تختلف رواية ستيفان زفايغ “آموك” عن كل ما سبقها بوصفها شرحًا عمليًا لحالة مرضية قد يرى فيها البعض حبًا يبالغ في التعبير عن نفسه.
يسرد زفايغ الأحداث على لسان طبيب خاسر التقى به على متن إحدى السفن، وروى الطبيب بدوره الأحداث لزفايغ كما جرت معه في أثناء مزاولته مهنته في إحدى العيادات الريفية.
والقضية أن امرأة متحضرة رفيعة المنزلة ساحرة الهيئة زارت مع خادمها عيادة الطبيب، لتعرض عليه بعد حديث مقتضب لا تنازل أو مجاملة فيه، إجراء عملية إجهاض لها مقابل مبلغ محترم.
أثارت الصفقة حنق الطبيب، لا لعدم شرعيتها فحسب، بل بسبب اللهجة الفوقية المشبعة بالكبرياء التي تتحدث بها السيدة، رغم وقوعها تحت حصار زمني خانق، إذ تسعى لإجهاض الجنين قبل عودة زوجها من السفر، فالجنين نتيجة علاقة غرامية جمعتها بحبيب مجهول الهوية حتى الآن، ويجب التخلص منه خلال أيام قبل عودة الزوج.
يرفض الطبيب العرض أملًا بتوسل المرأة وكسر كبريائها، لكنها تنسحب دونما إلحاح، ما يثير في نفس الطبيب يقظة الواجب الذي يدعو إلى حماية الروح.
يخرج الطبيب في إثر المرأة ليعلن استعداده لتنفيذ طلبها، لكنها ترفض، وتقاوم تواصله معها حتى، وكل ذلك لا يزيد الطبيب إلا تعلقًا بالموضوع، فإذا كان الكبرياء وعزة النفس ما منعاها من إراقة ماء وجهها لتنجو، فإن هذا الكبرياء نفسه جعل الطبيب معجبًا بها، وواقعًا تحت سطوة حضورها، ويسعى لتخليصها من مشكلتها بأي ثمن.
“آموك”، بهذه الكلمة يصف الطبيب حالته لزفايغ، على أنها نوع من السُكر والجنون والسعار البشري، التي تقود الشخص إلى توحد قاتل، ولا يمكن مقارنتها بأي درجة سُكر يفضي إليها الكحول.
في الوقت الذي يسعى الطبيب خلف السيدة ليعرض خدماته عليها، تهرب الأخيرة ظنًا منها أنه يحاول كسر كرامتها، وهذا ما عبر عنه الطبيب نفسه بالقول، “تلاحق شخصًا لتنبهه من مجرم سيقتله، بينما يعتبرك هذا الشخص أنت نفسك مجرمًا”.
وما يميز هذه القصة التي كتبها زفايغ في أقل من 100 صفحة، تحرر أبطالها من أسمائهم، إذ لا تعقيد تفك الأسماء شيفرته، إضافة إلى كون الرواية بأغلبيتها سردًا وبوحًا خاليًا من الحوارات المتعددة الأطراف.
تتسارع الأحداث، ويسابق الطبيب الزمن لينقذ المرأة التي وقعت ضحية لحمل بغير وقته، وضحية لكبرياء لا يبني من النفس مقدار ما يهدم، والوقت المتبقي ثلاثة أيام قبل الفضيحة، وكل رفض من السيدة يحقن الطبيب بالمقاومة التي لا يستطيع هو نفسه السيطرة عليها، إذ يقول في وصف نخوته الطارئة، “كنتُ مستعدًا لارتكاب جريمة قتل لمساعدتها”.
وبعد فشله في التوصل إلى اتفاق واضح معها، أرسل إليها رسالة من غرفة حجزها في فندق قريب من منزلها، ومفاد الرسالة أنه سيطلق الرصاص على رأسه ما لم تتكرم بالرد عليه.
أمضى وقت انتظار الرد مشوش الذهن والعقل، وحين احتاجت إليه فعلًا وأرسلت في طلبه، وجدها غارقة بدمائها، طريحة الفراش في أحد الأقبية التي تجري عملية الإجهاض بما هو متاح من خبرة ونظافة، وحتى إضاءة.
تدور القصة كلها ليلًا على متن السفينة، وفي عرض البحر، ما يعطي القصة بعدًا نفسيًا وشحنًا عاطفيًا إضافة إلى ما تعكسه أحداثها الحامية.
“آموك” هو سلوك إجرامي تمت دراسته وتسميته في ماليزيا، وهو سعار مفاجئ، وغضب لا يمكن التحكم به، يحركه في أوقات كثيرة الشعور بالإحباط، والتعرض للهزائم القاسية، فيركض المريض بلا توقف مؤذيًا كل ما يعترضه قبل بلوغ هدفه، لكن سعار الطبيب من نوع مختلف، إذ لم يحصد في طريقه إلى السيدة أي قتيل، إنه سعار الحب.