عنب بلدي – صالح ملص
يشكّل السجن المكان الذي يوضع فيه الفرد مؤقتًا أو دائمًا، بعد أن يُنتزع من فضاء المجتمع الخارجي لأنه انتهك قانونًا ما. ويُسجن الفرد لاعتقاد الدولة بأن بقاءه خارج السجن قد يؤدي إلى ضرر المجتمع، لذلك تعتبر الدولة أنه لا بد من أن يمر هذا الفرد في السجن لتقويمه حتى يعود سالمًا ومعالَجًا من جديد إلى مجتمعه.
وبذلك، فإن هدف السجن هو إعادة تأهيل المعتقل لدمجه في المجتمع، لا الانتقام منه.
وعلى الرغم من وضوح وظيفة السجن لدى الحكومات في العالم حسب معايير القوانين الدولية المعاصرة، فإن وظيفة السجون في سوريا خلال حكم الأسد الأب والابن تمتد من التعذيب الشديد حتى قتل المعتقل في بعض الأوقات، والعزل في الزنزانة المنفردة بما له من آثار نفسية سلبية خطيرة، ليكون السجن، بما فيه مراكز الاعتقال في الأفرع الأمنية والمخابرات، مؤسسة لإنتاج الألم الجسدي والنفسي لدى المعتقل.
تشمل منظومة السجن السياسي في سوريا كلًا من عناصر المخابرات، وضباط الأمن، والقضاء الشكلي، والأحكام العرفية، وحالة الطوارئ سابقًا التي عوضتها حكومة النظام السوري بتشريع قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19” لعام 2012.
تهدف كل تلك الأدوات إلى إبقاء المجتمع السوري في حالة خوف وترقب، خوف من مصير الاعتقال الذي قد يستمر عدة سنوات من دون محاكمة وفي ظروف غير إنسانية، وترقب يكمن في شعور الفرد دائمًا بأنه معتقل محتمل نتيجة تقرير مخبر يمكن أن يودي به إلى الاعتقال.
وعمل النظام السوري على تغذية حالة الخوف والترقب هذه بمنع المجتمع من القيام بأي نشاط سياسي لا يخضع كله لسلطة حزب “البعث” الحاكم، إلا أن اندلاع الاحتجاجات المناهضة لهذا الحكم في 2011 وتطوراتها اللاحقة، زادت من كم الاعتقالات العشوائية بصورة كبيرة، ليتحول ذلك السجن من أداة لإنتاج الخوف في المجتمع إلى أداة حرب أخرى بجانب الأسلحة التقليدية، بسبب الكثافة في معدل الاعتقالات.
وبالتزامن مع بدء المظاهرات في سوريا عام 2011، وانتقالها من طور الاحتجاج السلمي إلى النزاع المسلح، برز دعم منظمات سورية معنية بحقوق المعتقلين وقضايا الإخفاء القسري، حتى تطور عملها ليكون منظمًا بشكل جماعي ضمن ميثاق يحدد رؤية مشتركة حول قضية الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي في سوريا، من قبل منظمات أسسها ضحايا الاعتقال السوريون وأفراد أسرهم، كخطوة أولى لخلق ضغوط فعالة على المجتمع الدولي لإطلاق سراح المعتقلين، والتصدي لإفلات مرتكبي تلك الانتهاكات من العقاب ومنع تكرارها.
“عمل مهم مكمل لعمل لجنة التحقيق”
على الصعيد الدولي، أُنشئت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا في آب عام 2011، بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعُهد إليها بولاية التحقيق في جميع انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان منذ آذار من نفس العام داخل سوريا.
وكُلفت اللجنة أيضًا بالوقوف على الحقائق والظروف التي قد تُصنف ضمن هذه الانتهاكات، والتحقيق في الجرائم التي ارتكبت وتحديد المسؤولين عنها لضمان مساءلتهم قضائيًا.
وبجانب التحديثات الدورية، أصدرت اللجنة منذ بداية عملها أكثر من 20 تقريرًا عرضت فيها انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في جميع الأراضي السورية.
وكجزء من عملها، تقوم “لجنة التحقيق” التابعة للأمم المتحدة بقراءة ومراجعة تقارير ومنشورات كثيرة من منظمات سورية ودولية مختصة بحقوق الإنسان، وفق ما ذكرته في حديث إلى عنب بلدي عبر مراسلة إلكترونية، إذ تلتقي وتنسق مع مجموعة من المختصين من منظمات غير حكومية وهيئات وبرامج تابعة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى ممثلين دبلوماسيين ومنظمات دولية ومنظمات غير حكومية دولية وصحفيين وغيرهم.
“تقر اللجنة وتثني على عمل المنظمات المختصة بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وتعتبره عملًا مهمًا ومكملًا لعمل اللجنة”، لأن مثل هذه الجهود مهمة في بلدان مثل سوريا، بسبب صعوبة الوصول إليها، حيث تضفي المنظمات غير الحكومية “منظورًا ورؤية فريدة لهذا الموضوع”، وفق تعبير “لجنة التحقيق”.
وتعمل “لجنة التحقيق” بمنهجية ثابتة مبنية على أسس خاصة باللجان الدولية، وهذا يقتضي من مسؤولي التحقيق في اللجنة الحصول على شهادات شخصية، والتحقق منها للتأكد من مدى مطابقة المعلومة المقدمة للمعلومات التي حصلت عليها، من خلال إجراء المقابلات مع الشهود للتحقق من مدى إمكانية الاعتماد على مصدرها وفقًا للمعايير الدولية المعتمدة.
ويتحدث المسؤولون داخل “لجنة التحقيق” بشكل شخصي ومنفرد مع شريحة واسعة من اللاجئين السوريين بطريقة محمية وآمنة، لضمان عدم تعرضهم للتهديد والتخويف من قبل الجناة أو غيرهم، وتحقق أيضًا عن بُعد مع الشهود والضحايا الموجودين داخل سوريا.
مساعدة في “رسم منهجية للتحقيق”
ويأتي دور تقارير المنظمات السورية الحقوقية، من وجهة نظر “لجنة التحقيق”، في المساعدة بالتحقق من مصداقية المعلومة ومصدرها، فإذا كانت المعلومة غير متوافقة مع تقارير حقوقية سورية تتناول نفس موضوع المعلومة، فإنها سوف تخضع للتدقيق الشديد للتحقق من مصداقيتها من قبل اللجنة.
والمعلومات التي تُجمع وتُنشر من قبل المنظمات السورية الحقوقية تساعد اللجنة في “رسم منهجية للتحقيق”، وفق ما أوضحته “لجنة التحقيق”، أو وضع استراتيجية للتعامل مع حوادث مزعومة أو انتهاكات ممنهجة متبعة من قبل الجناة.
وبالإضافة إلى الدور المذكور، من حيث التحقق من صحة المعلومات وتوفير خيوط للتحقيق، تساعد المنظمات السورية الحقوقية “بتسهيل الاتصال المباشر مع الضحايا وشهود العيان والسلطات المحلية”، في سياق توسيع شبكة تواصل “لجنة التحقيق” من أجل التحقيقات الحالية والمستقبلية.
وتُسهم المنظمات المحلية والإقليمية غير الحكومية في توسيع شبكة التواصل لدى اللجنة، مثل “المنظمات التي تقدم خدمات تعليمية أو صحية، والتي لديها تواصل مع مجتمعات محلية ومسؤوليها” داخل مناطق النزاع في سوريا، وفق ما ذكرته اللجنة.
وكجزء من مبدأ عدم إلحاق الأذى أو الضرر، تسعى “لجنة التحقيق” إلى الحد من المقابلات مع الضحايا وشهود العيان بشكل مباشر، لتجنيبهم الصدمة أو الأثر النفسي.
مطالبات بحقوق تنتظر العدالة
طالبت “لجنة التحقيق” أكثر من مرة بحقوق المعتقلين والمختفين قسرًا والمعذبين والمقتولين من السوريين داخل السجون السورية، من خلال تقاريرها وجلسات الإحاطة الإعلامية التي بلغ عددها 27 تحت رعاية مجلس حقوق الإنسان، وتسع جلسات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وجلسات عديدة مع دول أعضاء وفصائل مسلحة.
إلا أن حكومة النظام السوري لم تنخرط بحوار مباشر أو مفتوح مع “لجنة التحقيق” منذ بداية عملها إلى الآن، مع استمرارها بـ”التواصل مع دول لديها علاقات جيدة مع الحكومة السورية والمجتمع الأممي، للاستمرار بالمطالبة بحقوق السوريين ومن ضمنهم المعتقلون”.
وفي عام 2020، فوّض مجلس حقوق الإنسان “لجنة التحقيق” بإعداد تقرير خاص بالاعتقالات التعسفية في سوريا من أجل جلسة المجلس رقم “64” التي عُقدت في آذار الحالي.
وركز تقرير اللجنة على توثيق ست حالات رئيسة من انتهاكات حقوق الإنسان داخل سوريا، وهي الاعتقالات التعسفية، والاختفاءات القسرية، وحالات التعذيب، والمعاملة اللا إنسانية والمهينة، والعنف الجنسي، وحالات الموت داخل مراكز الاعتقال.
وأصدرت “لجنة التحقيق” أكثر من 130 توصية متعلقة بملف الاعتقالات، وأكثر من 33 تقريرًا حول القضية، ومن أبرز تلك التوصيات، إخلاء سبيل كل المعتقلين، وإيقاف الانتهاكات في المعتقلات والتعذيب والحجز بمعزل عن أي تواصل خارجي.
كما دعت اللجنة إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، وكسر حلقة الإفلات من المسؤولية عن هذه الجرائم والانتهاكات المرتكبة في مراكز الاعتقال داخل سوريا.
ويسهم تعثر المفاوضات القائمة بين النظام السوري والمعارضة في عرقلة حل قضية المعتقلين والمختفين قسرًا، وعلى الرغم من أن قرار مجلس الأمن الدولي “2254” نص على عدم تلازم الملفين السياسي والإنساني، لا يزال النظام السوري يستخدم الملف الإنساني في مصالحه السياسية، بحسب تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش”.
ووفقًا لتقارير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة النظام السوري لا تزال مستمرة بالاعتقال في مناطق “التسويات” الخاضعة لتفاهمات مع حليفة النظام، روسيا، ما يخالف بنود القرار رقم “2254” الملزمة بالإفراج عن المعتقلين السوريين داخل مراكز الاعتقال.
ولم تكلف الأمم المتحدة نفسها، متمثلة بمبعوثها الخاص السابق إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، بتنفيذ مسار واضح يوصل طرفي النزاع إلى انتقال سياسي من خلال هيئة حكم انتقالية، وكذلك لم يعطِ دي ميستورا أولوية لملف المعتقلين.
وفي 22 من كانون الثاني الماضي، اعتبر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا الحالي، غير بيدرسون، أن ما تم تحقيقه في ملف تبادل المعتقلين إلى الآن “مخيّب للآمال”، ولم يشهد الملف أي تقدم حقيقي.