في الاحتفاء باللغة الأم
نبيل محمد
لم ينشأ الابتعاد عن اللغة العربية، ومحاولة تخفيف استعمالها، وإدخال مصطلحات من لغات أخرى إلى التعامل اليومي في سياقات رسمية وغير رسمية، من صعوبات ما في هذه اللغة، أو من انعدام التطوير فيها وجمودها عند حدود وأزمنة معيّنة، جعلت جيلًا كاملًا يحاول جاهدًا الابتعاد عنها، إنما لذلك أسباب قد لا تبدو ظاهرة بشكل مباشر أمامنا، إلا أنها الأصل في تيارات وصلت إلى حد كره هذه اللغة، من محض كلاسيكيات استخدامها وحضورها من قبل أنظمة سياسية ودينية وتيارات فكرية تقليدية، جعلت مصطلحات وتركيبات لغوية مثارًا للنقد والسخرية، وسببًا لخلق ضرورات للاستعاضة عنها من لغات أخرى، خصوصًا من قبل جيل جديد، صار استخدامه للإنجليزية أو لغات أخرى واقعًا تفرضه الحياة عبر شبكة الإنترنت، أو الصلات المباشرة لهذا الجيل مع ثقافات أخرى بحكم حضوره في الخارج.
مُنيت هذه اللغة العريقة بألسنة جعلتها حاملًا لأدبيات وأفكار أحوج ما يكون الإنسان العربي إلى محوها من ذاكرته، جعلت كلمات وجملًا فيها تمثّل تلك الذاكرة التي نحاول محوها بكل ما أوتينا من أدوات.
إن عناوين الصحف والتلفزيونات الرسمية وشبيهاتها باللغة العربية، استهدفت في أذهاننا قبل كل شيء اللغة ذاتها، جعلتها أداة من أدوات كل ما يسيء للإنسانية، وصارت عصيّة على التغيير، كما هي الأنظمة السياسية والدينية التي لم تنفع معها مجمل محاولات القلب والتغيير خلال السنوات الماضية.
في اليوم العالمي للغة الأم، ذلك اليوم الذي من المفترض أنه مخصصٌّ للاحتفاء بالتنوع الثقافي، والخصوصيات اللغوية والتراثية، لن تجد من يحتفي باللغة العربية فيه سوى أولئك الذين سطّحوها وجعلوها بيئة خواء فكري، وسلاحًا لتكريس حضورهم الطاغي في حياتنا. وها هو النظام السوري يحتفل بها، وبالتأكيد لن يجد مكانًا يوظف به هذا الاحتفال أفضل من محافظة الحسكة، التي ركّز فيها النظام مجهوده للاحتفاء بلغته، فهي مكان متنوع اللغات، جزء من سكانه لغتهم الأم ليست العربية، وهم من يجب أن تكون لغتهم الأم هي العربية شاؤوا أم أبوا، بكل ما يملك النظام من أدوات قمع منها اللغة ذاتها.
معرض للخط العربي، ومحاضرة عن اللغة العربية ومشكلاتها وآفاقها، هي المشكلات والآفاق ذاتها التي يلحِقها النظام بأي قضية نقاشية، فيكتشف هو المشكلات ويضع الحلول ويستشرف آفاق المستقبل، ليصبح اصطلاح “المشكلات والآفاق” واحدًا من تلك المصطلحات التي لا آفاق لحلها، مصطلح حجري مكرور لن يجدَ مواطنًا قادرًا على حضور فعالية واحدة يحمل عنوانها هذا المصطلح.
فعاليات الاحتفاء باللغة الأم كُرّست في الحسكة، في وقت احتفى فيه كرد المنطقة بلغتهم أيضًا، بعيدًا عن النظام الذي لن يتيح لأحد الاحتفاء إلا بما يقرره هو، فهو صانع التراث ومحدد لغته، لكن ما يحدث هناك إنما خارج قدرة النظام على الضبط والاعتقال، لذا فلا حول له ولا قوة إلا بأن يركّز احتفاله بلغته هناك، متوعدًا بهذا الاحتفال بطريقة غير مباشرة، بأن الأيام مقبلة، وطمس اللغات المحلية والثقافات له وقت قادم لا شك.
يسخّر النظام إعلامه في يوم اللغة الأم للحديث عن فعالياته في الحسكة، مع الافتقار لفعاليات تحتفي بالعربية في أماكن أخرى. بالتأكيد، فما الفائدة مثلًا من الاحتفاء باللغة العربية في طرطوس أو حمص مثلًا؟ حيث لن تكون اللغة في خط مواجهة ومحور مقاومة لمشروع لا يجد النظام فيه إلا أنه استهداف للغته وحكومته وشخص رئيسه.
أمين فرع حزب، وضباط، ومحافظ، وتعبيرات لغوية أخرى لا تخفى عن ذهن مواطن سوري، تحضر الاحتفالات باللغة الأم، الاحتفالات التي لا مشكلة فيها بكلمات تنصبُ الفاعل وترفع الحال وتخالف فيها الصفة حركة الموصوف، فلا مكان في هذا الاحتفال للحديث عن اللغة العربية، إن المواجهة اليوم تفرض الحديث عن لغة النظام نفسها، ممثلة بمجموعة من الكلمات والجمل المكرورة، بأهداف الحزب الواحد، ومناصب القياديين، وكلمات التبجيل، ومصطلحات الصمود والتصدي للمؤامرة، وبقية كلمات المعجم ذاته الذي يشعرك بأنه لا بد لك من لغة أخرى لا لشيء إنما لتنسى على الأقل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :