عنب بلدي – سكينة المهدي
تدور كثير من الأسئلة عند الحديث عن قدرة الأم العاملة على تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والعمل، وتأثيره على وظيفتها كأم، بسبب شعورها بالتقصير مع أبنائها لطول المدة التي تقضيها بعيدة عنهم.
فماذا عن الأم السورية العاملة في المخيمات، في ظروف لا تشبه حياة الأسر المستقرة، ووسط تحديات عديدة لتأمين لقمة العيش.
تسكن ردينة العلي (28 عامًا) في مخيم “الخيارة” بإدلب، وهي أم لطفلة في العاشرة من عمرها، وطفل في السابعة، تخرج يوميًا من الخيمة لتعمل بجزّ الأعشاب الضارة من الحقول، وتكسب عشر ليرات تركية (1.3 دولار) في اليوم، لتؤمّن لقمة العيش لها ولأطفالها.
“عملت بالكثير من المجالات لأعيل أطفالي، عملت بالورشات وبقطاف الزيتون سابقًا، ولست راضية عن وضعي لكنني مضطرة لذلك، فزوجي متوفى وأبي معتقل لدى النظام ووالدتي متوفاة، وليس لدي إخوة”، قالت ردينة لعنب بلدي واصفة طبيعة عملها.
تترك ردينة طفليها برعاية جيرانها في الخيمة المجاورة، وتخرج منذ الصباح حتى مغيب الشمس، ولا تستطيع رؤيتهما وتمضية الوقت معهما كأم إلا مدة ثلاث ساعات في نهاية اليوم، ولا أحد يعينها على تربيتهما، فهي تقوم بدور الأم والأب معًا، لكنها غير راضية عن هذا الوضع الذي وصفته بـ”المأساوي”.
“أنا وحيدة في هذا المجتمع، ولا أحد يعينني على تربية أطفالي، ولم تتكفل أي جهة بمصاريفهم، ولا توجد مبادرات أو منظمات تقدمت لتعينني بتحسين وضعي الأسري والمعيشي، رغم معاناتي الشديدة”.
830 مليون عاملة من دون حماية
على الرغم من التقدم المُحقق في إعانة الأمومة، يوجد تقرير صادر عن منظمة “العمل الدولية” يفيد بأن معظم نساء العالم لا يزلن غير محميات في العمل.
وأشار التقرير الصادر عن منظمة “العمل”، إلى أن معظم البلدان أقرت أحكامًا لحماية الأمومة منذ عام 1919 عندما اعتمدت المنظمة أول اتفاقية لحماية الأمومة، وعلى الرغم من ذلك، كان يوجد في عام 2014 830 مليون عاملة لا يتمتعن بحماية كافية، بحسب المنظمة.
الأمان منعدم في المخيمات
محمود السيد، مدير مخيم “الطيب” شمالي إدلب، قال لعنب بلدي، إن عدد الأمهات العاملات في المخيم المسؤول عنه فقط 50 أمًا أو أكثر، “يتركن أطفالهن عند شخص راشد في المخيم، وكلهن بحاجة إلى العمل بسبب الفقر والوضع المعيشي الصعب”.
الأمهات محتاجات بشدة إلى العمل، ولولا ذلك لما خرجن للعمل بورشات أو في الحقول المجاورة، وتركن أطفالهن في المخيم إما وحدهم وإما برفقة شخص غريب، كما قال مدير المخيم.
وأضاف السيد أن دور الجمعيات غائب، وبرأيه، لو استطاعت الأم تأمين قوت يومها وقدمت الجمعيات مساعدات بسلال غذائية أو غيرها، لما اضطرت لترك أطفالها، ومن المؤكد أن الخطورة كبيرة على الطفل عندما يُترك في خيمة وحده دون وجود شخص واعٍ معه، فالخيمة ليست آمنة، وكم من خيمة احترقت بسبب انفجار أسطوانة غاز أو غيره من الأسباب.
وكانت عدة حوادث لاحتراق مخيمات حدثت سابقًا بسبب انفجار أسطوانة غاز في إحدى الخيم، مثل الحريق الذي شهده مخيم “البل” بمدينة صوران في ريف إدلب الشمالي في 2 من أيلول 2019، والحريق في مخيم “أرض المطار” شمالي إدلب، الذي توفيت نتيجته طفلة وأُصيبت أخرى في 10 من كانون الثاني الماضي.
كما أُصيب طفل بحروق، في 5 من كانون الثاني الماضي، في مدينة اعزاز شمالي حلب، بسبب المدفأة، بحسب “الدفاع المدني”.
العمل ضرورة لا خيار
الطبيبة والاستشارية الأسرية نسيبة جلال، قالت لعنب بلدي، إن شخصية الطفل تتكون في السنين الأولى من نشأته، وتتأثر بدرجة كبيرة بالبيئة المحيطة به وهي العائلة، وبالأخص وجود الأم، فهو ضروري وله تأثير على نمو الطفل الجسدي والنفسي، والأم هي مصدر أمان وثقة للطفل، وغيابها مصدر قلق وخوف واضطراب نفسي.
لكن الظروف المادية الصعبة لأغلب الأمهات السوريات في المخيمات، دفعتهن للبحث عن فرص عمل تعينهن على العيش، والعمل لبعض الأسر ضرورة لا خيار، فالأم مجبرة على تلبية الحاجات الأساسية للأسرة في هذه الظروف، لكن بعض الأطفال لا يحتملون غياب الأم عنهم لفترات طويلة في العمل، خاصة في السنوات الأولى من عمرهم.
وأوضحت الاستشارية الأسرية أن الطفل قد تظهر لديه العديد من المشكلات السلوكية، مثل العدوان أو الانسحاب أو التبول اللا إرادي أو الكوابيس في الليل وضعف الثقة بالنفس، وهذه المؤشرات تدل على أن الطفل يعاني من غياب الأم، وهو بحاجة إلى أن تبقى معه، خاصة عندما يكون الغياب لساعات طويلة عنه.
كما أن الأطفال بحاجة إلى تأمين الجانب العاطفي ببقاء الأم بجانبهم، خاصة في المراحل الأولى من عمرهم، وهم بحاجة أيضًا إلى الحب والحنان وإشباع عاطفة الاحتضان والضحك واللعب معهم، وتكون الأم السورية العاملة تحت ضغط العمل والبعد عن أطفالها، ما يسبب لها القلق ويجعلها دائمًا في حالة توتر يؤثر سلبًا على علاقتها بأطفالها، فتجد نفسها في ما يسمى بصراع الأدوار، بحسب حديث نسيبة جلال.
وهذا الصراع يكون بين متطلبات تربية الأطفال والبقاء معهم، ومتطلبات العمل لتلبية احتياجاتهم الرئيسة، وهنا تختار الأم بين الأولويات، بين السعي جاهدة للحفاظ على نفسية سليمة لأطفالها بالبقاء بجانبهم، وأيضًا ترغب بالحفاظ على عملها الذي تكسب منه قوتها، ما يسبب ضغوطًا نفسية كثيرة للأم، فتكون مرهقة من العمل ومرهقة بتأنيب الضمير لأنها تركت الأطفال، فتجدهم عندما تعود يبكون أو يقولون لها إنها تأخرت، فتشعر أنها لا تستطيع إرضاء أبنائها، فيؤثر ذلك على نفسيتها سلبًا.
وتؤوي مخيمات النزوح كثيرًا من النساء الأرامل والمعيلات لأسرهن اللواتي يكافحن لتأمين سبل العيش، ويواجهن تحديات كبيرة لتوفير أبسط الحاجات، معتمدات على المساعدات الإغاثية ومساعدات الأقارب فقط، بحسب دراسة أجراها مركز “عمران للدراسات“.
ووضعت الدراسة مجموعة من التوصيات الخاصة بتمكين النساء في المخيمات، تشمل تحليل أوضاع المرأة السورية في مخيمات النزوح وتحديد احتياجاتها، وأيضًا تشكيل مجموعات نسوية وقوى تضغط لرفع أصواتهن، وتقديم برامج الدعم النفسي والاجتماعي للمرأة بالتوازي مع برنامج التمكين الاقتصادي.
كيف تخفف الأم الضغط المترتب عليها
قالت الطبيبة والاستشارية الأسرية نسيبة جلال، إن الأم العاملة يمكنها الاستعانة بأحد لمساعدتها على تربية أطفالها، فهي لا تستطيع القيام بكل الأدوار وحدها، وفي حال وجود الأب، يجب عليه تحمل مسؤولية رعاية الأبناء معها، ومسؤولية أعباء الحياة بشكل عام، وفي حال غياب الأب، يمكنها الاستعانة بالأقارب أو الجيران، فالمجتمع السوري تضامني، وستجد من يساعدها.
لكن على الأم اختيار شخص موثوق يتمتع بخلق سليم، لتؤمّن على أطفالها معه، كما أن على الأم تنظيم وقتها، ويمكنها ممارسة تمارين التنفس بعمق والجلوس لفترات معيّنة، لتستطيع القيام بالمهام الكثيرة المترتبة عليها، ويمكن أن يسهِّل الحديث مع شخص تثق به عن مشكلاتها بعض الأمور، كأخذ النصح والتشاور حول المشكلات في حياتها، وقد يخفف هذا قليلًا من الضغط المترتب عليها، ولا بد أن تقضي وقتًا كافيًا مع أطفالها وتتحدث وتلعب معهم لتعويض فترات غيابها.