الرقة – حسام العمر
“اتهمونا أننا شبيحة للنظام، واتهمونا بالجبن، وأشياء أخرى، لا أدري لماذا، لكن الرقة وأبناءها قالوا كلمتهم في وقت قصير من عمر الثورة”، قال خالد واصفًا حال مدينته التي سُميت بـ”عاصمة التحرير” خلال أعوام الثورة السورية.
تعرضت الرقة وسكانها لانتقادات من السوريين بسبب “تأخرها” عن ركب الثورة السورية، حسب رأي المدرّس الأربعيني خالد الحسين، مشيرًا إلى خطأ ذلك الاعتقاد، الذي يأتي من “تهميش” المنطقة حينها.
خرجت أولى المظاهرات في الرقة خلال شهر آذار من عام 2011، وتعرض المتظاهرون فيها للقمع، كحال من احتجوا في بقية المحافظات، إلا أن ما ميّزها هو تمكن فصائل المعارضة من انتزاعها من سيطرة النظام السوري قبل أي مدينة أخرى في سوريا.
“تهميش” لم يعنِ التخلي عن السيطرة
رفض خالد مغادرة مدينته الرقة طوال السنوات العشر الماضية، ليشهد “منعطفًا كبيرًا” في تاريخها وتركيبتها الاجتماعية والسياسية، على حد وصفه.
كان لميليشيا “الدفاع الوطني” السلطة الأولى على المدينة قبل وقوعها تحت سيطرة الفصائل المعارضة، إذ تحكم عناصرها بكل مفاصل الحياة، حسبما قال خالد، من الأفران ومحطات الوقود والأسواق، وفرضوا الإتاوات على السكان، وطلبوا الرشى بشكل علني من كل من يمر عبر حواجزهم المنتشرة داخل المدينة وعلى أطرافها.
اختارها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لصلاة العيد في تشرين الثاني من عام 2011، وكانت زيارته الأولى للمدينة الواقعة شرق نهر “الفرات”، لكنه لم يتمكن من التأثير على أهلها وإقناعهم بتأييده، لأن قواته لم تتردد باستخدام العنف والقتل في محاولة ردع المدنيين عن الاحتجاج على سوء الأوضاع المعيشية والقسوة الأمنية.
وتتميز الرقة بتركيبة سكانية عشائرية، وأكبر قبائلها قبيلة “العفادلة”، التي تتفرع منها عدة عشائر تسكن وادي الفرات، وعشيرة “البوشعبان” و”الولدة” و”السبخة” و”البوعساف” وعشائر أخرى، جعلت سكانها يتكاتفون ضد ما ارتكبته قوات النظام من قتل واعتقال للمتظاهرين.
سقط “هبل”
سيطرت فصائل من المعارضة السورية، وأخرى إسلامية، على مدينة الرقة، في 4 من آذار عام 2013، بعد تمهيد بدأ بالهجوم على 22 حاجزًا وفرعًا أمنيًا في وقت واحد، وتقديم مهلة قبل يومين لعناصر النظام السوري للمغادرة.
“أجمل” اللحظات التي أعقبت إعلان “تحرير” المدينة كانت إسقاط تمثال الرئيس السابق للنظام، حافظ الأسد، الذي كان يتوسط ساحة المحافظة، حسب رأي الشاب الثلاثيني مصطفى النجم، الذي شبهه بإسقاط صنم “هبل”.
شهدت الأيام الأولى من سيطرة الفصائل المعارضة قلقًا من السكان، حسبما قال مصطفى لعنب بلدي، لكن التكبيرات التي صدحت بها مآذن الجوامع، بإيعاز من قادة الفصائل، والنداء للأهالي بالعودة إلى الحياة الطبيعية، طمأنهم.
وحافظت قوات النظام السوري على وجود محدود لها في بعض المناطق من المحافظة، كان أكبرها مقر “الفرقة 17 مشاة” شمال المدينة، واللواء “93 دبابات” بالقرب من عين عيسى ومطار “الطبقة” العسكري.
تنظيم “الدولة الإسلامية” يختار الرقة عاصمة لـ”الخلافة”
سرعان ما اتجهت الأنظار نحو المدينة التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، فبعد “تحريرها”، غرقت الرقة بالمناشير والنقاط الدعوية والإعلامية، مع الإصدارات المرئية التي تتحدث عن عودة “الخلافة على منهاج النبوة”، وعودة تطبيق الشريعة الإسلامية، حسبما قال مصطفى.
بعد معارك خاسرة خاضها مقاتلو ما كان يعرف بـ”دولة الإسلام في العراق والشام”، ضد فصائل من المعارضة السورية في ريفي إدلب وحلب، توجهت أغلبيتهم نحو الرقة، منذ تموز عام 2013.
لم تمضِ أشهر طويلة قبل أن يتمكن مقاتلو تنظيم “الدولة الإسلامية” من التغلب على الفصائل الموجودة في المدينة، التي انسحبت، بداية عام 2014، نحو مناطق ريفي حلب الشرقي والشمالي.
علي المشرف، مقاتل سابق في “لواء ثوار الرقة”، قال لعنب بلدي، إن ثوار المدينة “قاوموا التنظيم دون جدوى”، بسبب شراسة مقاتليه وأعدادهم الكبيرة، إلى جانب الإمدادات التي حصلوا عليها من المحافظات الأخرى، التي كانت فرقهم تنسحب منها.
سيطر تنظيم “الدولة” بشكل كامل على محافظة الرقة بعد تمكنه من حيازة “الفرقة 17″، و”اللواء 93″، ومطار “الطبقة” العسكري، من يد قوات النظام، وأعلن عن تأسيس “الدولة الإسلامية”، عبر تسجيل صوتي لأحد قادة التنظيم، واتجه مباشرة لإزالة أي أثر للثورة السورية، من أعلام ومؤسسات، واستهدف المقاتلين والناشطين بحجة “الردة”.
الكلمة العليا لـ”المجاهدين”
“حقبة سوداء” هو وصف سكان الرقة الذين اختبروا حال مدينتهم تحت حكم تنظيم “الدولة الإسلامية”، وعانوا في ظله من “الخوف”، مؤكدين أن “أصغر مخالفة شرعية”، من التأخر عن أداء الصلاة أو قصة شعر أو قصر الثياب أو ظهور عيني المرأة أو جزء من يديها، كانت كفيلة بإيداع صاحبها في سجن “الحسبة”.
“لقبونا بالعوام، أحسسنا أننا الغرباء داخل مدينتنا التي ولدنا وعشنا فيها، باتت الكلمة العليا للمجاهدين ونحن لا حول لنا ولا قوة”، بهذه الكلمات وصف مصطفى حال سكان الرقة الذين عاشوا تحت حكم التنظيم، الذي امتلأت صفوفه بالأجانب من عشرات الجنسيات المختلفة.
شدت قسوة التنظيم أنظار العالم إليه، خاصة عند مذبحة الإيزيديين وقطع رؤوس السجناء الأجانب، وكان لحملاته الإعلامية أثر على جذب الأنصار والمهاجرين من العالم الغربي الذي اتحد قادته لمحاربته، مؤسسين ما سمي بـ”التحالف الدولي”، الذي ضم ما يزيد على 80 دولة، تقودهم الولايات المتحدة الأمريكية.
برأي علي، المقاتل السابق في “لواء ثوار الرقة”، فإن توجه التنظيم نحو مدينة “عين العرب” (كوباني)، كان بمثابة أول المسامير التي دُقت بنعشه، وذلك بعد غارات لطيران التحالف، انتهت بإبعاد مقاتليه وانسحابهم خارج المدينة، لتتوجه أنظار المجتمع الدولي نحو القوات الكردية كحليف على الأرض لقتال التنظيم.
وبعد إعلان تأسيس “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، عام 2015، بدأت المعارك المباشرة بينها وبين تنظيم “الدولة”، الذي كان مقاتلوه قد اشتبكوا سابقًا مع “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، التي شكلت نواة القوات الجديدة.
خشي سكان الرقة من عودة النظام إلى مدينتهم، بعد اقترابه من الحدود الإدارية الجنوبية للمحافظة، لا سيما الرصافة الواقعة بريف الرقة الجنوبي الغربي، رغم معاناتهم من تنظيم “الدولة”، وترقبوا بصمت “تحريرًا” جديدًا لمدينتهم، كان أبرز المرشحين لتحقيقه هي “قسد”.
في 6 من تشرين الثاني من عام 2016، انطلقت عملية “غضب الفرات” من قبل “قسد”، وخلال ستة أشهر، تمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على بلدات وقرى حول الرقة، واستعادت مساحات واسعة من محيطها، قبل بدء الهجوم المباشر على المدينة المعزولة في 6 من حزيران عام 2017.
واجه مقاتلو تنظيم “الدولة” 30 ألف مقاتل من “قسد”، مع غطاء جوي من قبل “التحالف الدولي”. ياسين إبراهيم (35 عامًا)، من قرية كسرة فرج بريف الرقة الجنوبي، قال إن التنظيم بدأ بالتضييق على المدنيين بشكل “كبير” بعد الخسارات العسكرية التي بدأ بالتعرض لها.
الرقة من يد ليد
سيطرت “قسد” على مدينة الرقة أواخر عام 2017، بعد معارك شوارع ضد مقاتلي تنظيم “الدولة”، استمرت 166 يومًا، وقع فيها آلاف المدنيين قتلى، إلى جانب دمار جزئي بلغت نسبته 90%، وكلي بنسبة 60%، تعرضت له أحياء المدينة.
ياسين وصف “قسد” بـ”أحلى الأمرين”، بالمقارنة مع تنظيم “الدولة” والنظام السوري، لكن ما يحن إليه السكان، حسبما قال، هو الأيام الأولى لـ”التحرير” من سيطرة النظام السوري، التي كانت “أجمل أيام الرقة”، على حد تعبيره.
وتحولت الرقة إلى عاصمة لـ”الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا”، و تحوي على المقر الرئيس لـ”المجلس التنفيذي” و”المجلس التشريعي” و”مجلس سوريا الديمقراطية”، ومؤسسات أخرى تعد الركيزة الأساسية في الهيكلية التنظيمية والمدنية لـ”قسد”.
وحسبما قال سكان محليوّن من الرقة لعنب بلدي، استطاعت “الإدارة الذاتية” و”قسد” إعادة شيء من الحياة المدنية التي افتقدتها الرقة خلال السنوات الماضية، لذلك هي أقرب ما تكون لنظام الدولة المدنية رغم بعض السلبيات داخل المؤسسات، التي لاقت تهمًا بالفساد، وما زالت تعمل على ترحيل الأنقاض وتأمين الخدمات.