لأنك قد تحب ميادة بسيليس
نبيل محمد
سيكون حفل أحيته المطربة التي غيّبها السرطان عن عالمنا قبل أيام، ميادة بسيليس، وأُقيم في دار “الأوبرا” في ربيع 2013، وصدحت فيه المطربة “شوفو بلدي بلد الشمس اللي بتشرق بالحرية.. شوفو بلدي كيف الحب بيتصدّر للبشرية”، سيكون جزءًا مما سيمنع آلافًا من معجبيها أن يبوحوا بأنهم فقدوا الآن صوتًا مختلفًا أحبوه يومًا ما في صحراء بلادهم الفنية، وطاقة غنية في ظل فقر بلادهم بالأغنية المحلية القادرة على الحضور والتأثير، وسيكون موقفها أيضًا غير قابل للتأويل، موقف من مدينتها حلب التي “تقف ضد الإرهاب”، وفق قولها حينها، في ظل المحرقة الجماعية التي يشعلها النظام الذي نظّم الحفل، ووظف بسيليس حينها، وفي أحيان أخرى، لتكرّس مفهوم الوطن الجامع، في ظل وطن الخراب سوريا.
مشروع ميادة بسيليس كان ضربًا من مشاريع فنية عدّة للخروج بأغنية سورية خالصة، قادرة على أن تقدّم كلمة وموسيقى وصوتًا ولهجة محلية، غير منساقة خلف محاكاة أغانٍ ومدارس عربية أخرى، كالخليجية والمصرية واللبنانية، وغير مسكونة بالتراث المحلي أيضًا، لكن قدر هذه التجربة هو التعبير عن ذاتها في إطار لا يمكنه الخروج من هذه المحلية إلى نطاق عربي أو عالمي، طالما أن المنظومة الثقافية والفنية الشمولية لن تتيح لها أكثر من الحضور على خشبات حفلات رسمية، وأغاني المناسبات الوطنية والقومية، وبعض شارات الأعمال التلفزيونية.
ميزة ما كانت لبسيليس، خلقها صوتها وأداؤها بالدرجة الأولى، فلا هي ابنة القدود الحلبية الملتزمة بعدة أغانٍ مل التكرار من تكرارها، ولا هي ابنة سوق “الفيديو كليب” السريع، إلا أن استقلاليتها خارج تلك الإطارات لم تعطها فضاء رحبًا، فقد قيّدها مشروعها ذاته بشكل معيّن مكرر أيضًا، مشروع لا بد أنها أنتجت فيه أغنيات مميزة وذات أثر أهمها “كذبك حلو”، التي كانت في يوم من الأيام اختبارًا صوتيًا لكثيرين ممن أرادوا التعبير عن نقاء واتزان أصواتهم، أن تغني “كذبك حلو” بطريقة جيدة هذا يعني أن صوتك جيد.
ما حاصر صوت وأداء ميادة بسيليس طوال تجربتها الفنية غير القصيرة نسبيًا، هو دكتاتورية موسيقية مورست على فنها من قبل زوجها الملحّن سمير كويفاتي، الذي يبدو أنه ارتأى أن مشروعه مع بسيليس قد يشابه تجربة فيروز مع الرحابنة، فيخضِع الصوت لسلطة الملحن الواحد، وفي حالة بسيليس الكاتب الواحد أيضًا، أي سمير طحان الذي كتب أغلب أغانيها، ويزيد على ذلك بأنها أصبحت أيضًا جزءًا من مشروع فني لغناء شارات أعمال تلفزيونية أخرجها باسل الخطيب، كانت إلى حد ما مكافئًا فنيًا لكتب القومية في مدارس “البعث”، إلا أنه وبلا شك كانت أغاني الشارات أفضل ما احتوته تلك الأعمال.
في الذاكرة عدة أغانٍ كانت دائمًا منتظَرة من ميادة بسيليس بمجرد إحيائها لحفل ما في دمشق أو حلب أو سواهما، “على عيني” و”يا طيوب” و”أحسنلك تروح”، كانت ما يجعل بسيليس مختلفة عمن يسبقها أو يلحقها على المسرح من مغنين عادة ما يحضرون معًا في مهرجانات مكررة لا شيء فيها ممتع سوى ما يمكن أن تختلف فيه بسيليس عن الشكل العام، صوت يمكن أن يحرّك فيك شيئًا وأنت المستمع الجالس، أو الصحفي المجبر على تغطية الفعالية، أمامك في المدرّج شعار الحفل وصورة راعيه، تنتظر انتهاء الفعالية بسرعة، وما إن تقول ميادة “يا طيوب طيبلي روحي” حتى تسألها في قرارة نفسك، لماذا أنتِ هنا؟
صمتت ميادة بسيليس، في تلك البلاد التي لديها من الأدوات الكثير لإسكات الأصوات، ودفن الفنون، وحرق المواهب، وتوظيف أي منتج إبداعي في مطبخ الرسالة الواحدة، وتبديد أي تجربة يمكن لها أن تخرج عن قواعد النشيد الواحد الذي عليه أن يتجلّى في أي صوت يغني أو وتر يعزف أو كاميرا تتحرك.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :