تعا تفرج
تعال نكذب في ذكرى الثورة
خطيب بدلة
في مناطقنا، يطلق الناس تشكيلة من الألقاب الظريفة على الشخص الذي يكذب، فيقولون عنه: فشار، وبلاف، وفرام، وطشاش، ودجال، وشَحَّار… وعندما يكون مجلس الأنس ملتئمًا، ويتنحنح أحد الكذابين ويقول “من زمان يا شباب صارت معنا شغلة بتمزع العقل..” يبدأ بعض الحاضرين بتبادل الابتسامات، وإذا كان اثنان منهم يجلسان متجاورين يميل أحدهما على الآخر ويهمس له: ليكُه فلان رَكَّب فَرَّامة الكذب!
الكذب، مثله مثل مختلف الظواهر الاجتماعية، يتطور، وتتجدد موضوعاته، من كذاب يحكي لك كيف كان ذاهبًا من معرتمصرين إلى قريته في الليل، واعترض الضبع طريقه، فصارعه، وصرعه، وفشخ حنكه.. إلى بلاف يخترع القصص أمام زوجته ليخفي عنها تخبيصاته، وصولًا إلى فرام يصرع رؤوس أصدقائه بقصص علاقاته الغرامية المحفوفة بالمخاطر (وأنه، مع ذلك، كان ينجو، لأن البنات مستقتلات عليه!).. إلى دجال يتحدث عن علاقاته الوطيدة مع وزراء وأعضاء قيادة قطرية وضباط مخابرات، وكيف أنهم يعرضون عليه خدماته وما عليه إلا أن يشير بإصبعه لينفذوا ما يطلب.. حتى نصل إلى كذوب آخر يحكي عن جرأته وإعلان معارضته النظام بحضور المحافظ وأمين الفرع، وأمام ضابط مخابرات كبير، وهو غير مبالٍ بالنتائج.
الثورة، كما تعلمون يا أعزائي، تجبّ ما قبلها، ولهذا ظهرت مجموعة لا يمكن حصر عدد أفرادها من الكذابين، وتفرعت كتلتهم الكبيرة، مع مرور السنوات، إلى مجموعة من الاختصاصات، ولأن الثورة لها موعد سنوي، منتصف شهر آذار، فإن تضافر عمل الكذابين في مثل هذه الأيام يجعل الكذب، كما يقول أهل بلدنا، يصل إلى محازم الخيل.
يعتقد كاتب هذه الأسطر أن الاشتراك في الثورة، منذ أيامها الأولى، عمل جيد، ولكنه ليس فضيلة بحد ذاته، ومع ذلك ترى أناسًا كانوا في تلك الأيام خارج البلاد، أو ربما كانوا في الداخل ولكنهم مترددون، خائفون، وهذه ليست مثلبة، فالثورة على نظام يمتهن القتل والإجرام ليست بهذه السهولة، ولكن المثلبة أن يمثّلوا أمامنا دور الشجعان، ويصرعون سمانا بحكايات عن اشتراكهم في المظاهرات، ومحاصرتهم من قبل عناصر الأمن، وقطعان الشبيحة، وتعرضهم للقنابل المسيلة للدموع، ويزعمون أحيانًا أنهم نجوا من الرصاص الحي بأعجوبة.. ويعود بعضهم بحديثه إلى ما قبل الثورة، ليكتشف، ونحن نكتشف معه، أنه كان معارضًا من النوع المستتر، وبعضهم يزعم أنه كان معارضًا شرسًا، ويروي لنا كيف استدعاه الضابط الفلاني، وسأله سؤالًا، فرد عليه ردًا جعله ينسطل، وغضب منه وقال له: ولاك، ترى بشرفي بنزلك ع الدولاب. فقال له: إيدك وما تطول، ومية دولاب بقشرة بصلة!
وهناك كذابون من النوع الذكي، يتجنبون الادعاء بأنهم شاركوا في المظاهرات والاعتصامات ضد النظام المجرم، ويتخذون وضعية الرجل الوطني المفكر، ولذلك يكتفون بالتنظير للثورة، ويؤكدون لنا أن النظام (المجرم) سيسقط مهما طال الزمن، والثورة ستنتصر وتحقق أهدافها، دون أن يكلف خاطره ويشرح لنا ما هي هذه الأهداف.
ملاحظة: أنا، محسوبكم، لست أحسن من هؤلاء القوم، وأحيطكم علمًا بأنني ضبطت نفسي، أكثر من مرة، وأنا أكذب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :