صالح ملص | زينب مصري | أمل رنتيسي
منذ اعتقال القائد العسكري التشيلي أوغستو بينوشيه في لندن عام 1998، برزت محاولات غير مسبوقة في أمريكا اللاتينية لمكافحة إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان هناك من المحاسبة وتطبيق العقاب، ومحاكمة الشخصيات العسكرية والسياسية الضالعة بعملية “كوندور“، وهي حملة من القمع السياسي شملت اغتيال المعارضين في منفاهم، والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.
ومن المصادر المهمة للأدلة المستخدمة في تلك المحاكمات هي المحفوظات الأرشيفية، لتفسيرها الجرائم عن طريق ربط الأدلة التي تمتلكها هذه المحفوظات مع سياق المحاكمات، وجعلها أدلة ذات صلة بالمحاسبة.
بحسب بحث للناشطة المتخصصة في حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية، فرانشيسكا ليزا، بعنوان “بقايا الحقيقة: دور المحفوظات في محاكمات حقوق الإنسان لعملية كوندور“، ساعدت المحفوظات الأرشيفية في إجراءات محاكمة الجناة بتحميلها مسؤولية وظيفية تخدم حقوق الإنسان، وأظهرت المحفوظات النشاط السياسي لضحايا الانتهاكات وآلية قمعهم من قبل ضباط من ذوي الرتب المتوسطة، وبرز بذلك دور الأرشفة في مرحلة العدالة الانتقالية هناك.
حال القمع السياسي في سوريا لا تختلف كثيرًا عما عاشته أمريكا اللاتينية من تجارب مع أنظمتها المستبدة، بل تجاوزتها بعد 2011، باستخدام النظام السوري أسلحة كيماوية لقمع معارضيه من المدنيين الذين صارع بعضهم لالتقاط أنفاسهم.
وفي 2 من آذار الحالي، قُدمت شكوى جنائية أمام قضاة التحقيق في فرنسا بشأن الهجمات بالأسلحة الكيماوية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب عام 2013، كان ذلك من قبل مجموعة من الناجين و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، بدعم من “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح” ومنظمة “الأرشيف السوري”.
الأحداث في الماضي ليس لها وجود موضوعي من وجهة نظر علم البيانات والأدلة، إلا إذا كانت ضمن الذاكرة البشرية والمحفوظات الأرشيفية، وبالتالي فإن ما حدث في الماضي من انتهاكات هو ما يتقاطع بين إفادة الناجين وأرشيف تاريخ الانتهاكات.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع حقوقيين ومحامين وناشطين سوريين حجم حركة الأرشفة لتاريخ النزاع في سوريا، بعد عشر سنوات من تراكم الجرائم ضد الإنسانية فيها، ومدى الصعوبات التي تواجه مثل هذه المبادرات، ودورها في توفير أدلة قد تستند إليها المنظمات الحقوقية أو الحكومات بشكل قانوني لمحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان داخل سوريا، المستمرة منذ بداية الاحتجاجات عام 2011، وانتقالها من الطور السلمي إلى العنف المسلح.
حراك مؤسساتي يحرس ذاكرة الثورة
في حزيران 2020، أطلق ناشطون سوريون حملة بعنوان “فيس بوك تحارب الثورة السورية”، عقب إغلاق الشركة حسابات توثق ما يجري في سوريا، بعد إضافتها قائمة جديدة من المصطلحات الممنوعة تتعلق بالثورة السورية، واعتبرتها تحريضًا على “العنف والإرهاب”، بحسب ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية، حينها.
ووثقت منظمة العفو الدولية، في تقريرها الصادر في حزيران 2019، بعنوان “كيف يعوق التغير المفاجئ لدى فيس بوك التحقيقات بشأن حقوق الإنسان”، إزالة منصات التواصل الاجتماعي أدوات بحث تساعد في عمليات التوثيق، ومقاطع فيديو مصوّرة كان ناشطون رفعوها لتوثيق ما يجري في سوريا.
وقال التقرير حينها، إن منصات التواصل الاجتماعي بدأت بتغيير الأدوات التي تعتمد عليها المنظمة في الدفاع عن حقوق الإنسان من دون التشاور معها، ما يعوق عمل المنظمة ويحد من قدرتها على حماية حقوق الإنسان.
وفوجئت المنظمات المعنية بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان بتغيير لم يُعلَن عنه من قبل في آليات البحث لدى “فيس بوك”، وفق تقرير المنظمة، وهو تعطيل أداة “البحث البياني” (Graph Search)، “في خطوة قد تفضي إلى عواقب وخيمة”.
وأداة “البحث البياني” تمكّن المحققين من العثور على بيانات ومعلومات متاحة علنًا ولكنها مدفونة في خضم بحر غزير من المعلومات، ومن دون تلك الأداة يصبح البحث عن المعلومات المطلوبة أشبه بالبحث عن “إبرة في كومة قش”.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي “تغدر” فيها إحدى مؤسسات التواصل الاجتماعي بالمدافعين عن حقوق الإنسان، ففي منتصف عام 2017، بدأ موقع “يوتيوب” بإزالة أعداد كبيرة من التسجيلات المصوّرة الواردة من سوريا عبر منصته، “تحت وطأة ضغوط مارستها عليه الحكومات لحمله على استبعاد أي محتوى يمكن أن يصوِّر أو يمجِّد الإرهاب”.
ووجهت شركة “غوغل إيرث”، عام 2018، “ضربة شديدة” إلى المدافعين عن حقوق الإنسان، إذ أزالت “موردًا هائلًا” يستعينون به في نشاطهم الحقوقي، يُعرف باسم “بانوراميو”، وفق تقرير منظمة العفو الدولية.
وأوضح التقرير أن هذا المورد كان مدمجًا في صلب برنامج “غوغل إيرث برو”، وهو أداة من أداتين لا غنى عنهما لأي محقق حقوقي يستعين في عمله بالمواد المنشورة على الإنترنت.
ويتيح للباحثين الحقوقيين العودة إلى أي صور تذكارية أو سياحية سابقة، نشرها على الإنترنت أشخاص سبقت لهم زيارة مدن مثل حلب قبل عام 2010 أو بعض مناطق نيجيريا والكاميرون قبل أن تندلع فيها الصراعات.
وكان هذا المصدر “خير معين” لمنظمة العفو الدولية في التثبت من موقع تصوير لقطات غارة جوية مثلًا، أو موقع كان مسرحًا لأعمال التعذيب، أو شوهد فيه أحد ضحايا الاتجار بالبشر آخر مرة، بحسب التقرير.
وفي أيلول 2019، أعلنت منظمة “الأرشيف السوري”، في بيان لها عبر صفحتها في “فيس بوك”، أن إدارة “يوتيوب” حذفت قنوات كل من وكالتي “أوغاريت” و”شام” الإعلاميتين، ما أدى إلى فقدان 300 ألف مقطع مسجل.
وأشارت المنظمة إلى أنها حفظت في وقت سابق جميع المقاطع المسجلة التي كانت موجودة في قنوات الوكالتين قبل حذفها، ودعت صانعي المحتوى الذين ينتجون ويمتلكون مواد بصرية خاصة بسوريا، إلى إرسال قنواتهم كي تتمكن من أرشفتها.
و”الأرشيف السوري” هو أحد مشاريع “Mnemonic“، وهي منظمة غير ربحيّة مُكرّسة لأرشفة المواد الرقميّة المُهدّدة بالاختفاء، بحسب موقع المبادرة الرسمي.
أعادت المبادرة 350 ألفًا و357 مقطعًا مصوّرًا إلى منصات الشبكات الاجتماعية عبر حملة لاستعادة المحتوى المفقود، وتهدف إلى “أنسنة الذاكرة الرقمية السورية”.
كما تهدف المبادرة إلى جمع الأدلة البصرية لانتهاكات حقوق الإنسان على الأراضي السورية وتنظيمها وتحليلها، بالإضافة إلى حفظ البيانات كذاكرة رقمية، وإنشاء قاعدة بيانات مُتحقَّق منها لانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، بحسب ما قاله مسؤول الحملات والمناصرة في منظمة “الأرشيف السوري”، محمد عبد الله، لعنب بلدي.
صعوبات وتحديات
في ظل فقدان قسم كبير من التوثيقات المتاحة عبر الإنترنت، كانت مبادرة “الأرشيف السوري” للمساعدة في حفظها واستعادتها، بالإضافة إلى سعيها لتكون إحدى الأدوات التي تسهم في تطبيق العدالة وتعزيز المساءلة، بحسب مسؤول الحملات والمناصرة في المنظمة، محمد عبد الله.
وتكمن أهمية مبادرات الأرشفة السورية من وجهة نظر عبد الله، في أن قسمًا كبيرًا من هذه التوثيقات تعرض للتلف والفقدان، ومن الممكن أن تشكل أدلة مستقبلة لحفظ السردية التاريخية من جهة، وبناء دعاوى قضائية أو خطوة باتجاه تحقيق المساءلة من جهة أخرى.
وتكمن التحديات في فقدان جزء كبير من التوثيقات، وإغلاق منصات التواصل الاجتماعي والمصادر المتاحة لعدد من الحسابات وفقدان محتواها.
كما تكمن في طريقة التوثيق المتبعة، خاصة في السنوات الأولى، والتي تفتقر في بعض الأحيان للأدوات التي تساعد في توثيقها والتحقق منها، بالإضافة إلى ضخامة المحتوى البصري لما حدث في سوريا خلال عقد من الزمن، وهو ما يجعل عملية التحقق منه وأرشفته أمرًا “بالغ الصعوبة” وفق الإمكانيات الحالية، بحسب عبد الله.
آلية عمل “الأرشيف السوري”
يعتمد “الأرشيف السوري” بداية على مقاطع الفيديو والصور المنشورة والمتاحة عبر الإنترنت، ويؤرشفها قبل إضافة طبقات أخرى من التحقق، بحسب الحادثة.
ووفقًا لعبد الله، يجري التحقق من هذه الفيديوهات ومقارنتها والتثبت من صحتها وتاريخها، ومن ثم يجري التواصل مع مصادر خاصة، من صحفيين وناشطين على الأرض، أو مؤسسات ومنظمات إنسانية عاملة، في بعض التحقيقات عن حوادث معيّنة.
كما تُستخدم أدوات التحقق الرقمي، كصور الأقمار الصناعية وتحديد الوقت والظل، وحركة الطيران على سبيل المثال، والتثبت من الضحايا.
وأشار عبد الله إلى استخدام منهجية مبتكرة من قبل “الأرشيف السوري” تتضمن مجموعة متنوعة من مؤشرات الاستهداف لتحديد التعمد، وكذلك إنشاء قاعدة بيانات قائمة على التوثيق وإجراء تحقيق شامل لكل حادثة محددة وتنظيم المعلومات الناتجة، لتمكن الفريق من تحليل الأنماط والتوجهات، في قاعدة البيانات الأخيرة التي نشرها “الأرشيف”.
مبادرات فردية لإنقاذ المعلومات المهددة بالفقدان
لم تقتصر حركة أرشفة وتوثيق تاريخ النزاع السوري على مبادرات مؤسساتية وفرق عمل مكونة من عدة أفراد، بل امتدت لينضم إليها أفراد يعملون وحيدين بشكل تطوعي، كالناشط السوري تامر تركماني.
بدأ تامر العمل منذ عام 2014 على توثيق ضحايا الانتهاكات في سوريا، بوضع مقطع مصوّر لكل ضحية مرفق مع صورته ليتم توثيقها بشكل كامل مع جميع بياناته، بحسب ما قاله في حديث إلى عنب بلدي.
وفي أواخر عام 2016، لاحظ تامر أن كثيرًا من الملفات المرئية تُحذف من قنوات “يوتيوب” التي توثق ضحايا الانتهاكات، ومن هنا قرر الناشط “إنقاذ” ما يُمكن إنقاذه من القنوات من خلال تنزيل محتواها.
يعتبر تامر أن هذا العمل “واجب” ولا يمكن تجاهل “كارثة” حذف المواد المرئية من قبل “يوتيوب”، “لأن هذه الملفات تساعد بشكل كبير في كتابة التاريخ بشكل صحيح ومحاسبة المجرمين مستقبلًا”.
ويرى أن حذف الملفات “قد يُعيد الأخطاء المرتكبة في مجزرة الثمانينيات بمدينة حماة لغياب التوثيق”، وهنا يكمن جوهر الموضوع، بحسب رأيه، وهو الاحتفاظ بجميع الملفات وتصنيفها وترتيبها وتحضيرها للمرحلة المقبلة إما في كتابة التاريخ وإما للمحاسبة الفعلية لجميع مرتكبي الانتهاكات.
وثّق تامر، بحسب ما أوضحه لعنب بلدي، ما يزيد على 2.4 مليون مقطع مسجل منذ عام 2011 حتى اليوم، بالإضافة إلى ما يقارب 100 ألف مقال صحفي مصدرها العديد من المؤسسات الإعلامية السورية، يرتبها حسب التاريخ الزمني لكل مقال، ويكتب اسم كاتبها والجهة التي نشرتها، وذلك لتوثيق الأحداث حسب كل يوم.
وأرشف تامر نحو 400 كتاب عن الوقائع التي حدثت في سوريا منذ 2011، وكتب نبذة عنها مع تاريخ الصدور، ويؤمّنه بصيغة ملف إلكتروني (PDF) لإتاحة إمكانية قراءته إلكترونيًا لمن لا يستطيع شراءه.
ويحتفظ تامر بنحو ألفي بحث وتقرير عن حالات حقوق الإنسان في سوريا والانتهاكات التي حصلت، وهذه الأبحاث صادرة عن كثير من المؤسسات العربية والعالمية المختصة في مجال تسجيل انتهاكات حقوق الإنسان، بحسب تامر.
ووثّق تامر مقتل نحو 250 ألف سوري، بحسب تاريخ الوفاة والمحافظات التي ينحدرون منها وطريقة مقتلهم والجهة المسؤولة عن القتل، إضافة إلى العديد من الملفات الأخرى المؤرشفة “بشكل جيد” والمحفوظة “بمكان آمن”.
ويعمل تامر بشكل فردي وتطوعي بشكل كامل، وعدم وجود دعم طويل الأمد من أكبر الصعوبات التي تواجه عمله، بحسب ما يراه، فالدعم الذي يصله هو “دعم من الأصدقاء فقط لا يكفي إلا لأمور لوجستية بسيطة جدًا، والاحتياجات أكبر بكثير”.
ما الأرشيف في سياق حقوق الإنسان
تتلاءم أهداف أرشفة تاريخ النزاعات المسلحة مع مجموعة المبادئ المخصصة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان، من خلال الحفاظ على الوقائع كما حدثت بما يضمن حق الأفراد بمعرفة الحقيقة المستندة إلى معلومات دقيقة ومؤكدة، واستخدامها في إجراءات المساءلة الجنائية القضائية، وفي آليات البحث عن الحقيقة غير القضائية. وتعتبر المحفوظات الأرشيفية آلية تعتمدها الدول والأفراد للتصدي لانتهاكات واسعة النطاق حدثت في الماضي بحق القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وضمان عدم تكرارها، وهي حاجة ضرورية لممارسة الحقوق الفردية، مثل حق العائلات في معرفة مكان أقاربهم المفقودين، وحق المعتقلين السياسيين في العفو، وحق الشعوب في سجل مكتوب غير مشوّه، وحقها في معرفة حقيقة ماضيها. |
أبرز المبادرات لأرشفة تاريخ سوريا بعد 2011
“أرشيف الثورة السورية”.. مشروع بمبادرة فردية
هو مشروع أرشيفي يديره الناشط السوري تامر تركماني، ويهدف إلى حفظ الوثائق التي تخص الثورة السورية والتي صدرت منذ 2011، بحسب تعريف المشروع عن نفسه.
“الأرشيف السوري”.. استخدام الأرشيف لتحقيق المناصرة والعدالة
هو مبادرة سورية أُسّست في عام 2016 بجهود ناشطين سوريين في مجال حقوق الإنسان، وبإدارة الصحفي السوري هادي الخطيب.
وتهدف المبادرة إلى صون وتحسين واستدامة الوثائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الأخرى المُرتكبة من قبل جميع أطراف النزاع في سوريا، بحسب موقع المنظمة الإلكتروني، واستخدام الوثائق المؤرشفة في قضايا المناصرة والعدالة والمساءلة القانونية.
“أرشيف المطبوعات السورية”.. أرشفة المطبوعات الدورية
هو مشروع مستقل يعمل على أرشفة المطبوعات الدورية التي تصدر في سوريا وخارجها منذ آذار 2011، إذ بدأ فريق منبثق من جريدة “عنب بلدي” العمل على حفظ الأرشيف في آذار 2013، وباشر بجمع روابط الصحف الصادرة في سوريا عقب اندلاع الاحتجاجات، ونشرها بشكل أسبوعي.
وشهدت الساحة الإعلامية السورية منذ 2011 ظهور عدد كبير من المطبوعات من مجلات وجرائد ونشرات تجاوز عددها حتى نهاية عام 2014، 200 مطبوعة سورية، وتوقف قسم كبير منها، ولا يزال قسم آخر مستمرًا في الصدور حتى الآن.
وأُطلق موقع “أرشيف المطبوعات السورية” رسميًا بنسخته التجريبية في 21 من تشرين الثاني 2014، خلال مؤتمر “رابطة الصحفيين السوريين” الأول في مدينة غازي عينتاب جنوبي تركيا، وذلك بدعم من منظمة “NPA” النرويجية.
“أرشيف التاريخ الشفهي السوري”.. لحفظ تجارب سوريين متضررين من النزاع
هو مشروع تجريبي قامت به مؤسسة “دولتي” بالاشتراك مع منظمة “النساء الآن”، بهدف دعم بناء قدرات السوريين والشباب للانخراط في التحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية في سوريا.
ويسعى الأرشيف إلى حفظ تجارب مجموعة واسعة من السوريين المتضررين من النزاع.
ويتمثل الهدف القصير الأجل للأرشيف، بحسب مؤسسة “دولتي”، بتلبية احتياجات السكان ورفع صوتهم فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وإلقاء الضوء على قضايا الذين تم اعتقالهم أو إخفاؤهم.
كما ستُستخدم بيانات الأرشيف لأغراض المناصرة، ووضع برامج التنمية، وصنع السياسات على المستوى الدولي.
أما على المدى الطويل، فيحاول الأرشيف بناء شبكة من منظمات المجتمع المدني العاملة على توحيد جميع أعمال الذاكرة في سوريا بهدف توجيه آليات ما بعد النزاع بشكل أفضل.
وتتمثل منهجية الأرشيف بتطوير منهجيات ثلاث عمليات مستقلة ومترابطة، وهي أولًا جمع تاريخ شفهي، وثانيًا بناء أرشيف، وثالثًا وضع برامج متعلقة بالعدالة الانتقالية والمناصرة والمشاركة المجتمعية.
“ذاكرة إبداعية للثورة السورية”.. لحفظ النتاج الإبداعي السوري
أُطلق المشروع عام 2013، وهو لحفظ النتاج الإبداعي السوري في زمن الاحتجاجات وتطوراتها اللاحقة.
ويهدف المشروع إلى حفظ كل أشكال التعبير الفكرية والفنية والثقافة الشعبية في زمن الثورة، وهو متاح عبر الموقع الإلكتروني بثلاث لغات، العربية، والإنجليزية، والفرنسية.
ويُعرّف المشروع عن نفسه بأنه “كتابة وتدوين وجمع لحكايات الشعب السوري في تجربته الملحمية التي أعاد واستعاد من خلالها إنتاج معاني وجوده الاجتماعي والسياسي والثقافي”.
وتأتي أهمية موقع “ذاكرة إبداعية” بأنه يجمع معظم الإنتاج الفكري والفني والثقافة الشعبية في مكان واحد مخصص له، وذلك لسهولة الوصول إلى المحتوى.
كما يهدف الموقع أيضًا إلى تعزيز المقاومة الفنية السورية ومكانتها، ونشر رسالتها وأرشفتها والمساعدة على تسهيل التشبيك بين القائمين عليها، سواء كانوا أفرادًا أم مجموعات فيما بينهم وبين العالم الخارجي.
ويعتبر القائمون على المشروع بأنهم يسهمون بشكل من الأشكال في كتابة تاريخهم المعاصر، فالمشروع “عمل يطمح لبناء أرشيف لإرث وطني لامادي، وحمايته هو مطلب باعتباره جزءًا من ذاكرة جمعيّة، وواجب لما يحمله من رد الاعتبار للرصيد التاريخي للشعب السوري بأكمله”، بحسب ما يذكره الموقع الإلكتروني للمشروع.
وتتم آلية عمل مشروع “ذاكرة إبداعية” عبر جمع المحتويات والمواد من صفحات في “فيس بوك” ومواقع على الإنترنت، إذ جُمعت وصُنفت في أبواب وأنواع إبداعية، وتتوزع الأعمال الفنية في 22 فئة مختلفة.
“سورية الرقمية”.. تدوين التاريخ الشفوي
وهي مبادرة مكرسة للتراث الثقافي السوري المادي وغير المادي وللشعب السوري أيضًا، بحسب توصيف المبادرة عبر موقعها الرسمي.
وأُطلقت المبادرة في عام 2019، لتجمع بين الموارد عبر الإنترنت والأحداث الدولية والمنشورات والبرامج التعليمية.
التعامل مع الماضي من وجهة نظر حقوقية
أرشيف لا يعتمده القضاء كسند قانوني وحيد
تعترف المعاهدات الدولية بأهمية أرشيف النزاع المسلح، ولزوم اتخاذ تدابير لوضع كل أرشيف تحت مسؤولية متخصصة ومنظمة خلال مرحلة ما بعد النزاع، في البلدان التي تكون فيها المحفوظات الوطنية ضعيفة أو لا يثق الأفراد فيها، وقد يكون من الضروري، وفق الأمم المتحدة، الاحتفاظ بأرشيف قوى قمعية بشكل كامل، وهناك مساءلة عن استمرار تسلسل الجهات المعنية بالحفاظ على تلك المحفوظات.
وفي أثناء مرحلة العدالة الانتقالية، تلعب المحفوظات الأرشيفية والتاريخ الشفوي دورًا مهمًا في محاكمة الجناة، ويجب أن يتمكن كل من المدعين والمدافعين عن حقوق الإنسان من الوصول إلى المحفوظات بشكل منظم.
واستخدمت المحفوظات الأرشيفية لانتهاكات حقوق الإنسان في الملاحقات القضائية بالأرجنتين وغواتيمالا وإسبانيا، بينما كانت المحفوظات في تشيلي مهمة للجان التحقيق.
لكن في الحالة السورية، لا وجود لإجابة مطلقة حول اعتماد المحفوظات الأرشيفية التي تعمل عليها المنظمات السورية المعنية في الوقت الحالي كسند قانوني وحيد في إجراء المحاسبة، وفق ما يراه الحقوقي السوري والموثق المختص بانتهاكات حقوق الإنسان ضمن نطاق القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان حسام القطلبي، في حديث إلى عنب بلدي، وبالتالي فإن الإجابة في المقام الأول بهذا الشأن هي نفي أي دور لهذه المبادرات في المساءلة الجنائية الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
“لا يعتمد القضاء أرشيفًا كهذا لاعتبارات عديدة”، وفق القطلبي، ومن الأسباب ما هو متعلق بطبيعة الأرشيف المرئي نفسه لدى المؤسسات السورية المعنية والمحتوى السوري البصري بشكل عام عبر الإنترنت، وحقيقة أنه قد تم تصويره ورفعه وتصنيفه دون مراعاة معايير وعناصر أساسية في عملية توثيق هذا النوع من الجرائم المرتكبة في سوريا.
يجب أن يتحقق عنصران أساسيان للوصول إلى مادة أرشيفية تُستخدم كسند قانوني، وفق القطلبي، هما موثوقية المادة البصرية وملاءمة هذه المواد للقضية ذات الصلة، لأن الطرف الآخر في الدعوى موضوع الملاحقة القضائية للجناة في سوريا يستطيع المجادلة دائمًا اعتمادًا على هذين العنصرين اللذين يصعب تحققهما بمعايير قضائية وجنائية ضمن الشروط التي تم فيها تصوير ورفع وتجميع وتصنيف هذه المواد جميعها خلال السنوات الماضية.
“كان الغرض الأساسي من كاميرا الأفراد في سنوات الثورة السورية هو المناصرة والإعلام ونقل الصورة، بعد أن أغلق النظام البلد في وجه الإعلام والمؤسسات الدولية، وأطلق مقتلة جماعية بحق السوريين في الداخل”، قال القطلبي.
وتسيطر السلطة التنفيذية في سوريا على الصحافة والإعلام من خلال قوانين المطبوعات ووزارة الإعلام والتعليمات الإدارية، وبالتالي فإن الصحافة ووسائل الإعلام لم تكن قادرة على الوصول بسهولة إلى داخل سوريا حين اندلعت الاحتجاجات الرافضة لحكم النظام السوري عام 2011.
ولكن هناك كم هائل من المواد المرئية والمكتوبة المؤرشفة التي لا يمكن تجاهلها، فالنزاع السوري، برأي القطلبي، هو أكثر نزاع موثق في التاريخ حتى اللحظة، و”هذه مسألة لا تستطيع أي جهة التغاضي عنها وتجاوزها ببساطة”، خصوصًا أن إجراء المحاسبة غالبًا يكون في بلدان جهات الادعاء العام فيها وفرق التحقيق والقضاء غير ذات اطلاع على السياق السوري وتفاصيل النزاع ذي الصلة، وبالتالي فهي بأمس الحاجة إلى التعلم والاطلاع وتكوين فهم للبيئة والسياق خارج الإطار الضيق للنصوص والقوانين الصرفة.
وفي أكثر الحالات تفاؤلًا، بحسب القطلبي، فإن هذا الكم الهائل من المحفوظات الأرشيفية قد يسهم في تقوية عناصر الموثوقية والملاءمة في هذه المواد البصرية والمكتوبة، بحيث يمكن أن تثبت نمطًا ونهجًا لارتكاب الانتهاك موضوع البحث الجنائي الذي تجريه الشرطة المختصة والادعاء العام، “لكن الحقيقة أن هذا الأرشيف السوري المصوّر في مجمله لا يتم اعتماده كسند قانوني إلا في حالات شديدة الندرة ولا يمكن القياس عليها”.
دليل لا يستبعده القضاء
ولا يستبعد القضاء في البلدان الأوروبية أي أدلة يمكن أن يتم تقاطعها مع وثائق أخرى في الانتهاك موضوع البحث الجنائي، بحسب ما تراه المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، في حديث إلى عنب بلدي.
وفرق التحقيق المختصة بالبحث في “جرائم الحرب” تعمل على بناء القضية من خلال استعانتها بأدلة مختلفة، مثل الصور والمقاطع المسجلة، وإفادات الشهود من ضحايا الانتهاك وعائلاتهم التي لها صلة بموضوع إثبات الانتهاك محل المحاكمة أو لائحة الاتهامات الموجهة إلى المتهم بدعوى أو شكوى معيّنة، وفق سيف.
وللمحكمة والادعاء العام الحق في فحص هذه الأدلة جميعها، والتأكد من حقيقتها وتقييمها بقبولها أو رفضها كأدلة إثبات الانتهاك.
وتوظيف المحفوظات الأرشيفية في سياق التقاضي يتضمن محاذير عديدة، بحسب الحقوقي حسام القطلبي، فهو قد يدعم القضية وقد يفسدها في حال عدم القدرة على التثبت من صحة المواد المؤرشفة، كما قد تُستخدم المواد نفسها كحجة مضادة على الادعاء نفسه في بعض الحالات.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :