الهروب إلى الموت.. شبح الانتحار يلاحق السوريين

  • 2021/03/14
  • 11:08 ص

عنب بلدي – لؤي رحيباني

صار الانتحار شبحًا يخيّم على مناطق عدة في سوريا، إذ إن بعض الأشخاص الذين يتملكهم الإحباط واليأس قد يصبحون هدفًا سهلًا للفكر الانتحاري، فالأخبار التي تتحدث عن مقتل شبان وشابات في مناطق متفرقة من سوريا، لم تعد بجديدة أو فريدة من نوعها.

وتعد الحالة الاقتصادية السيئة التي تعصف بالبلاد، قاسمًا مشتركًا في جميع مناطق السيطرة على الخريطة السورية، المتمثلة بمناطق النظام والمعارضة و”الإدارة الذاتية”، إذ إن وقائع الانتحار تحدث في كل هذه المناطق، ولكن وصول المرء إلى هذه الحالة النفسية بوضع حد لحياته تعززه جملة معقدة من الأسباب.

مدير فريق “منسقو الاستجابة”، محمد حلاج، قال لعنب بلدي، إنه وثق 19 حالة انتحار في مناطق المعارضة شمال غربي سوريا، في عام 2020، بينما وثق أربع حالات في العام الحالي، آخرها كانت في مخيمين بمحافظة إدلب.

رسموا نهايتهم

في 8 من آذار الحالي، أقدم شاب ثلاثيني على الانتحار، بعد أن نزح من مدينة كفرنبودة غربي حماة إلى مخيم “شهداء كفرنبودة” ضمن تجمع مخيمات “تل الكرامة” شمالي إدلب، وذلك عبر إطلاق النار على نفسه في منطقة الرأس، وفق مراسل عنب بلدي في المنطقة.

وضمن الـ24 ساعة من الحدث نفسه، أقدم شاب آخر، في تجمع مخيمات “الأندلس” ببلدة زردنا شمالي إدلب، على الانتحار عبر تناوله “حبة غاز” (السامة)، وأفادت مصادر محلية قريبة من المنتحر حينها، بأن سبب هذا الفعل هو الفقر وضيق الحال.

وعزا حلاج لعنب بلدي، أسباب الانتحار في شمال غربي سوريا إلى تردي الحالة الاقتصادية، وانتشار الفقر والبطالة، إضافة إلى العنف الأسري في المنازل، وغياب رعاية الأهالي، فضلًا عن الضغوط المجتمعية.

كما أن من يعانون أمراضًا نفسية يميلون إلى الانتحار أيضًا، وفق مدير “منسقو الاستجابة”.

وفي 3 من آذار الحالي، أقدم شاب يدعى حسين شمص (18 عامًا)، في مناطق النظام بدمشق، على الانتحار تاركًا وراءه رسالة يعبر فيها عن ضعفه وملله من الحياة، ويطالب معارفه بالتحلي بالقوة.

ووصفه أصدقاؤه بأنه مبدع وفنان، محملين الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلد مسؤولية اتخاذ حسين قرار انتحاره، وتنفيذه.

في 26 من شباط الماضي، ذكرت شبكات محلية في مدينة القامشلي أن فتاة قاصرة (17 عامًا) أطلقت النار على نفسها من مسدس حربي في منزلها.

وكتبت في رسالة منسوبة لها، أنها انتحرت لأن الحياة “مو حلوة”.

الانتحار.. مراحله وأسبابه ومحفزاته

الإقدام على الانتحار لا يأتي بقرار لحظي وليد الساعة، وإنما هو نتاج تراكم وتطور في الأفكار التي تحصل في ذهن منفذ الانتحار.

 على سكة الانتحار.. من التبني إلى التنفيذ

الطبيب النفسي الدكتور إسماعيل الزلق عدّد، في حديث إلى عنب بلدي، المراحل التي يمر بها الشخص الذي يود الانتحار، إذ تبدأ بتبني الموت إلى التفكير بإنهاء الحياة إلى التخطيط لذلك وتحويله إلى واقع، ثم تجهيز أدوات الانتحار وصولًا إلى التنفيذ.

وأوضح الزلق أن من يفكر في الانتحار لا تصاحبه الفكرة طوال حياته، وإنما يمكن أن يجد حلولًا بديلة والتكيف مع الوضع الحالي، واعتبر أن ما يشاع في الأحاديث والأفلام والمسلسلات، عن أن الشخص يفكر بالانتحار بشكل دائم هو “محض خرافة”.

تعدد وتشعّب في الأسباب

عمومًا توجد عوامل خطر تؤدي إلى الإقدام على الانتحار، يمكن أن تكون مباشرة ومتعلقة باضطرابات نفسية، أو بالظروف التي يعيشها الفرد، كالظروف الاقتصادية والاجتماعية، وفق الزلق.

ويرى أن غياب الدعم الاجتماعي حول الفرد يمنحه الفرصة في التفكير بالانتحار والتخطيط له أكثر فأكثر.

كما أن حياة النزوح التي أصبحت واقعًا معيشيًا لدى ملايين السوريين، والتي يرافقها وضع اقتصادي اجتماعي إنساني متردٍّ، تسهم أكثر في ازدياد الفكر الانتحاري لدى من يعاصرون هذه التجربة.

بدوره، قال الطبيب النفسي الدكتور مأمون مبيّض في حديث إلى عنب بلدي، إن “موضوع الانتحار مركّب ومعقد وله أبعاد طبية نفسية اجتماعية شرعية قانونية اقتصادية”، موضحًا أن الانتحار ينقسم بين الرغبة والقدرة على التنفيذ.

فحالة “الرغبة” تحصل عندما يصل الشخص إلى اليأس والتشاؤم وعدم إيجاد مخرج من هذه المعاناة، يغذيها عدم وجود مجتمع يدعم هذا الشخص، وعدم وجود يد تمتد للمساعدة.

أما حالة “القدرة” على الانتحار فـ”تنشأ وتنمو من شدة الألم إلى درجة عدم الإحساس بالألم”، قال مبيّض، واستشهد على ذلك بالأشخاص الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب وربما التحرش الجنسي، ما يشكل ذكريات سيئة تعود من حين لآخر إلى الذاكرة على شكل “فلاش باك” (Flashback) أي استحضار صور ومشاهد من الماضي إلى الحاضر لتصبح كابوسًا لا نهاية له.

 فئة الشباب تنتحر.. لماذا؟

ليست الأعباء الاقتصادية والحياتية من نصيب معيلي الأسر هذه الأيام فحسب، بل تطال الأبناء الذين لم يعرفوا طعم الحياة المستقرة، ولا سيما أولئك الذين وُلدوا في أيام الحرب وعاصروها يومًا بيوم.

وبحسب رأي الطبيب النفسي إسماعيل الزلق، فإن الشباب قد يقدمون على الانتحار نظرًا إلى الظروف الصعبة التي تمر في سوريا، فقد يكونون مسؤولين عن أسرهم، أو مستقلين ويتحملون أعباءهم الاقتصادية بأنفسهم، فبالتالي قد يعانون من البطالة وفقدان الدخل وغياب الدعم الاجتماعي.

وتابع، “من لديه عائلة يصعب عليه اتخاذ قرار الانتحار، إذ سيفكر بأسرته ومصيرها من بعده”، مستطردًا أنه “قد يكون من الأسباب المهمة للانتحار، هو عدم وجود شريك، ما يؤدي إلى غياب السند الاجتماعي”.

من جهته، قال الطبيب النفسي مأمون مبيّض، إن هؤلاء الشباب “فقدوا الأمل في المستقبل، ولا يتمكنون من رؤيته”، معتبرًا أن فقدان الأمل من العناصر المهمة للانتحار، وهو ما يدفع المرء لإنهاء حياته كطريقة للهروب مما يعانيه.

وقد يلجأ الهاربون من الحياة إلى طرق مباشرة وغير مباشرة، إذ تتمثل الطرق غير المباشرة بتعاطي المخدرات لإسكات العقل عن التفكير، أما الطريقة المباشرة فتتمثل بالانتحار عبر قتل الشخص لنفسه، وفق الطبيب مبيّض.

 تحت خط الفقر

بحسب ممثلة منظمة الصحة العالمية في سوريا، أكجمال ماجتيموفا، يعيش 90% من السوريين في بلادهم تحت خط الفقر.

وكانت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، إليزابيث بايرز، حذرت من أزمة غذاء غير مسبوقة في سوريا، بسبب تفشي فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).

وقالت المسؤولة الأممية، إن تسعة ملايين و300 ألف شخص في سوريا يفتقرون إلى الغذاء الكافي، وأوضحت أن عدد من يفتقر للمواد الغذائية الأساسية ارتفع بواقع مليون و400 ألف خلال الأشهر الستة الأولى من 2020.

وجاءت هذه التحذيرات في وقت كانت قيمة الليرة السورية فيه تعادل 2300 مقابل الدولار الواحد، أي كانت أقوى بقرابة الضعف مما هي عليه اليوم.

منتحر في أقل من دقيقة

وكانت منظمة الصحة العالمية قالت، في أيلول 2019، إنه في كل 40 ثانية، هناك شخص واحد في العالم يضع حدا لحياته منتحرًا، وإن “عدد من يفقدون أرواحهم بسبب الانتحار كل عام يفوق قتلى الحروب”.

وأشارت المنظمة إلى أن أكثر طرق الانتحار شيوعًا هي الشنق وتناول السم وإطلاق الرصاص على النفس، وحثت الحكومات على أن تضع خططًا للوقاية من الانتحار لمساعدة الناس على التأقلم مع التوتر، والحد من إمكانية حصولهم على وسائل الانتحار.

 في المراتب الأولى لأسباب الوفاة

أما بالنسبة للشباب، فيعد الانتحار ثاني أكبر سبب للوفاة للفئات العمرية بين 15 و29 عامًا، بعد حوادث الطرق، وفق المنظمة.

ويحتل ذات المرتبة بالنسبة لوفاة الفتيات اللائي تتراوح أعمارهن بين 15 و19 عامًا، ويلي السبب الأول المتعلق بالحمل والولادة.

وأضافت المنظمة في تقريرها أن الانتحار يحتل المرتبة الثالثة للوفاة بالنسبة للمراهقين الذكور بعد حوادث الطرق والعنف.

الاستجابة الفورية.. بصيص نور في سوداوية المنتحر

يعتقد صاحب الفكر الانتحاري أن الانتحار والموت هو حل لمشكلاته الحياتية، وسيريحه من الآلام الجسدية والمعيشية التي يمر بها.

ويشبه الطبيب النفسي إسماعيل الزلق من تتملكه رغبة الانتحار بـ”رجل يضع أنفه عند الجدار، فبالتالي لا يرى سوى البقعة الصغيرة المقابلة لعينيه في الجدار (وهي تمثل الحلول)، ولكن إذا ابتعد قليلًا وتراجع، سيرى مساحة أكبر من الجدار (حلول أكثر)”، وفق تعبيره.

أي شخص من الممكن أن يمر بلحظات من الكآبة واليأس، من الممكن أن يتخطاها ويستعيد عافيته النفسية رويدًا رويدًا، من خلال العودة إلى المحيط الاجتماعي وممارسة الأنشطة الممتعة بالنسبة له.

الدكتور إسماعيل الزلق أكد لعنب بلدي أن الاستجابة النفسية للانتحار مهمة جدًا، موضحًا أنها تشمل التعرف إلى الحالات التي تقدم على الانتحار أولًا، ومن ثم التعامل معها.

وبيّن أن للاستجابة مستويين: أولهما الاستجابة الفورية لخطة الانتحار من خلال تقديم الدعم والمساندة للشخص، والتأكيد على أن المحيط الاجتماعي داعم ومتفهم له، بما يؤمّن الهدوء النفسي للمنتحر.

ويضاف إلى ذلك دور المقربين من المنتحر(الزوج، الأسرة، الأصدقاء)، الذين يمكنهم الحيلولة دون تنفيذه خطة الانتحار، عبر إبعاد وسائل وأدوات الانتحار من محيط صاحبها، وبذلك يحمونه من إيذاء نفسه، ويمكنهم تقديم الدعم والمساندة له، وفق الزلق.

أما المستوى الثاني فيكمن في البحث بالأرضية والخلفية وراء الإقدام على الانتحار(ضغوط اقتصادية إنسانية)، وفق الزلق، الذي أشار إلى أن الداعم النفسي يسعى في هذه المرحلة إلى تعزيز التماسك الاجتماعي والبنية الاجتماعية، وإقامة الأنشطة التوعوية في مجال الصحة النفسية، والحث على زيادة الاهتمام بالنفس والتفكير بطريقة إيجابية.

وقال، “يمكن تقديم الخدمات النفسية للشخص إذا كان يعاني من الاضطرابات النفسية، كالاكتئاب والذهان (انفصام شخصية)، أو يمكن إحالته إلى مصادر دعم مختلفة، تقدم الخدمات النفسية، والدوائية”.

وأضاف أن “الدعم النفسي يهدف إلى توضيح ارتباط الظروف التي يعيشها الشخص مع الفكر الانتحاري”، لافتًا إلى أهمية تعريف الناس بالظاهرة والوقاية منها، وضرورة التعامل مع الذين يفكرون بالانتحار، “وهو من أساسيات عمل الطب النفسي”.

وبيّن أن الشخص الذي يصل إلى درجة عالية من الكآبة والإحباط واليأس، يمكن أن يكون لديه اضطراب نفسي يتعامل معه على أنه مريض اكتئاب، ويعالج نفسيًا أو دوائيًا.

ولفت الزلق إلى أنه يمكن لوسائل الإعلام لعب دور كبير في الحد من ظاهرة الانتحار، عبر تقديم التوعية النفسية وتعزيز الصحة النفسية.

“التفكير بالانتحار لا يعني أنك مريض نفسي”، قال الطبيب النفسي مأمون مبيّض لعنب بلدي، وأكد أن الدعم النفسي يتيح الفرصة للشخص للبوح عما يدور في داخله، وبالتالي التنفيس عن آلامه، “وبمساعدة الداعم النفسي يستطيع إعادة بناء وتوسيع دائرة تواصله الاجتماعي، وبناء ثقته بنفسه”.

وتابع مبيّض أن العزلة والوحدة من العناصر المهمة في الإقدام على الانتحار، موضحًا ضرورة دور المنظمات في تقديم المساعدة الاجتماعية في هذا الجانب.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع