آثار إدلب.. حضارات على قوائم النسيان

  • 2021/02/24
  • 3:04 م
صورة جوية دون طيار توضح حجم التخريب في موقع بانقوسا في الجبل الوسطاني في ريف إدلب - 13 كانون الثاني 2021 (عنب بلدي/يوسف غريبي)

صورة جوية دون طيار توضح حجم التخريب في موقع بانقوسا في الجبل الوسطاني في ريف إدلب - 13 كانون الثاني 2021 (عنب بلدي/يوسف غريبي)

رغم صمودها لعشرات آلاف السنين، ها هي آثار إدلب تخسر ألقها تباعًا، مع كل ما تعرضت له من انتهاكات خطيرة تسبّبت في زوال بعضها وتغيير معالم بعضها الآخر، وبعد أن كانت شاهدًا على تاريخ عريق مرّ من هنا بكل ما فيه من تطور حضاري وكنوز ثمينة، تحكي ملامحها اليوم قصة حرب أتعبت البشر والحجر، وتكشف استهتارًا بالأوابد والممتلكات الأثرية وصل إلى حد بيعها والمتاجرة بها على أيدي أفراد وجماعات لا يرون فيها إلا مصدر رزق لهم، ناسين أو متناسين أن لها روحًا لو نطقت لقالت: “أنا نتاج تاريخ تعاقبت عليه حضارات رسّخت بصمتها، وعلى هذه الأرض جذوري”.

انتهاكات عديدة طالت آثار إدلب خلال سنوات الحرب السورية، إذ تعرضت للقصف بمختلف أنواع الأسلحة على يد قوات النظام السوري والطيران الروسي الذي اتبع سياسة الأرض المحروقة في كثير من المناطق التي تحويها، كما جرى تحويل بعضها إلى معسكرات تجنيد وتدريب من قبل فصائل عسكرية مسلحة، ومع التزايد الكبير في أعداد النازحين، لجأ العديد منهم إلى المواقع الأثرية، حيث اتخذوها مكانًا للسكن في ظل ارتفاع إيجارات المنازل، أو شرعوا ببناء مساكن جديدة باستخدام حجارتها، وعلاوة على كل ما أصابها من تشويه جراء ما سبق، شهدت عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار وبيعها وتهريبها حركة متزايدة مؤخرًا، نظرًا إلى غياب جهات رقابية تتولى حمايتها وقوانين رادعة تجرّم الفاعلين وتكبح أعمالهم.

تعد محافظة إدلب الواقعة شمال غربي البلاد، من أغنى المحافظات السورية بالآثار الموغلة بالقدم، فهي تملك ثلث آثار سوريا، التي تعود إلى حقب مختلفة وحضارات عاشت فيها منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وتتبع للفترات الآرامية، واليونانية، والرومانية، والآشورية، والبيزنطية، والإسلامية المختلفة، وبعضها مدرج على لائحة التراث العالمي.

تخريب عشوائي لموقع “بانقوسا” الأثري في الجبل الوسطاني بريف إدلب الشمالي – 13 من كانون الثاني 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

“إدلب.. متحف في الهواء الطلق”

مدير متحف “إدلب”، أيمن النابو، تحدث لعنب بلدي عن أهمية الآثار التي تضمها محافظة إدلب وما حلّ بها من تخريب.

وبيّن النابو أن إدلب تحتضن ما يزيد على ألف موقع أثري، منها 760 موقعًا أثريًا مسجلًا بقرارات وزارية سابقة، كما تضم 40 قرية أثرية تشكل خمس “باركات” مسجلة على لائحة التراث العالمي، وتعود هذه المواقع الأثرية إلى حقب زمنية مختلفة من عصور ما قبل التاريخ مرورًا بفترة الشرق القديم والفترة الكلاسيكية وحتى الفترة الإسلامية المتأخرة. 

وأضاف النابو أنه وخلال سنوات الحرب الماضية تعرضت المناطق الأثرية ومواقع الإرث الإنساني إلى انتهاكات عديدة، يتمثل أولها بقصف الطيران الحربي والبراميل المتفجرة الذي لم ينجُ منه حتى المتاحف كمتحف “معرة النعمان” ومتحف “إدلب” ومواقع المدن المنسية، ويضاف إلى ذلك الزحف العمراني الحديث على المواقع الأثرية، لا سيما بعد موجة النزوح الكبيرة التي شهدتها المنطقة ولجوء الكثير من العائلات إلى المواقع الأثرية للاحتماء بها أو لاتخاذها سكنًا، وهو ما أسفر عن إضافة كتل سكنية تشوّه الواقع الأثري الموجود في المحافظة، فضلًا عن تكسير حجارة المواقع الأثرية العائدة للفترة الكلاسيكية أو المدن المنسية، لاستخدامها في الأبنية الحديثة أو للاستفادة من بيعها والاتجار بها، وهو ما يمكن اعتباره ضررًا جسيمًا جدًا قد يؤدي في حال استمراره إلى اختفاء مواقع أثرية بأكملها عن الوجود.

وأوضح النابو أن حرم الآثار يفترض أن يكون على مسافة مئتي متر منها، إلا أن عمليات البناء تتم بجانبها مباشرة، وفي بعض الحالات تمت إزالة قبور وغيرها من الأماكن الأثرية لإقامة بيوت مكانها، ولم يتبقَّ منها أي معلَم أثري، مثلما حدث في بلدة كوكانايا بريف إدلب، كما تظهر معالم تكسير الحجارة بشكل واضح في كنيسة “كوكانيا” وموقع “باقرحها” في منطقة بابزقا، وغيرها الكثير من المواقع.

وعلاوة على ذلك، يشكل التنقيب العشوائي من قبل لصوص الآثار أحد الانتهاكات الحاصلة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اختلاط السويات الأثرية، لا سيما عندما يتم استخدام الآليات الثقيلة مثل الجرافات في عمليات الحفر، إذ إنها تؤدي إلى تخريب كلي للمكان، وتتسبب بالإيذاء كيفما تحركت، أما عمليات التنقيب الفردي التي تتم بمعدات يدوية، فهي لا تتسبب بتخريب المواقع الأثرية من الخارج، كما يقوم القائمون عليها بطمر الحفر العميقة حتى يتفادوا التسبب بضرر للأرض بحضور أصحابها، وفقًا للنابو.

تمثال حجري في متحف مدينة إدلب، مهرب من آثار تدمر إلى الشمال السوري -18 من شباط 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

مَن المسؤول عن عمليات التنقيب والتهريب؟

رغم أن عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار ليست جديدة، فإنها شهدت مؤخرًا رواجًا كبيرًا في ظل غياب الرقابة والقوانين الرادعة من جهة، وتنامي مستوى الفقر وقلة فرص العمل من جهة أخرى، ويؤكد سكان ومختصون من المنطقة قابلتهم عنب بلدي ضلوع أفراد وجماعات بالتنقيب عن الآثار وبيعها، وفي الوقت الذي تجري فيه عمليات الحفر الفردية بأدوات بسيطة، تستخدم جهات عسكرية جرافات وآليات ثقيلة، بعد إجبار أصحاب الأراضي على الموافقة، كما تقوم ببيع الآثار وتهريبها إلى تركيا.

اتهم المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، محمود حمود، تركيا بتوفير التغطية والحماية لعمليات التنقيب العشوائي عن الآثار في إدلب، ومشاركتها بشكل مباشر بالبحث عن الكنوز والتماثيل واللقى الأثرية لإخراجها إليها ومنها إلى الأسواق العالمية، وأشار إلى أن لديه وثائق تدل على مصادرة السلطات التركية أكثر من 30 ألف قطعة رفضت إعادتها إلى حكومة النظام رغم المطالبات والشكاوى التي قدمتها إلى المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن.

 

دمية الفارس خميني في متحف مدينة إدلب – 18 من شباط 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

فراس (اسم مستعار) بدأ العمل بالتنقيب عن الآثار منذ عام 2012، وذلك بعد توقفه عن عمله وعدم وجود دخل مالي لعائلته، وفق ما أشار إليه في حديثه لعنب بلدي.

وفي رحلة بحثه عن قطع أثرية قيّمة، استخدم أجهزة كاشفة للمعادن إلى جانب أدوات الحفر التقليدية مثل الفأس والرفش. 

ولفت فراس إلى أن أغلب القطع التي يستخرجها هي عبارة عن عملات أثرية لأنها مصنوعة من المعادن وهو ما يتيح للأجهزة كشفها، مبيّنًا أنه كلما ارتفع سعر الجهاز تمكّن من الكشف عن القطع الموجودة على مسافة أكبر في عمق الأرض، وتتعدد أنواع هذه الأجهزة بين الفرنسي والألماني والتركي، وهي نفس الأجهزة المستخدمة في الكشف عن الألغام.

أما ما تمكن من استخراجه من عملات فبعضها نحاسي يعود للفترات البيزنطية والرومانية واليونانية والإسلامية، والآخر ذهبي وهو عبارة عن عملات بيزنطية وفاطمية، إلى جانب استخراج قطع أثرية تقليدية مصنوعة من الزجاج وغيره.

وعن مصير هذه القطع بعد استخراجها، قال فراس إنه يبيعها إلى تجار محليين لكنه لا يعلم إلى أين يذهبون بها، أو سعرها الحقيقي، إنما ما هو موقن به أنه يتم تهريبها إلى خارج سوريا. 

الأبجدية الإغريقية تستخدم لكتابة اللغة اليونانية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، متحف إدلب، 18 من شباط 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

حسام، اسم مستعار لأحد التجار المحليين، أوضح من جانبه أن بيع القطع المستخرجة يكون عبر وسطاء يتواصلون مع تجار الداخل السوري، مبينًا أن أغلبية القطع يتم تهريبها عن طريق لبنان أو تركيا، وتقوم بشرائها جهات أجنبية، كما يهتم ببعض القطع العربية تجار من دول الخليج العربي.

وفي حديثه إلى عنب بلدي، أشار إلى أن تقييم سعر القطعة الأثرية يعود إلى جماليتها ونظافتها ونوع المعدن الذي تتكون منه، والفترة التي تعود لها، لافتًا إلى أن أسعارها تبدأ من مئة دولار أمريكي لتصل إلى نصف مليون دولار للقطعة الواحدة، وقد بيعت على سبيل المثال ربع عملة ذهبية بقيمة 250 مليون دولار.

وتُتيح خبرة التاجر التي اكتسبها من خلال ممارسته الطويلة في هذا المجال وفهمه للأمور تمييز القطع الحقيقية من المزورة، وأكد حسام أن عمليات التنقيب في إدلب بدأت منذ زمن طويل، وقد كانت تتم في فترات سيطرة النظام في أثناء الليل فقط وفي مناطق غير مكشوفة وغير سكنية، إلا أنها تحولت حاليًا إلى أمر طبيعي جدًا يتم ليلًا ونهارًا وقرب المنازل.

وتحيط بعمليات التنقيب مخاطر وصعوبات، تتمثل باحتمالية وقوع جدران فوق المنقب في أثناء عمليات الحفر، أو انهيار أنفاق التربة فوقه، الأمر الذي أسفر عن حصول العديد من الوفيات.

فصائل عسكرية متهمة بسرقة الآثار 

وجه شهود عيان التقت بهم عنب بلدي أصابع الاتهام لعناصر تابعين لـ”هيئة تحرير الشام” في التنقيب عن الآثار علانية باستخدام جرافات (بلدوزرات) وآليات ثقيلة، وهو الأمر الذي نفته “الهيئة”.

وقال أهالٍ من قرية دير سيتا شمالي إدلب (فضّلوا عدم الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية)، إن أفرادًا تابعين لـ”الهيئة” يستخدمون الجرافات للتنقيب عن الآثار في البيوت الأثرية ومنازل المدنيين بالمنطقة، وعند سؤالهم عن سبب قيامهم بالحفر تذرعوا بامتلاكهم موافقات وتصاريح للعمل، وأنهم يقومون بحماية الآثار الموجودة في المنطقة وليس سرقتها.

إلا أن الأهالي أكدوا أن أحدًا لن يتمكن من العمل بهذه العلنية إلا إذا كان تابعًا لـ“الهيئة”، وبيّنوا أن “الهيئة” قامت بعمليات الحفر والتنقيب بكامل الموقع وذلك بعد تمكّن إحدى العائلات من استخراج “لقية ذهبية” هناك، فضلًا عن استيلائها على خمس هذه “اللقية”.

أما في منطقة الكفر غربي البارة، فأشار أحد الأهالي إلى أن عناصر تابعين لقوات النظام السوري دخلوا إلى قصر “دير سوباط” الأثري بالدبابات، وقاموا بهدم غرف وتخريب قسم كبير منه، ليتحول بعدها إلى مكان للتدريب على السلاح من قبل فصائل عسكرية تقوم برمي حجارته بالرصاص، ونتيجة لذلك صار حاليًا على وشك الانهيار.

عقب انسحاب النظام من إدلب عام 2015، ووقوع خلافات بين الفصائل المسلحة آنذاك، عثر عناصر من “حركة أحرار الشام” على قطع أثرية في أحد مقرات “جند الأقصى”  كانت قد فُقدت من متحف “إدلب”، وفق ما صرح به أحد عناصر “أحرار الشام” لموقع “حكاية ما انحكت“، وأوضح أنه “عند اقتحام مقرات (جند الأقصى) وجدنا صناديق بلاستيكية تحوي تحفًا أثرية وقطعًا فخارية مغلفة وملفوفة بأكياس كنا قد فقدناها من متحف إدلب في فترات سابقة”.

تدريبات لعناصر “هيئة تحرير الشام” في إدلب – 17 من حزيران 2020 (إباء)

“هيئة تحرير الشام” ترد

مسؤول التواصل الإعلامي في “تحرير الشام”، تقي الدين عمر، نفى من جانبه ضلوع “الهيئة” بأي من عمليات التنقيب الجارية في إدلب.

وفي اتصال لعنب بلدي معه اعتبر أن الأمر بعكس ذلك، وأن “وزارة العدل في حكومة الإنقاذ” تعمل على ضبط ومحاسبة الضالعين بالعبث بهذه الآثار أو تهريبها إلى مناطق أخرى، عبر سلسلة من الإجراءات الاحترازية.

مدير مديرية الثقافة في حكومة “الإنقاذ”، جمال شحود، قال لعنب بلدي، إن “دائرة الآثار والمتاحف” التابعة للمديرية، اتخذت إجراءات احترازية في وقت مبكر تضمن حماية هذه الممتلكات الثقافية، بحسب تعبيره.

وأشار إلى تقديم مقترح مشروع قانون للآثار إلى لجنة صياغة القوانين من أجل دراسته وعرضه على رئاسة الحكومة لاعتماده، على أن تكون مواده واجبة التطبيق في المحاكم، بما يضمن حماية المواقع الأثرية من التخريب أو التنقيب، مبينًا أنه تم تحويل مجموعة القواعد القانونية إلى “وزارة العدل” لإجراء اللازم بهذا الخصوص. 

ولفت إلى عقد عدة اجتماعات مع “رئاسة حكومة الإنقاذ” و”وزارة الإدارة المحلية” و”وزارة الداخلية” لهذا الغرض، إذ تم شرح واقع آثار إدلب، والحث على ضرورة التحرك نحو إيجاد آلية تمنع تخريب المواقع.

وأضاف بهذا الصدد، “صدرت عدة تعميمات من قبل رئاسة الحكومة بالعمل على حماية الممتلكات الثقافية وعدم تخريبها، تبعتها تعميمات على مستوى وزارة الإدارة المحلية لمخاطبة الوحدات الإدارية التابعة لها، وكذلك تعميم من قبل وزارة الداخلية تضمّن مخاطبة الوحدات الشرطية بضرورة التدخل السريع لإيقاف أي تعدٍّ تبلغ عنه دائرة الآثار، وقد تم إيقاف العديد من التعديات على المواقع الأثرية، كما شُكّلت لجنة لتقييم المباني التاريخية ضمن المدينة لدراسة المباني المسجلة والملحوظة على المخطط التنظيمي للمدينة بهدف المحافظة على الشرائح الأثرية المسجلة”. 

أدوات تعود للعصر الهلنستي في متحف مدينة إدلب – 18 من شباط 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

جهود حماية الآثار 

مدير متحف “إدلب”، أيمن النابو، أشار إلى أن العمل في سبيل حماية ما تبقى من آثار إدلب ينقسم إلى شقين، يتمثل الشق الأول بنشر الوعي المجتمعي لدى المجالس المحلية والمنظمات والجامعات وطلاب المدارس، من خلال حملات التوعية والجلسات الحوارية والورشات الثقافية التي تعقد دوريًا بهدف رفع الوعي الثقافي بضرورة حفظ الممتلكات الثقافية للأجيال القادمة، وإشراك المجتمع المحلي في موضوع الحماية وجعل حماية الآثار مسؤولية الفرد والمجتمع.

أما الشق الآخر فهو قانوني إداري، يتمثل بإيجاد قواعد قانونية تكون واجبة التطبيق في المحاكم من شأنها تجريم الانتهاكات الحاصلة للممتلكات الثقافية، وتشكل قوة رادعة لضعاف النفوس الذين تسوّل لهم أنفسهم تخريب المواقع الأثرية بغرض البحث عن الكنوز والدفائن، بحسب النابو، عازيًا انتشار عمليات التنقيب عن الآثار بكثرة لدى شريحة كبيرة من المجتمع إلى الفقر وقلة فرص العمل والحالة المعيشية المزرية التي تعيشها المناطق “المحررة”.

وعن دور المنظمات الدولية في حماية آثار إدلب، أشار النابو إلى أن دعم المنظمات في هذا المجال لا يزال خجولًا، إذ تعتبر الأمر ثانويًا في زمن الحرب، وأن الأولوية يجب أن تكون للتعليم والصحة والغذاء، معبرًا عن أمله بأن تكون السنوات المقبلة أفضل فيما يخص حماية الممتلكات الثقافية والآثار وترميمها وإعادة تأهيلها من جديد.

أما “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة” (يونسكو) فهي لا تقدم الدعم إلا لـ”المديرية العامة للآثار والمتاحف” الموجودة في دمشق والتابعة للنظام، ولا تعترف بالجهات الفنية أو الإدارية العاملة في ملف الآثار بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ويأمل النابو أن يتمكن من خلال التواصل الدائم مع “يونسكو” والتقارير الدورية التي يتم رفعها إلى الزملاء في أوروبا من الحصول على نوع من الاعتراف، يتيح المزيد من التقدم في حماية وإدارة ملف آثار إدلب.

قال المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، محمود حمود، إن حكومة النظام على تواصل دائم مع منظمة “يونسكو” لإطلاعها على ما تتعرض له آثار سوريا من دمار وتخريب ونهب وتنقيب غير شرعي، مشيرًا إلى أن ما يزيد على عشرة آلاف موقع أثري في مناطق مختلفة من البلاد قد تعرضت للضرر.

وفيما يخص الآثار التي تم تهريبها، لفت إلى وجود تواصل جيد مع “الإنتربول” الدولي الذي يطلعهم بدوره على كل قطعة يتم التعرف إليها بعد مصادرتها، وقد تمت حتى الآن إعادة بعض القطع من لبنان، كما أن هناك مئات القطع الموجودة في دائرة الآثار الأردنية وعد الجانب الأردني بإعادتها، بينما تمتنع تركيا عن إعادة ما لديها من قطع.

طفل ينظر إلى القطع الأثرية في متحف مدينة إدلب – 18 من شباط 2021 (عنب بلدي/ يوسف غريبي)

عقوبة تهريب الآثار في القوانين السورية

المحامي أحمد صوان تحدث لعنب بلدي عن عقوبات تهريب الآثار والتنقيب عنها، وبيّن أن عقوبة تهريب الآثار جنائية الوصف، وهي عقوبة قاسية ورادعة وتتساوى مع عقوبة جريمة القتل بالقانون السوري.

إذ نصت المادة “56” من قانون الآثار السوري على أنه “يعاقَب بالاعتقال من 15 سنة إلى 25 سنة وبالغرامة من خمسمئة ألف ليرة إلى مليون ليرة كل من هرّب الآثار، أو شرع في تهريبها”.

أما عقوبة التنقيب عن الآثار من دون ترخيص فقد نصت عليها المادة “57 /2” من قانون الآثار، وجاء فيها أنه، “يعاقَب بالاعتقال من عشر سنوات إلى 15 سنة وبالغرامة من مئة ألف إلى خمسمئة ألف ليرة سورية كل من أجرى التنقيب عن الآثار خلافًا لأحكام هذا القانون”.

ويقصد بالتنقيب عن الآثار، “جميع أعمال الحفر والسبر والتحري التي تستهدف العثور على آثار منقولة أو غير منقولة في باطن الأرض أو على سطحها أو في مجاري المياه أو البحيرات أو حتى في المياه الإقليمية”.

وتضمنت المادة “57ج” من القانون عقوبة الاتجار بالآثار، إذ نصت على أنه “يعاقَب بالاعتقال من عشر سنوات إلى 15 سنة وبالغرامة من مئة ألف إلى خمسمئة ألف ليرة سورية كل من: ج ـ اتجر بالآثار”.

من يملك الآثار في سوريا؟

أوضح المحامي أحمد صوان أن قانون الآثار السوري الصادر بالمرسوم التشريعي رقم “222” بتاريخ 26 من تشرين الأول 1963، والمعدل بالقانون رقم “1” بتاريخ 28 من شباط 1999، ينص على أن “جميع الآثار الثابتة والمنقولة والمناطق الأثرية الموجودة في الجمهورية العربية السورية تُعدّ من أملاك الدولة العامة، ويستثنى من ذلك الآثار الثابتة التي يثبت أصحابها ملكيتهم لها أو الآثار المنقولة التي سُجلت من قبل مالكيها لدى السلطات الأثرية كأملاك خاصة، والآثار المنقولة التي لا ترى السلطات الأثرية لها أهمية”.

الحفاظ على الآثار في القانون السوري

لفت صوان إلى أن قانون الآثار اهتم بالمحافظة على هذه الثروة، ونص على أنه لا يجوز للبلديات أن تمنح رخصة البناء والترميم في الأماكن القريبة من المواقع الأثرية والأبنية التاريخية إلا بعد الحصول على موافقة السلطات الأثرية، لتضمن إقامة المباني الحديثة على النسق الذي تراه ملائمًا للطابع الأثري. 

كما قيّد المشرّع الوزارات والإدارات واللجان المختصة عند وضعها مشروعات تخطيط المدن والقرى وتنظيمها أو إزالة الشيوع بضرورة الحصول على موافقة السلطات، ما يدل على الحرص الشديد على حماية الآثار والمواقع الأثرية من التعديات حتى لو كانت من جهة عامة.

إلا إن هذا النطاق النظري يتعارض مع الواقع، فقد تعرضت الآثار السورية للاعتداء والنهب والسرقة والتهريب على يد أزلام السلطة ومافيات الأمن منذ السبعينيات وحتى اليوم. 

حماية الآثار في القانون الدولي

استهداف المناطق الأثرية (ويطلق عليها صفة المناطق المصنّفة كإرث ثقافي أو حضاري خلال الصراعات المسلحة) يعتبر “جريمة حرب”، بحسب ميثاق روما الأساسي، ومعاهدة لاهاي لعام 1954.

وتنص المادة الـ15 من البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي لعام 1954 الخاص بحماية الممتلكات الثقافية على أن “أي شخص يُعتبر مرتكبًا لجريمة بالمعنى المقصود في هذا البروتوكول إذا اقترف عمدًا أيًا من الأفعال التالية، ومنها ارتكاب سرقة أو نهب أو اختلاس أو تخريب لممتلكات ثقافية محمية بموجب الاتفاقية”.

بناء أثري في منطقة البارة في جبل الزاوية بريف إدلب – 2 من أيار 2018 (عنب بلدي)

خصوصية آثار إدلب

تحدث الباحث والمؤرخ من إدلب فايز قوصرة، لعنب بلدي، عن المزايا التي تتمتع بها محافظة إدلب واحتوائها العديد من المواقع الأثرية المهمة التي تروي قصة حضارات مرت عليها وعاشت فيها حياة رغيدة.

وبيّن أن إدلب تعد من أغنى المحافظات بالمواقع الأثرية المهمة في الشمال السوري، ففي كل ثلاثة كيلومترات يوجد موقع أثري، وهناك علامات مميزة في العمارة التي ازدهرت بين القرنين الخامس والسادس الميلادي، فمعظمها كان عبارة عن “دارات” أو “فيلات” كما نقول بلغة اليوم، إلى جانب الكنائس والخانات والأسواق والحمامات والأديرة.

وأشار إلى أن الدير كان عبارة عن مدرسة تعليمية وليس مكانًا يقتصر على العبادة فقط، إذ لم تكن هناك مدارس بمفهومها العصري، وكما كان لدى المسلمين كتاتيب لتعليم الأطفال، كان الدير بمثابة مدرسة للتعليم، وهو ما دعا الباحثين إلى إيلاء اهتمام بدراسة الأديرة في الشمال السوري.

ومن أهم الأديرة دير “ترمانين”، ودير “سوباط”، الواقع في قرية كفر البارة التي تبعد حوالي كيلومتر عن قرية البارة الأثرية، والذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، على شكل مستطيل له سور وأعمدة ضخمة كان أبناء البارة يضعون عليها عرائش العنب، وقد كان هذا الدير مدرسة تعليمية، إذ يتكون من صالة وغرف ومطبخ خاص لإطعام طلاب المدرسة والرهبان والأساتذة، وفيه نقوش وكوات إضاءة، فهو يمتاز بكثرة الشبابيك ونوافذ الإضاءة ليتمكن الطلاب من مشاهدة ما يتعلمونه، كما يسمى دير “إليزابيث”، وهو ما يدل على أنه كان أيضًا مدرسة لتعليم البنات، ولم يكن هناك جهل كما يعتقد البعض بل كان الجميع يحصل على التعليم، وتدل العمارات الفنية القائمة في جبال إدلب على أن الحياة الاقتصادية والعلمية كانت متقدمة، وتمتعت المنطقة بموقع استراتيجي مهم لأنها كانت على طريق القوافل التجارية القادمة من أنطاكيا إلى أفاميا والمواقع الأخرى.

مقالات متعلقة

  1. آثار إدلب مهددة بالاندثار.. من المسؤول عن حمايتها؟
  2. آثار إدلب.. بين التغريب والتخريب
  3. العقوبات المنصوص عليها في قانون الآثار السوري
  4. البداية من المتحف.. هل تسترد إدلب وجهها الثقافي؟

تحقيقات

المزيد من تحقيقات