».
كانت الصدمة قاسية على العائلة كما تقول أم أحمد، لكنها تضيف «تعودنا كسوريين أن تتوالى علينا الصدمات، وأن تنقلب الأمور فجأة وكليَّا، لذا بدأ زوجي وإخوته بدراسة الخيارات المُتاحة أمامنا للعمل والعيش».
استأجر الإخوة منازل تأوي أسرهم في أحد أرياف اسكندرون جنوبي تركيا، واختاروا منطقة ريفية تحوي جالية ومدارس سورية مع أسعار بيوت منخفضة مقارنة بإيجارات البيوت في اسطنبول، واستأجروا أرضًا صغيرة ليزرعوها ويستثمروا نتاجها بالقرب من منزلهم، في حين توجه الشباب من العائلة إلى اسطنبول بحثًا عن فرص عمل مناسبة، تشرح لنا أم أحمد «استأجر زوجي وإخوته والشباب من العائلة بيتًا لهم في اسطنبول وسجّلوا بدورات لتعلّم اللغة التركية، وبدؤوا في ذات الوقت بالعمل هناك بخبرتهم ذاتها ومجال الغذائيات عينه، في نفس الوقت نظّموا جدولًا يتناوبون وفقه على التواجد ما بين اسكندرون واسطنبول، صحيح أننا نعاني من شتات العائلة وصعوبات في الاندماج والتعامل إلا أننا نرجو تحسّن أوضاعنا مع الوقت».
أم زياد والأيتام
تعيش الحاجة أم زياد في تركيا منذ عام كامل، تركت بيتها وأبناءها الشباب في الغوطة بعد أن حال الحصار بينها وبينهم، لم تكن أم زياد يومًا تاجرة كأبي أحمد، لكن بعدها عن بلدها وأبنائها جعلاها تفكّر بطريقة للمساعدة ودعم الأيتام مع تزايد أعدادهم في بلدتها، تقول لنا «الشعور بالعجز كبّلني، ليس بيدي شيء أقدمه وأنا أرى عدّاد الشهداء في تزايد يوميّ، تواصلت مع الجمعية الخيرية في دوما وسألتهم عن كفالة اليتيم، أخبروني أنه يمكنني كفالة يتيم بـ 50 ليرة تركية في الشهر».
ولأنها لا تملك مالًا ولا عملًا، بدأت تبحث عن سبل لتحصيل المال فأعلنت عن مشروع لكفالة اليتيم مقابل ليرة واحدة أسبوعيًا، ووجد المشروع كثيرات استسهلن المشاركة به، وما إن تحصّل لدى أم زياد مبلغًا جيدًا من المال حتى اشترت به ماكينة خياطة، تضيف «في الجوار صبيّة تتقن الخياطة، وترغب بالعمل، اتفقتُ معها على نقل الماكينة لمنزلها حيث ستعمل بالخياطة للناس، على أن تعطيني نصف الغلّة الناتجة عن عملها وهو الذي سيعود لصالح الأيتام، بهذا الشكل أشعر أنني أشارك ولو بجهد بسيط في المساعدة، إضافةً إلى إعانة شابّة عاطلة عن العمل هنا في تركيا».
تقول أم زياد إن ما سيتراكم عندها من مال جديد ستستثمره بأسلوبٍ مشابه، وهكذا حتى تصل إلى نقطة يُمكنها تأمين مبالغ عالية وثابتة لكفالة أكبر عدد مُمكن من أيتام الغوطة.
تضيف أم زياد أن لها نشاطًا آخر لا تخجل منه، إذ ترتاد بسطات الثياب المستخدمة في الأسواق الشعبية، لكن هدفها مختلف، وعنه تخبرنا «أنتقي أفضل الملابس وأكثرها جودة، أغسلها وأكويها وأوزعها على من أعرفهم من العائلات المستورة، وهكذا أعفيهم من البحث في الملابس القديمة والشعور بكسر الخاطر، أنا نفسي أشاركهم نفس الثياب ولا أبالي».
همام يدرس التركية
بعد أن خرج همام (17 عامًا) من حلب مع أبيه المسنّ وأمه المريضة، لم يجد بُدًّا من ترك الدراسة بغرض العمل، كان الأمر صعبًا عليه وهو الطالب المتفوّق في دراسته، يحكي عن قصته قائلًا «في المنطقة التي استأجرنا منزلنا فيها لا يوجد مدرسة ثانوية للسوريين، وكان أمامي أحد حلّين: إما أن أعيش بعيدًا عن أهلي لأكمل تعليمي، أو أن أتعلم اللغة التركية لأدرس في المدرسة التركية الوحيدة في القرية».
لكن الخيارين لم يكونا متاحين لهمام، فالحاجة المادية أولى بالنسبة له، وهكذا بدأ بالبحث عن عمل ليلتحق في النهاية بورشة للديكور والرخام مع ربّ عمل تركي، يقول «لم أعمل يومًا بهذا المجال، لكنني مضطر وهذا ما دفعني للجد وإثبات نفسي».
انقطاعه عن الدراسة لم يمنعه من التفكير بها والإصرار على العودة لها ولو لاحقًا، خاصة مع بدء تعلّمه للغة التركية، يضيف «في البداية كنت أتفاهم مع العمال باستخدام برنامج ترجمة على الموبايل ولغة الإشارة، أو بالاعتماد على الأصول السوريّة لبعض العمّال وفهمهم لكلمات عربية بسيطة، لكنني مع الوقت بدأت باكتساب مفردات تركية تمكنني من التواصل معهم، اليوم أستطيع تكوين جملة باللغة التركية وأفهم السياق العام للكلام».
بعد عام من الانقطاع والعمل لادخار النقود سجّل همام في ثانوية بعيدة عن منزله، حيث يتهيّأ اليوم لدراسة «البكالوريا العلمي» بعد أن بذل جهدًا استثنائيّا في الحفاظ على مهاراته اللغوية والمعرفية حسب قوله «أشاهد أفلامًا وثائقية باللغة الإنكليزية وأطلع باستمرار على مناهج الثانوية العلمية حتى لا أفقد معلوماتي، أتمنى أن أُوفق في البكالوريا وأتمكن من متابعة الدراسة الجامعية لاحقًا».
أبو أحمد، أم زياد، وهمام الذي يعمل صيفًا ليدرس شتاءً، وغيرها الكثير من قصص سمعناها ورأيناها لنجاحات فردية، قرّر أصحابها أن يتحدوا واقعهم وأن يستفيدوا من كل الإمكانيات الموجودة ليستخلصوا النجاح أينما حلّوا، ولسان حال كلّ منهم يقول «إن كان ثمة وجود للنجاح، فليكن هنا، والآن».