عنب بلدي – أمل رنتيسي
لا يكاد ينقطع الأمل لدى الحاج محمد (75 عامًا) أن يكون ولداه المعتقلان منذ 2014 من بين المفرج عنهم في كل عملية إطلاق سراح بمحافظة درعا جنوبي سوريا.
ويحاول الحاج محمد زيارة المفرَج عنهم، علّه يجد من يطمئنه أو يعطيه أي خبر عن ولديه اللذين انقطع اتصاله بهما منذ عام 2014، ولكنه لم يحصل على أي خبر، ما يزيد مخاوفه على حياتهما، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
وأدرج الحاج محمد اسمي ولديه في مركز تسجيل المعتقلين الذي أنشأته الشرطة العسكرية الروسية، في حزيران 2020، في فندق “وايت روز” بدرعا، إذ طلبت من ذوي المعتقلين صورة عن هوية المعتقل وبيانات تاريخ الاعتقال.
وكذلك، انتظرت الشابة رقية خبرًا قد يكون مفرحًا بالإفراج عن أخيها، لكنها أصبحت أكثر تخوفًا على حياته، وقالت لعنب بلدي، “في كل مرة يفرج النظام عن معتقلين ولا يكون أخي ضمنهم، يزيد إحساسي أن أخي فارق الحياة تحت التعذيب”.
وراجعت رقية المركز الذي افتتحه الروس، وقدمت بيانات كاملة دون أي رد من قبل الجانب الروسي، وأوضحت أن “اللجنة المركزية” طلبت أكثر من خمس مرات بيانات للمعتقلين قدمتها للروس والنظام، كما قدمت رقية للروس مباشرة، في حزيران 2020، بيانات أخيها المعتقل.
وعود سورية- روسية لا تنفذ
يستخدم النظام السوري وحليفته روسيا ورقة المعتقلين خلال عمليات “التسوية” في مدن محافظة درعا، إذ أُطلقت مؤخرًا وعود من الجانب الروسي ونقاش لـ“إمكانية” إطلاق سراح المعتقلين في التحرك الأخير لاتفاق “التسوية” بمدينة طفس.
ووعد الروس بإطلاق سراح المعتقلين الذين “لم يشاركوا في عمليات الإعدام والهجمات الإرهابية”، بحسب ما نشرته وسائل إعلام روسية، في 12 من شباط الحالي.
وفي تسجيل مصوّر نشره “تجمع أحرار حوران” لأحد أهالي المدينة، اسمه “أبو شادي البردان”، طالب فيه النظام بإطلاق سراح المعتقلين قائلًا، “تمنينا منكم حين طلبتم الزيارة إلى مدينة طفس، كنا نظن أنكم ستطلقون سراح إخوة لنا لا نعلم عنهم شيئًا بسجونكم التي اعتقلتموهم فيها اعتقالًا قسريًا وعشوائيًا”.
وتابع المواطن، “كلنا هدف للاعتقال من قبلكم، ولن نقبل في المرحلة المقبلة رئيسًا يحكم دولة ما زال المعتقل فيها مغيّبًا، والمعتقلة تُغتَصب، والمدني لا يستطيع التنقل من مدينة إلى أخرى خوفًا من الاعتقال”.
وحول وعود إطلاق سراح المعتقلين، قال عضو مكتب “توثيق الشهداء في درعا” عمر حريري، لعنب بلدي، إن “هذه الوعود نسمعها دائمًا في أي اجتماع يعقده النظام، أو تتوسط فيه روسيا”.
وأكد أن “هذه الوعود فارغة، ولا يوجد شيء حقيقي حتى الآن، كما أن الاعتقالات ما زالت مستمرة”.
مصير مجهول للمعتقلين القدامى من أهالي درعا
في 8 من شباط الحالي، أفرج النظام السوري عن 63 معتقلًا، بينهم خمس نساء، لكن “تجمع أحرار حوران” ذكر، عبر صفحته في “فيس بوك“، أن أهالي عدد من المفرج عنهم، دفعوا مبالغ “تقدر بملايين الليرات السورية” لمحامين وضباط في قوات النظام السوري.
وأصدر مكتب “توثيق الشهداء في درعا”، في 9 من شباط الحالي، بيانًا أوضح فيه ملابسات عملية الإفراج من الناحية القانونية، فالمفرَج عنهم لم تصدر بحقهم أي أحكام قضائية، إنما كانوا موقوفين واحتُجزوا تعسفيًا في الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري.
وأشار المكتب إلى أن جميع الموقوفين الذين أُطلق سراحهم، اعتُقلوا بعد اتفاقية “التسوية” في آب 2018، كما تراوحت فترات اعتقالهم بين ثلاثة أشهر و22 شهرًا، مؤكدًا على وجوب إيقاف عمليات الاعتقال والاختفاء القسري.
كما أفاد أن 31 من المفرَج عنهم يحملون بطاقات “التسوية”، و15 شخصًا من المؤسسة العسكرية انضموا إلى تشكيلات النظام بعد “التسوية”.
ويعتبر هذا الإفراج الخامس منذ منتصف عام 2019 عن معتقلين من محافظة درعا، وزادت هذه الإفراجات المتقطعة تخوّف السكان في درعا على مصير معتقليهم القدامى، إذ خلت قوائم المعتقلين منهم، واقتصرت على من اعتقله النظام بعد “التسوية”.
المحامي سامي الخليل، رئيس “حركة نداء سوريا”، قال لعنب بلدي، إن “النظام زج بمعتقلين جدد بعد التسوية للإفراج عنهم لاحقًا، وذلك للتغطية على مصير المعتقلين القدامى الذين قُتل معظمهم تحت التعذيب”.
ويعيش أغلب أهالي المعتقلين بالمنطقة في تعب وتشتت نفسي وفكري، وفق ما أوضحه المحامي، وتابع، “النظام يعرف أن الاعتقال يوجع الأهل، فهو لا يتوانى عن أي فعل يقهر ويذل الشعب السوري”.
وقال عضو مكتب “توثيق الشهداء في درعا” عمر حريري، إن “المعتقلين بالنسبة للنظام ورقة تفاوض وضغط، ولن يطلق النظام السوري سراحهم دون مقابل”، كما أن المعتقلين القدامى والمفقودين تحديدًا أغلبهم متوفون بتلميحات صدرت عن مسؤولي النظام أكثر من مرة.
صعوبة في إحصاء عدد المعتقلين القدامى
استذكر حريري، خلال حديثه إلى عنب بلدي، قول رئيس شعبة “الأمن العسكري” في الجنوب السوري، لؤي العلي، الذي أسهم في إتمام “التسويات”، إن “المعتقلين القدامى المفقودين لا نعرف عنهم شيئًا، والملفات ليست موجودة، لذلك لن تنفع المطالبة بهم”.
كما أكد مراسل عنب بلدي في درعا، أنه عندما قدم رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، محمد محلا، إلى طفس في 2019، قال، “كل معتقل قبل الـ2014 انسوه”، بحجة أنه لم يكن يوجد توثيق، وبسبب قلة التنظيم والتعاون بين الأفرع الأمنية.
ولا توجد إحصائية دقيقة لأعداد المعتقلين قبل “التسوية”، بحسب حريري، لكنه أفاد أن البيانات المجموعة في المكتب تُقدر بـ4300 معتقل على الأقل.
وأصدر المكتب تقريرًا، في كانون الثاني الماضي، تحت عنوان “على أنقاض التسوية (2)”، وثّق فيه اعتقال مدنيين وعناصر معارضة سابقين ممن انضموا إلى اتفاقية “التسوية”.
واعتقلت قوات النظام، وفق التقرير، 751 شخصًا خلال عام 2020، بينهم 17 سيدة وخمسة أطفال، وأُفرج عن 201 معتقل منهم في وقت لاحق من العام نفسه، بينما قُتل ثلاثة منهم تحت التعذيب أو في ظروف الاعتقال غير القانونية في السجون.
وأشار التقرير إلى أن هذه الإحصائية لا تتضمن من تم اعتقالهم بهدف سَوقهم إلى الخدمتين الإلزامية والاحتياطية في قوات النظام، إذ قدّر المكتب عددهم بعدة آلاف.
وأكد أن الأعداد الحقيقية للمعتقلين هي أكثر مما تم توثيقه، بسبب ما واجهه المكتب من رفض وتحفظ العديد من عائلات المعتقلين على توثيق بيانات ذويهم، نتيجة مخاوفهم من الوضع الأمني الجديد داخل محافظة درعا.
“التسويات” في درعا
جرى التوصل إلى اتفاقات “تسوية” عملت روسيا على تمريرها في درعا، عقب حملة عسكرية تلت سيطرة النظام على محيط دمشق وريف حمص الشمالي، تسببت حينها بنزوح 234 ألف شخص من المحافظة، وفق إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة في 11 من تموز 2018، ووضعت فصائل المعارضة أمام خيار “تسوية” أوضاعهم أو التهجير نحو الجيب الأخير للمعارضة في إدلب.
و”التسوية” الأولى في محافظة درعا أُجريت في تموز عام 2018، بعد مفاوضات بين قوات النظام و”اللجان المركزية”، المكوّنة من عاملين في الشأن المدني من هيئات وشيوخ عشائر وقادة سابقين في “الجيش الحر”، وتمت بوساطة روسية.
وشملت بنودها خروج المعتقلين، وتأجيل خدمة العلم، وعودة الخدمات المدنية إلى المدينة، وعودة الموظفين المفصولين من الدوائر الحكومية إلى عملهم.
وفي 1 من آذار 2020، وبعد حملة عسكرية شنتها قوات النظام على مدينة الصنمين شمالي درعا، بحجة وجود “إرهابيين” فيها، عُقدت “تسوية” جديدة للمقاتلين السابقين من أهالي المدينة.
ونص الاتفاق على خروج الرافضين لـ“التسوية” إلى الشمال السوري، أما الذين بقوا في المدينة، فقسم منهم سلم سلاحه وأجرى “التسوية” مع النظام، وقسم طلب الخروج إلى بصرى الشام، والانضمام إلى “الفيلق الخامس” الذي شكّلته روسيا لدعم قوات الأسد، بقيادة أحمد العودة.
وفي أيلول 2020، وبعد مرور عامين على “التسوية” الأولى، افتتحت الأفرع الأمنية مركزين لـ”تسوية” جديدة، الأول في مدرسة “ميسلون” ضمن مدينة درعا، والثاني في مدينة بصرى الشام، وهو مخصص لعناصر “اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس”.
وبحسب الاتفاق، شُطبت أسماء المنضمين إلى “اللواء” من قائمة المطلوبين للجهات الأمنية، ومُنحوا حرية الحركة والتنقل دون التعرض للملاحقة والاعتقال.
ولكن على الرغم من “التسويات” السابقة، فإن التزام الأفرع الأمنية والضامن الروسي لم يكن تامًا، كما لم يفِ النظام بوعوده لسكان درعا، في وضع حد لتجاوزات الأفرع الأمنية وإعادة الخدمات إلى المنطقة، إذ استمرت عمليات الاعتقال وتشديد القبضة الأمنية.
وترافق ذلك مع تهديد مناطق درعا باقتحام عسكري، كما حصل في درعا البلد والكرك الشرقي في تشرين الثاني 2020، وخرجت خلال الأشهر الماضية مظاهرات في معظم مناطق درعا ضد النظام السوري، ونددت بسوء الوضع المعيشي.
وفي 2 و3 من كانون الأول 2020، توصلت “اللجنة المركزية” في درعا إلى اتفاق “تسوية” جديد مع اللجنة الأمنية التابعة للنظام السوري، يقضي بتسليم المنشقين لقطعاتهم العسكرية، وإلغاء المطالبات الأمنية بحق المدنيين.
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في درعا حليم محمد