أسامة آغي
لم يصل بيدرسون إلى اسطنبول ويلتقي برئيس “هيئة التفاوض السورية”، أنس العبدة، إلا بعد زيارتين له، واحدة إلى موسكو، وأخرى إلى دمشق، فما الذي تحدث به بيدرسون في هاتين العاصمتين؟ وما الحقيقة وراء قوله بضرورة توفير آليات فعّالة لدفع التفاوض بين وفود اللجنة الدستورية في جنيف؟ ما هذه الآليات؟ ومن بإمكانه توفيرها لإنجاح التوصل إلى مسودة وثيقة دستورية جديدة برعاية الأمم المتحدة؟
الروس بعد فشل الدورة الخامسة من مفاوضات اللجنة الدستورية بين وفد قوى الثورة والمعارضة ووفد النظام السوري، وجدوا أن هذا الفشل كشف عن اضطرابهم الدبلوماسي والسياسي، وأسلوب تعاملهم مع ملف الصراع السوري، وكشف عجز هذا الأسلوب عن استمالة دولية له.
فبعد كل تدخلهم العسكري، والدبلوماسي، والسياسي، والاقتصادي، في الصراع السوري لمصلحة النظام، يخرج علينا السيد لافرنتييف، معاون وزير خارجيتهم، ليقول، إنهم لا يملكون سوى تقديم نصح للنظام، بشأن التفاوض في جنيف!
وهذه تكون إحدى حالتين، الأولى، هي أن لافرنتييف يتنصل قولًا من مسؤوليتهم عن إفشال مفاوضات الدستورية، ودافعه الرئيس عدم قدرتهم على اجتذاب الغرب والولايات المتحدة لقبول إعادة إعمار سوريا، وفق الرؤية الروسية، أي عدم قدرتهم على تحويل تدخلهم في سوريا لمصلحتهم.
الحالة الثانية، تكمن في إحساس الروس المباشر أن الغرب لا يعنيه تقديم مبادرات جديدة بشأن الحل السياسي في سوريا، خارج تنفيذ القرار الدولي “2254”، وهذا بدا واضحًا من موقف الغرب الرافض لمساري “أستانة” و”سوتشي”، وتجاهله فكرة مجلس عسكري انتقالي حاكم.
الزمن لا يعمل لمصلحة الروس في سوريا، ففي هذا البلد، المحكوم بقوة الحديد والنار، ثمة انهيار اقتصادي هائل تعيشه المناطق التي يحكمها نظام بشار الأسد وميليشياته، حيث يقترب سعر الدولار مقابل الليرة السورية من مبلغ 4000 ليرة مقابل الدولار الواحد، وهذا يعني تآكل رواتب وأجور عسكرييه وموظفيه. يضاف إليه الحصار الواقع على إيران وعلى روسيا.
لهذا لا تبدو فكرة مجلس عسكري انتقالي سوى محاولة روسية للخروج من عنق الزجاجة، عبر طرح مسار جديد يتلاءم ومصالحهم الكبرى في سوريا. هذه الفكرة لا مكان لها لدى الغرب وأمريكا، لأنهما يعرفان أنها لعبة روسية تافهة، لن تنجح، ولذلك هم غير معنيين بها.
الروس بدؤوا بطريقة ملموسة بالتنصل التدريجي من النظام السوري عبر الإعلام، ولكنهم ليسوا جادين بشأن تنفيذ قرار مجلس الأمن “2254”، فلو أرادوا تغيير قواعد اللعبة المتعلقة بهذا القرار، لوافقوا على جدول زمني، وإلزام الأطراف المتفاوضة ببرنامج عمل محدد بزمن، عبر قرار دولي واضح.
توقع الروس أن يتقدم الغرب منهم خطوة أو خطوتين، ولكنه تركهم يغوصون بالوحل السوري، مثقلًا عليهم بعقوبات “قيصر” وغيرها، فالغرب ليس غبيًا ليقدّم حبل النجاة، لخصم أو عدو هم الروس، لإنقاذه من غرقه المحتّم.
ليس أمام الروس في هذا المشهد المأساوي، الذي يبتلع احتمالهم على المكوث في سوريا، سوى التقدم من الغرب بخارطة طريق واضحة ومحددة الزمن، من أجل الحل السياسي للصراع السوري على أرضية القرار الدولي “2254”.
هذا الموقف بدأ الروس بممارسة التسريبات حوله، فتارة يبدون غضبهم من فساد نظام الأسد وعجزه عن الخروج من الكارثة الاقتصادية، وتارة يرفضون تقديم خدمات بدؤوا يشعرون أنها مجانية، وتصبّ في خدمة جوقة النظام، وتضرّ بمصالحهم وعلاقاتهم الأكبر مع تركيا وأوربا. وقد وصل الأمر ببوتين ليصف النظام بأنه ضعيف في تنفيذ التزاماته التجارية، مترافقًا ذلك مع نشر رسالة الأسد في العام 2013 التي تطلب تدخلًا روسيًا لحماية النظام من السقوط.
مجيء بيدرسون إلى اسطنبول واللقاء مع رئيس “هيئة التفاوض السورية” يكشف عن محمول روسي ما، يستند إليه، وقد ظهر ذلك في قول بيدرسون أنه والأمم المتحدة يبحثون في إيجاد آليات فعالة لدفع عملية التفاوض الكلية بين قوى الثورة والمعارضة وبين النظام السوري.
هذا الكلام يرتبط من جهة بإحساس النظام بأنه ينحدر بسرعة هائلة نحو الهاوية الاقتصادية، التي ستدمره، ويرتبط بالإحباط الإيراني، الذي ظهر بعد تفاؤل صغير، أحدثه بايدن بتصريحاته حول الملف النووي الإيراني، وضرورة العودة إلى طاولة الحوار، هذا التفاؤل تبيّن أنه ليس كما تخيله حكم الملالي في طهران.
يضاف إلى ذلك، إحساس الروس وحساباتهم بأن لا أفق لمخططهم، الذي يريدون منه إعادة إنتاج نظام الأسد، فهذا النظام صار ملموسًا لديهم، بأنه حجرة عثرة تقف في وجه مصالحهم، وتطور علاقاتهم الإقليمية والدولية، ولهذا هم يعملون على اكتشاف طريق صالح ينقذ استثمارهم في سوريا، ويحافظ على بعض مصالحهم في هذا البلد، مع القبول بدفع عجلة تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بسوريا.
بيدرسون تحدث عن آليات فعالة مع السيد أنس العبدة، وهذا الأخير أصر على ضرورة تفعيل تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالصراع السوري، ولعل الحديث الذي صرّحت به السيدة ليندا توماس غرينفيلد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 من آذار الحالي، يوضح ذلك.
قالت غرينفيلد: “حان الوقت لكي نتوصل إلى حل سياسي فعلي، إنه السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار والأمن بشكل دائم للشعب السوري”، مطالبة النظام السوري بنشر أوضاع كل المعتقلين في سوريا، وتسليم جثامين الأشخاص الذين توفوا إلى عائلاتهم مع تحديد تاريخ ومكان وسبب الوفاة.
حديث غرينفيلد يتلاقى مع جهد بيدرسون في التوصل إلى نتيجة إيجابية لحل الصراع السوري، ويتلاقى مع حزمة التصريحات الروسية المنتقدة بشدة لنظام الأسد.
وفق هذه الرؤية، لا يمكن القول إن الحل يأتي من مجلس عسكري انتقالي حاكم، بل من تنفيذ القرار الدولي “2254” الذي يقبل بوجود أداة تنفيذية هي “مجلس عسكري انتقالي”، ليست مهمته الحكم، بل إعادة تأهيل مؤسستي الجيش والأمن السوريتين.
هذا الأمر يتطلب جهودًا حركية من “هيئة التفاوض” وهيئات المعارضة السياسية، الجهود المعنية تتصل بالمسعى الدولي، وضرورة منحه زخمًا ماديًا ملموسًا، وليس مجرد تصريحات لا تُغني، ولا تُشبع جوعًا. ولذلك، على “هيئة التفاوض” توسيع نشاطها الإقليمي والدولي، وعقد مؤتمرات صحفية وندوات، تفضح النظام، وتزيد من خلق ضغط دولي عليه.
فهل تفعّل “هيئة التفاوض” وهيئات قوى الثورة المعارضة نشاطها في هذا الاتجاه، لملاقاة جهود دولية عديدة تعمل على تحقيق تنفيذ القرار الدولي “2254”.