على الرغم من استخراجه “بيان وضع إيجابي” أو ما يعرف بـ”الموافقة الأمنية” التي تفرضها حكومة “الإنقاذ” العاملة في مدينة إدلب وريفها، على الأهالي للتصرف بممتلكاتهم العقارية، لم يستطع عمر، وهو من سكان مدينة إدلب ويقيم في مدينة حلب، بيع منزله في إدلب.
قرر عمر (اسم مستعار لأسباب أمنية) بيع منزله بعد إشغاله من قبل شخص من جبل الزاوية جنوبي إدلب رفض التواصل معه كمالك للمنزل، وامتنع عن دفع إيجاره، بحسب ما قاله عمر لعنب بلدي.
وبطريقة مشابهة، شَغَل أشخاص كَرْم الزيتون ومنزل المزرعة العائدة ملكيتهما لعائلة عمر، بحسب ما أضافه، واستولوا على محاصيل الرمان ومحاصيل أخرى من المزرعة.
“لم نعارض الاستيلاء على المحاصيل الأخرى، لكن أردنا فقط أن يصل موسم الزيت لنا”، تابع عمر، مشيرًا إلى رفض الشاغلين لأملاكهم ذلك بذريعة عدم وجود حق له ولعائلته في الأملاك إلا في حال عودتهم لمدينة إدلب.
“أنا أسكن في حلب وأدفع إيجارًا باهظًا، ولا أستطيع شراء منزل يعفيني من هذا الإيجار، بسبب جشع من شغل منزلي ورفض الحكومة بيعه”، أوضح عمر.
وأشار إلى أن الحكومة مانعت أن يوكّل شخصًا يبيع منزله عنه لوجوده في منطقة تابعة لسيطرة النظام السوري.
خرجت مدينة إدلب عن سيطرة قوات النظام السوري في 2015، لتتسلّم “الحكومة السورية المؤقتة” إدارة المدينة، قبل أن تُشكّل حكومة “الإنقاذ” في أواخر 2017.
بدأت “الإنقاذ” بالسيطرة على مفاصل المدينة تدريجيًا، بعد عام ونصف من تأسيسها، عقب اتفاق بين “هيئة تحرير الشام” و“الجبهة الوطنية للتحرير”، نص على جعل المنطقة كاملة تابعة لها. وبسطت حكومة “الإنقاذ” نفوذها على المفاصل الإدارية لمدينة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي، وتدير مؤسسات مدنية وخدمية تابعة لوزارتها الحياة المدينة في المنطقة. وتتحكم بالملكيات العقارية من خلال وزارة الإدارة المحلية والخدمات، ووزارة العدل التي تنظم وكالات بيع وشراء للمغتربين عن المدينة، سواء نازحين داخل سوريا أو مقيمين خارجها. |
“موافقة أمنية” تحكم التصرفات العقارية
خلال الأشهر القليلة الماضية، كثفت الحكومة إصدار قرارات متعلقة بالعقارات في مدينة إدلب، وعملت على تنظيم الأحكام المتعلقة بالبيع والإيجار واستصدار التراخيص العمرانية.
“بيان وضع” أمني
واستحدثت الحكومة “بيان وضع” (موافقة أمنية) للأشخاص قبل إبرام عقود العمليات العقارية، سواء عقد الإيجار أو تمليك عقارات، أو أي أمور ذات صلة.
وتفرض الحكومة “الموافقة الأمنية” للتثبت من سلامة سجل الأشخاص القضائي في قضايا الجنايات، أو قضايا “شبه العمالة” للنظام السوري، بحسب ما قاله مدير المكتب الإعلامي في الحكومة، ملهم الأحمد، في حديث سابق إلى عنب بلدي.
كما استُحدثت “الموافقة الأمنية”، بحسب الأحمد، بسبب عدم توفر بطاقات شخصية في مناطق الشمال السوري، ولضرورة التأكد من الحال الأمنية للمستأجر والمؤجر، أوالمالك والمستملك.
وفي حال ثبوت صلة الشخص مع النظام، يُنظر لماهية هذه الصلة، فإما تكون الحالة من اختصاص جهة قضائية مدنية للنظر فيها، وإن كانت ترقى لدرجة “التخابر والعمالة”، فهذا يُعد جرمًا يُحيل مرتكبه للجهات الأمنية.
و”بيان الوضع” الذي تفرض حكومة “الإنقاذ” على الأشخاص استخراجه قبل إبرام عقود العمليات العقارية، يتقاطع مع الموافقة الأمنية التي تفرضها حكومة النظام السوري على المواطنين لإتمام البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحلات.
مخالفة دستورية
وفي 4 من آب 2020، أصدرت حكومة النظام السوري في قرارها رقم (4554) الصادر بتاريخ 4 من آب لعام 2015، تعميمًا إلى وزارة الإدارة المحلية، يقضي بإضافة البيوع العقارية وعمليات إيجار وفراغ المنازل والمحلات إلى القضايا التي تستوجب الحصول على موافقة أمنية مسبقة من الجهات المختصة.
وبررت الحكومة التعميم بحجة منع شراء العقارات أو استئجارها من قبل “الإرهابيين” واتخاذها كمقرات لهم، ولحماية الملكيات العقارية من الضياع أو التزوير.
وبموجب التعميم، يمكن لأمين السجل العقاري أن يشترط الحصول على الموافقة الأمنية لتسجيل نقل الملكية العقارية، رغم وجود قرار قضائي مكتسب درجة القطعية.
ويُخالف قرار إلزام إصدار “الموافقة الأمنية” حقوق الملكية الفردية في الدستور السوري لعام 2012، الذي ينص في مادته “رقم 15” على حق الفرد بحرية التصرف بأملاكه وعدم جواز مصادرتها.
وكالة تنظم التصرفات العقارية لأهالي إدلب المغتربين
لأسباب مختلفة، منها مالية وأخرى أمنية، بالإضافة إلى تبدل القوى السياسية والعسكرية الحاكمة للمنطقة، أو لنية الاستقرار الدائم في منطقة ما، سواء داخل سوريا أو خارجها، يُقدم أهالٍ من إدلب على بيع ما تبقى من ممتلكاتهم التي لم يطلها القصف في المدينة.
وتشترط حكومة “الإنقاذ” لإتمام المغتربين عن إدلب عمليات البيوع العقارية لممتلكاتهم الموجودة فيها توكيل المغترب شخصًا في الداخل السوري ينوب عنه في عملية البيع.
لكن الحكومة تمنع الأشخاص الموجودين في مناطق سيطرة النظام من توكيل أشخاص ينوبون عنهم لإتمام عمليات البيع في المدينة، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
وكالة المغتربين
تتطلب عملية تنظيم الوكالة لشخص من أهالي مدينة إدلب مغترب عنها يود بيع عقاره، بيان قيد عقاري، وصورة عن الهوية السورية للموكل والوكيل، وإثبات شخصية للموكل في بلد اغترابه أو لجوئه، ومقطع مصوّر يتحدث فيه الموكل عن معلوماته الشخصية، وشاهدين، واتصال فيديو مباشر بين كاتب العدل والموكل.
ويعد “مكتب الدراسات” في المدينة الجهة المسؤولة عن منح الموافقات الأمنية، بعد الدراسة الأمنية التي تجريها السلطات على الشخص الذي يود بيع عقاره في المدينة.
وبعد مدة عشرة إلى 15 يومًا، تُستكمل إجراءات البيع في حال كانت نتائج الدراسة إيجابية.
توُثق الوكالة بعد دفع رسومها عند كاتب العدل الذي يُفرغ محتويات المقطع المصوّر لتنظيمها، ثم إعطائها لصاحب العلاقة أو الوكيل ليتابع المعاملة العقارية في السجل العقاري حسب الأصول.
كما يُشترط لإتمام تنظيم الوكالة إجراء كاتب العدل بثًا مباشرًا (اتصال فيديو مباشر) مع الموكل، ليتكلم معه عن العقار وعملية البيع وقبض الثمن، ويتأكد من صحة المعلومات الواردة خلال التوكيل والبيع.
وأما بالنسبة لشراء مغترب عقارًا في مدينة إدلب، فتنطبق الشروط نفسها على الموكل في حال كان مشتريًا للعقار لا بائعًا، ما عدا أنه لا يحتاج كاتب العدل إلى إجراء بث مباشر معه، بحسب معلومات حصلت عليها عنب بلدي من محامين عاملين في المدينة.
ولا يستطيع المغترب تنظيم وكالة عامة لإدارة جميع ممتلكاته العقارية، في حال كان يمتلك أكثر من عقار واحد، كما كان معمولًا به سابقًا، وإنما يمكنه تنظيم وكالة خاصة لكل عقار على حدة، ويمكنه أن يوكل الشخص نفسه لإدارة تلك العقارات.
وكالة النازحين
محامٍ عامل في مدينة إدلب (طلب عدم ذكر اسمه) قال لعنب بلدي، إن أهالي المدينة الموجودون في مناطق سيطرة النظام ويعملون معه تُصادر أملاكهم من “لجنة الغنائم” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”، ومن يشعر منهم أنه “مظلوم” يتقدم بشكوى للمحكمة العسكرية، قسم “الاقتصادية”، للاسترداد ونزع اليد.
أما الأشخاص العاديون الذين اضطروا إلى ترك مناطقهم والنزوح إلى مناطق سيطرة النظام التصرف بممتلكاتهم العقارية عن طريق وكالة الفيديو، وشاهدين على شخصية طالب التصرف مع وثائق تثبيت ملكية الشخص.
حاولت عنب بلدي التواصل مع “هيئة تحرير الشام” للوقوف على تفاصيل عمل “لجنة الغنائم” وصلاحياتها وتحكمها بملكيات المقيمين من الأهالي في مناطق سيطرة النظام، لكنها لم تحصل على إجابات، وأحالت القضية إلى وزارة العدل في حكومة “الإنقاذ”.
وتواصلت عنب بلدي مع مدير المكتب الإعلامي في “الإنقاذ”، ملهم الأحمد، للسؤال عن تفاصيل عمل “لجنة الغنائم”، لكنها لم تحصل على إجابات أيضًا.
وتتطلب عملية تنظيم الوكالة بيان قيد عقاري، وصورة عن الهوية السورية للموكل والوكيل، وتسجيلًا مصوّرًا يرسله الموكل إلى كاتب العدل، ويتحدث فيه عن معلوماته الشخصية، وشاهدين يتعرفان على الموكل يؤديان اليمين أن معلومات الشخص الذي ظهر في مقطع الفيديو صحيحة، كما يشهدان على عملية البيع.
وكانت وزارة العدل في حكومة “الإنقاذ” منعت، في 7 من أيلول 2020، كافة المحاكم والدوائر القضائية والإدارية في المنطقة، قبول وكالة أو تمثيل أو ترافع أي شخص، سواء كان محاميًا أو غيره، يثبت أنه يتقاضى راتبًا من حكومة النظام السوري، أو يثبت ذهابه هو أو زوجته أو حد أولاده إلى مناطق النظام بعد تاريخ 1 من تموز 2019.
مدير المكتب الإعلامي في حكومة “الإنقاذ”، ملهم الأحمد، قال إن الحل لبيع شخص من إدلب ومقيم في مناطق النظام لعقاراته في المدينة، هو توكيل شخص مقيم في مناطق شمال غربي سوريا، أو أحد من أقربائه من الدرجة الأولى، ليس فيهم الوصف في التعميم الصادر عن وزارة العدل في أيلول 2020.
وأوضح لعنب بلدي أن المنع هو للوكلاء الذين تثبت صلتهم بالنظام السوري، وليس لمانعي العقار الذين لهم الحق في التصرف بأملاكهم.
من جهته، قال المحامي أحمد خبو، العامل في مدينة إدلب، لعنب بلدي، إنه يجري تقديم طلب إلى وزير العدل عن طريق رئيس دائرة الكاتب بالعدل في حال كانت الدراسة الأمنية للشخص المقيم في مناطق النظام إيجابية، مشيرًا إلى أنه في حال الموافقة يمكن توثيق وكالة البيع.
“بيّنة” يمكن أن تُقنع القاضي
محامٍ مطلع مقيم في دمشق اعتبر، في حديث إلى عنب بلدي، أن منع الأشخاص من التصرف بممتلكاتهم العقارية وفقًا لتصنيفهم بحسب المناطق التي يقيمون بها غير منطقي، ولا يجب على السلطات التصنيف وفقًا للمناطق، وخاصة أن ذلك لا يعني أن المقيم في منطقة معينة هو ضد السلطات في المناطق الأخرى.
وأوضح أن عمليات توثيق البيوع يجب أن تكون أمام موظف الدولة بشكل رسمي، لكن “قوى الأمر الواقع” كحكومة “الإنقاذ” في إدلب، لها قوانين وقرارات تعتمد عليها من الممكن أن تكون “مناسبة” في ظل الظروف الحالية، كتنظيم المغترب لوكالة بيع عن طريق الفيديو.
وتُخالف فكرة تنظيم الوكالة القوانين السورية من جهة أن قانون البيّنات السوري يشمل وسائل إثبات هي السند الرسمي والسند العادي أو البيّنة الشخصية في ظروف معينة، بحسب القانوني، الذي أشار إلى أن “وكالة الفيديو” ليست وسيلة إثبات، لكنه يرى أنها تستطيع إقناع أي قاضٍ يطلع عليها.
ينظم قانون البيّنات السوري لعام 2014 الوسائل التي يتم بها إثبات أو نفي أي تصرف أو واقعة بدعوى أمام المحكمة.
ويحدد القانون وسائل الإثبات بالأدلة الكتابية والإقرار واليمين والقرائن والشهادة والمعاينة والخبرة. وتشمل الأدلة الكتابية، السند الرسمي والسند العادي والأوراق غير الموقعة ورسالة التلكس والفاكس والبريد الإلكتروني. |
وأما عن الوضع القانوني من وجهة نظر المنظومة القانونية السورية لتوثيق البيوع العقارية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فواقعات البيوع “غير قانونية”، فتسجيل البيوع متوقف في سجلات الدولة، وتوثيق الواقعات في سجلات سلطات “الأمر الواقع” يكون على مسؤولية الأهالي الشخصية.
وتكمن “الخطورة” في هذا الخصوص، بأن لا يعترف النظام في حال سيطرته مجددًا على تلك المناطق بتلك البيوع والواقعات، أو في حال التوصل لحل عن طريق اتفاق سياسي مستقبلًا.
ويرى القانوني أن مناطق الشمال السوري تذهب باتجاه اتفاق سياسي، لكنه أكد ضرورة أن يتطرق الاتفاق لمسائل البيوع العقارية ويعترف فيها أو يجدد آلية لتنظيمها، لأنها حالات “دقيقة”، أي يجب ألا تكون مسألة العقارات مقتصرة على فقرة ضمن اتفاقية فقط.
وأشار إلى ضرورة عدم الاعتراف بكل البيوع التي حدثت في تلك المناطق، لأنه من الممكن وجود بيوع غير منطقية أو غير قانونية.
وكانت حكومة “الإنقاذ” أنشأت “مكتب التوثيق العقاري” التابع لوزارة الإدارة المحلية والخدمات ليكون جهة مدنية تعمل على توثيق وأرشفة التصرفات التي تطرأ على المساكن أو الأراضي في المنطقة، بعد خروجها عن سيطرة النظام عام 2015.