منصور العمري
ماجستير قانون في العدالة الانتقالية
لأعوام، بشغف وأمل، قرأ السوريون ودرسوا تجارب الأمم الأخرى في مجال العدالة، وكيف وصلوا إليها بعد سنوات وحتى عقود. أتت العدالة دومًا ثمرة للصبر والشجاعة والتصميم، كل هذا ألهم السوريين الذين يناضلون من أجل العدالة منذ سنوات.
لكن في 24 من شباط/ فبراير الحالي، رأى السوريون العدالة بأنفسهم، عندما حكمت محكمة “كوبلنز” في ألمانيا على عنصر مخابرات سوري سابق بالسجن أربع سنوات وستة أشهر بعد إدانته بـ30 جريمة تواطؤ وتسهيل ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من خلال اعتقال 30 شخصًا. ما يزيد من فرادة هذا الحكم التاريخي، هو أنه من النادر عبر تاريخ العدالة أن يُحاسَب مجرمون حكوميون ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية بينما لا يزال نظامهم في السلطة يرتكب نفس الجرائم التي أُدينوا بها.
رغم أن عددًا من الضحايا السوريين اعتبروا حكم “كوبلنز” ضد إياد الغريب غير كافٍ، فإن للحكم أهمية كبيرة تتجاوز هذه القضية الفردية بالذات. يجب أن نوسع عيوننا أكثر لنرى المحاكمة من أكثر من زاوية. قضت محكمة في واحد من أكثر أنظمة العدالة عدلًا في العالم بممارسة التعذيب والجرائم ضد الإنسانية من قبل نظام الأسد، رغم أن المحكمة لم توثق رسميًا الجلسات السابقة بالكامل، ما يحرم السوريين من أرشيف شديد الأهمية لأول محاكمة في العالم للتعذيب والقتل الذي يرتكبه الأسد.
المحاكمة لم تنتهِ بعد. أنور رسلان، رئيس الغريب، لا يزال قيد المحاكمة التي ستستمر إلى تشرين الثاني/ أكتوبر المقبل على الأقل، كما أن الغريب قد يستأنف الحكم ويدخل في جولة أخرى من الجلسات غير الموثقة رسميًا، فالمحاكم في ألمانيا توثق المحاكمات بشكل حرفي أو تُنشئ أرشيفًا مكتوبًا لها، إلا إذا كانت المحاكمة ذات أهمية أو مصلحة وطنية لألمانيا.
أجادل هنا بأن محاكمة “كوبلنز” ذات أهمية وطنية لألمانيا، وبالتالي يجب أن تبدأ المحكمة فورًا بتسجيل أو توثيق كامل المحاكمة رسميًا. لهذا التوثيق أهمية قصوى للسوريين في مسيرتهم تجاه العدالة، وفي عمليات العدالة الانتقالية والمحاكمات المستقبلية في سوريا أو في المحاكم الدولية أو الهجينة، كما أن أرشيفًا من هذا النوع سيوفر مصدرًا للباحثين والأكاديميين عبر العالم، بالإضافة إلى أنه يوفر مرجعًا للمحاكم الأخرى في ألمانيا نفسها، وفي دول أوروبية حيث قدم السوريون عدة شكاوى جنائية ضد التعذيب الذي يرتكبه نظام الأسد في النرويج والسويد وغيرهما.
في إحاطته أمام مجلس الأمن، غطى استخدام غير بيدرسون تعبير “العدالة التصالحية” على كلمة السفير الألماني المهمة في الاجتماع ذاته، واستخدامه محاكمة “كوبلنز” كأساس في السياسة الخارجية الألمانية. تعبير بيدرسون أدى إلى بدء حملة سورية شعبية وسياسية وإعلامية وحقوقية رفضت مصطلح “العدالة التصالحية”، معتبرة إياه دعوة للتصالح وعدم محاسبة المجرمين. كما أصدرت عدة جهات إعلامية ومجتمعية وسياسية سورية بيانات تطالب فيها بمحاسبة المجرمين ومعاقبتهم في المحاكم.
في اجتماع مجلس الأمن ذاته الذي استخدم فيه بيدرسون تعبير “العدالة التصالحية”، دعا الدكتور كريستوف هويزن، سفير ألمانيا لدى الأمم المتحدة، بيدرسون إلى تضمين الإفلات من العقاب في عمله، وأكد أنه لا مصالحة بلا محاسبة، فيما يبدو أنه انتقاد لبيدرسون وتغاضيه عن مبدأ محاسبة المجرمين في مساعيه السياسية.
في كلمته أيضًا بمجلس الأمن بتاريخ 16 من كانون الأول/ ديسمبر 2020، تحدث الدكتور هويزن عن محاكمة “كوبلنز” وتفاصيل إحدى الشهادات، في سياق حديثه للرد على الاتهامات الروسية ضد ألمانيا، كما أشار إلى حديثه عن محاكمة “كوبلنز” في كلمة سابقة بمجلس الأمن.
وفرت محاكمة “كوبلنز” أساسًا لألمانيا لحججها في مجلس الأمن وسياستها الخارجية، لدعم موقفها تجاه العقوبات ضد الحكومة السورية، ومواجهة الاتهامات الروسية. هذا ما يجعل محاكمة “كوبلنز” ذات مصلحة وطنية لألمانيا، وهو شرط إنشاء نسخة كاملة أو تسجيلات صوتية للمحاكمة بموجب القانون الألماني.
في خطاب سفير ألمانيا بمجلس الأمن في أيلول/ سبتمبر 2020، روى حكاية محاكمة “كوبلنز”
قال: “أتحدث الآن بصفتي الوطنية”، وتابع: “أود أن آخذكم في رحلة استكشافية بمدينة كوبلنز في ألمانيا، على نهر (الراين). في كوبلنز، أريد أن آخذكم إلى المحكمة الإقليمية العليا، في هذه المحكمة الإقليمية العليا، يُحاكَم موظفا استخبارات سوريان، متهمان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية”.
تحدث السفير لمدة ست دقائق، خمس منها وصفت محاكمة “كوبلنز”، وتحدثت عن تفاصيل مروعة عن كيفية إخفاء نظام الأسد جثث ضحاياه. في الدقيقة الأخيرة، اختتم السفير كلمته بشرح سبب عدم رفع ألمانيا العقوبات المفروضة على سوريا. هو قال:
“أريد أن أتحدث عن رفاهية الإنسان في سوريا، في سوريا الأسد. في كوبلنز، تحدث الشاهد بشكل صريح دون انقطاع تقريبًا لمدة ثلاث ساعات حتى النهاية، حتى وصف أسوأ لحظة. تحت جبل من الجثث اكتشف أمًا وطفلها حديث الولادة بين ذراعيها، وانهار الشاهد في كوبلنز. أكرر ما قلته من قبل، لا مصالحة من دون محاسبة. لن تكون هناك إعادة بناء أخلاقي أو مادي للبلاد دون مصالحة. ولكل من يريد رفع العقوبات عن نظام الأسد، أقول لا”.
مرة أخرى استدعى السفير الألماني محاكمة “كوبلنز” بمجلس الأمن في كانون الأول/ ديسمبر 2020
قال السفير في معرض رده على اتهامات السفير الروسي ضد ألمانيا:
“الأسد مستمر حتى اليوم في قتل السكان وخطفهم وتعذيب الناس واستخدام العنف الجنسي ضدهم. قبل شهرين، نقلتُ هنا في مجلس الأمن، عن شاهد في محاكمة كوبلنز ضد مسؤول الأسد الذي كان مسؤولًا عن تعذيب الشعب السوري، ولعلكم تتذكرون الشاهد الذي نقلتُ عنه هنا أنه اضطر إلى نقل الجثث. المئات من جثث القتلى، من الرجال والنساء والأطفال المعذبين، إلى مقابر جماعية في دمشق. صورة الأم التي تحمل طفلها المولود حديثًا بين ذراعيها، والتي كان عليه أن يدفنها في مقبرة جماعية، طاردت الشاهد، وأعتقد أن هذا الشيء يجب أن يطاردنا جميعًا. قلتُ هنا في هذا المجلس مرارًا وتكرارًا: من دون محاسبة ومع الإفلات من العقاب، لن تكون هناك مصالحة، ولن تكون هناك إعادة إعمار، ولا إعادة بناء أخلاقي أو إعادة بناء مادي لهذا البلد. لهذا السبب نحن بحاجة ماسة إلى الآلية المحايدة المستقلة لمواصلة عملها ولرؤية مزيد من الناس، ومزيد من المسؤولين عن الجرائم المروعة يواجهون المحاكمة”.
كما وجه السفير الألماني في خطابه ملاحظات إلى غير بيدرسون:
“غير بيدرسون، أتمنى لك حظًا سعيدًا، ويجب أن يكون صوتك عاليًا وواضحًا، إنه لأمر جيد جدًا أن تشمل المجتمع المدني والنساء، وأطلب منك تضمين جانب الإفلات من العقاب في حديثك”. وأضاف: “نحن مدينون للشعب السوري، إنه شعب رائع، وجد كثيرون منهم وطنًا لهم هنا في ألمانيا”.