عنب بلدي | علي درويش
أمتار قليلة تفصل بين نفوذ سلطات الأمر الواقع في منطقتين لسيطرة المعارضة شمالي سوريا، الممثلة بحكومتي “الإنقاذ” في إدلب و”المؤقتة” بريف حلب، اللتين اعتمدتا نظامين قضائيين مختلفين في مصدر التشريع، وفي بعض الأحيان بآلية تنفيذ الأحكام القضائية، والامتناع عن تنفيذ أخرى.
ويمتد نفوذ “الحكومة المؤقتة” في مناطق عفرين شمالي حلب، وريف حلب الشمالي، ومنطقتي تل أبيض شمالي الرقة ورأس العين شمال غربي الحسكة، بينما ينحصر نفوذ “الإنقاذ” في محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي.
ويفصل معبرا “الغزاوية و”دير بلوط” مناطق سيطرة “الإنقاذ” عن مناطق سيطرة “المؤقتة”، ليكونا فاصلًا في تطبيق الأحكام القضائية، التي يستطيع أي مطلوب أو مرتكب لجرم أن يهرب عبرهما من مناطق “الإنقاذ” إلى “المؤقتة” (أو العكس)، وبالتالي لا تطبق عليه الملاحقة القضائية، إلا في حال رفع دعوى جديدة عليه لدى محاكم الطرف الثاني.
ويعتبر “الجيش الوطني”، المدعوم من تركيا، الذراع العسكرية للحكومة “المؤقتة” (تابع لوزارة الدفاع في الحكومة) إلى جانب الشرطة المدنية والعسكرية (التابعة للداخلية)، بينما تُتهم حكومة “الإنقاذ” بأنها واجهة لـ”هيئة تحرير الشام”، إلا أن “الهيئة” تنفي ذلك وتعبر عن نفسها بأنها تعمل بالتنسيق مع الحكومة.
ولا تخلو مناطق الحكومتين من حل بعض القضايا أو المشاكل بين الأهالي أنفسهم دون الرجوع إلى المحاكم، وهو ما ظهر جليًا في الاقتتال بين الفصائل العسكرية، الذي ينتهي معظمه باجتماع يضم وجهاء المنطقة وقادة الفصائل، والاتفاق على “صيغ صلح”.
أما العاملون في المنظمة القضائية فهم عرضة للخطر الدائم في هذه المناطق، في ظل عدم وجود ضوابط للأمن، وتعدد عمليات الاغتيال والتفجيرات التي طالت مختلف شرائح المجتمع.
وتبحث عنب بلدي ضمن هذا الملف في هيكلية ومصادر التشريع القضائي بمناطق سيطرة المعارضة، والمشاكل التي تعترض تطور القضاء، وآلية عمل المحامين وأبرز المشاكل التي تواجههم، بمقابلة مواطنين تأثروا باختلاف المرجعية القضائية وقضاة ومحامين ومسؤولين من الجانبين.
فصائل وأجهزة أمن تتحرك منفردة.. أين القضاء؟
تأخر الشرطي أحمد وهب (35 عامًا)، في 12 من تشرين الأول 2020، عن موعد قدومه من عمله في مركز شرطة مدينة الباب شمالي حلب.
ساعة تلو أخرى من التأخير، دفعت والد أحمد للاتصال بمركز عمله، ليعلم أن ابنه اعتقل بتهمة سرقة “هارد” كمبيوتر من قسم الشرطة.
استمر احتجاز أحمد، حتى علمت عائلته، في 1 من تشرين الثاني 2020، بإصابته بقصور كلوي ونقله إلى المستشفى بسبب التعذيب .
وشُكّل لاحقًا مجلس انضباطي في قيادة شرطة الراعي شمالي حلب (محاكمة مسلكية)، للتحقيق مع الملازم أول عبد الله النايف، الذي ادعى عليه أحمد بأنه المسبب بالمرض، بسبب سلوكه العنيف الذي اعتمد على تعذيب أحمد خلال فترة السجن.
ومع توكيل محامٍ من قبل أهل أحمد لمتابعة القضية، ووعود قائد شرطة الباب، النقيب خالد الأحمد، في حديث إلى عنب بلدي حينها، بمتابعة القضية ومحاسبة المخطئين “بحسب خطئهم”، انتهت القضية بتبرئة أحمد من تهمة السرقة.
نهاية قضية أحمد، لا تختلف كثيرًا عن قضية المنشد حسام حمادة، الملقب بـ”أبو رعد الحمصي”، الذي تعرض للضرب من قبل عناصر الشرطة العسكرية التابعة لـ”الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، في مدينة عفرين، وأوقف عدة ساعات.
“لأنه لم يحترم المعلم (رئيس القسم محمد حمادين)”، انهال عناصر في قسم الشرطة على حسام حمادة بالشتائم والضرب، حسب حديثه إلى عنب بلدي.
وتوسط أشخاص لحل الخلاف مع الشرطة العسكرية، ما أدى إلى عزل خمسة عناصر شاركوا بضرب حمادة وسجنهم وإحالتهم إلى القضاء، واعتذار رئيس قسم الشرطة، وإحالة ملفه إلى لجنة رد المظالم في “الجيش الوطني”، بحسب بيان نشرته “اللجنة المشتركة لرد الحقوق” في عفرين، بتاريخ 7 من تشرين الثاني 2020.
وفي مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ”، يتبنى “جهاز الأمن العام” العامل في إدلب العديد من عمليات ملاحقة المطلوبين أمنيًا.
وبينما نفى مكتب العلاقات العامة في “هيئة تحرير الشام” (أكبر فصائل المنطقة والأكثر نفوذًا) عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي تبعية الجهاز لها، اعتقلت “تحرير الشام” العديد من الأشخاص، منهم الناشطة الإعلامية نور الشلو، والصحفي الأمريكي بلال عبد الكريم، وعامل الإغاثة البريطاني توقير شريف.
وأطلقت “هيئة تحرير الشام” سراح الإعلامية نور الشلو، في 4 من كانون الثاني الماضي، بعد اعتقال دام أكثر من ثلاثة أشهر، تخللها تحذير ناشطين من نية “الهيئة” إعدام الناشطة بعد إصدار حكم إعدام بحقها، بتهمة “التخابر مع التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، دون توضيح الإجراءات القضائية.
ولا يزال الصحفي الأمريكي داريل فيلبس، الملقب بـ”بلال عبد الكريم”، معتقلًا في سجون “تحرير الشام”، منذ 14 من آب 2020، وبررت “الهيئة” اعتقاله بوجود بعض الادعاءات التي أحاطت به، وذلك بعد ساعات من توجيهه عددًا من الأسئلة لـ”تحرير الشام”، عبر قناته الخاصة “On the Ground News”، قائلًا، “هل التعذيب مسموح في السجون الواقعة تحت سيطرة الهيئة؟”.
وكان صديق بلال عبد الكريم، عامل الإغاثة البريطاني توقير شريف، أوفر حظًا، إذ أطلقت “تحرير الشام” سراحه في 25 من تشرين الثاني 2020، بتعهد وعفو، بعد ثلاثة أشهر ونصف على اعتقاله للمرة الثانية.
وخرجت مظاهرات في مدينة إدلب ضد “تحرير الشام” بعد قتل عناصر منها شابين مدنيين من آل غنوم على حاجز، في 8 من تشرين الثاني 2020.
وبحسب توضيح مكتب العلاقات العامة في “تحرير الشام”، وردت شكوى لعناصر “الهيئة” بالمنطقة ليلة مقتل الشابين، تفيد بوجود حركة غير طبيعية في المكان، ما دفع بعض العناصر للتحري والبحث.
وصادف عملية البحث مرور شابين في وقت متأخر من الليل وفي ظلام دامس، يستقلان دراجة نارية في المكان نفسه، ما أثار الريبة واستدعى التوقيف، بحسب ما قاله مدير مكتب العلاقات، تقي الدين عمر، في مراسلة إلكترونية لعنب بلدي.
وبعد إشارة العناصر إليهما بالتوقف، سارع الشابان إلى الهروب، ما زاد الشك أكثر، ليُقتلا بعد ذلك “خطأ لا قصدًا، إذ كان المراد توقيفهما فقط”، بحسب عمر.
وقال عمر، إن القضاء أصدر الحكم بإثبات القتل خطأ لا عمدًا، واستُدعي أولياء الدم ووُضعوا بين خيارين: الدية المغلظة أو العفو، فطلبوا عرض القضية على قاضٍ من اختيارهم، مع إقرارهم بأي حكم يصدره.
وبعد إطلاع القاضي الذي ارتضوه على تفاصيل القضية والحكم النهائي أقره وأيّده، إلا أنهم قابلوا هذا الحكم بالرفض مرة أخرى، ولجؤوا بعده للتصعيد الإعلامي، فاستغل البعض هذا الحدث لتأجيج الوضع والدعوة إلى المظاهرات في مدينة إدلب، حسب عمر.
وأوضح تقي الدين عمر أن الإجراءات القضائية في إدلب تجري من قبل وزارة العدل والداخلية التابعتين لحكومة “الإنقاذ”، باعتبارها جهات قضائية معنية.
لكن ناشطين تحدثوا عن ضغط “تحرير الشام” على عائلة الشابين للقبول بالحكم القضائي.
هذه الأحداث الخاصة مؤشر على مجموعة من الممارسات الأعم في ريف حلب وإدلب، منها سجون خاصة واعتقالات تعسفية توثقها منظمات حقوقية محلية ودولية.
لا تنسيق قضائيًا بين مناطق “الإنقاذ” و”المؤقتة”
نفى وزير العدل في الحكومة “المؤقتة”، عبد الله عبد السلام، وجود أي تعاون أو تواصل مع حكومة “الإنقاذ”، لكنه أوضح أن أي جرم يُرتكب في المنطقة بإمكان المدعي تقديم دعوى في مناطق “المؤقتة”، ليصدر حكم غيابي على الفار، سواء إلى مناطق “الإنقاذ” أو النظام أو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرقي سوريا.
ويرى عبد السلام، في حديثه إلى عنب بلدي، أن مسألة ملاحقة الفار تحتاج إلى تسويات سياسية على مستوى دولي، وحاليًا ليس بالإمكان التواصل مع هذه الجهات بالمطلق، وليس هناك تعاون قضائي أو أمني.
وحاولت عنب بلدي التواصل مع وزارة العدل في حكومة “الإنقاذ”، كما وجهت أسئلة لها عبر مكتب العلاقات العامة في الحكومة، منذ 3 من كانون الثاني الماضي، إلا أنها لم تلقَ ردًا.
القاضي والباحث في القانون عبد الرزاق الحسين يعزو، في حديث إلى عنب بلدي، وجود المحاكم في مناطق سيطرة حكومتي “الإنقاذ” و”المؤقتة”، إلى “حالة الضرورة”، التي فرضها خروج مؤسسات النظام من هذه المناطق ومنها المؤسسة القضائية، وحاجة الناس إلى من يفصل في قضاياهم المستجدّة ونزاعاتهم، وتوق المواطنين إلى تحقيق نوع من الاستقرار في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والسلام المجتمعي. وتبقى هذه الأهداف “رهنًا بقدرة تلك المحاكم على الاستجابة لحاجات الناس وحل مشاكلهم، وهو أمر في غاية الصعوبة”.
وتختلف المحاكم الموجودة تحت سلطة الحكومتين، من ناحية المرجعية السياسية والقانونية، مع غياب المرجعية الدستورية بطبيعة الحال.
إذ تستمد المحاكم في مناطق “الإنقاذ” وجودها من سيطرة حكومة “الإنقاذ”، وتطبق “أحكام الشريعة الإسلامية غير المقننة”، وينظم عملها وأحكامها بالاستناد إلى “عدد هائل” من التعاميم الصادرة عن وزير العدل في حكومة “الإنقاذ”، حسب القاضي عبد الرزاق الحسين.
أما المحاكم في مناطق “المؤقتة”، وإن كانت عاملة في مناطق سيطرتها المفترضة، إلا أن الحكومة “لا تملك واقعيًّا أي إشراف حقيقي عليها”، وقد وُجدَت واستمرت حتى اليوم بإدارة وإشراف من السلطات التركية بالاشتراك مع الفصائل العسكرية، وهي تتخذ من القوانين السورية، التي لا تتعارض مع أهداف الثورة، قوانين واجبة التطبيق، وتتخذ نفس الهيكلية القضائية الموجودة لدى النظام.
نقابتان بمسمى واحد..
انقسام على صعيد المحامين
توجد في مناطق “الإنقاذ” و”المؤقتة” نقابتان للمحامين تحت مسمى واحد هو “نقابة المحامين الأحرار”، لكن مع اختلاف تسمية المنطقة الجغرافية، التي تعكس الخلاف بين الحكومتين.
وأكد رئيس فرع حلب في “نقابة المحامين الأحرار”، حسن الموسى، في حديث إلى عنب بلدي، أن لا علاقة لـ”نقابة المحامين الأحرار” العاملة في مناطق “المؤقتة”، بـ”نقابة المحامين الأحرار” في إدلب، وليس هناك تعاون بينهما.
وبرر الموسى ذلك بسبب ما وصفه بـ”هيمنة حكومة الجولاني (قائد هيئة تحرير الشام) عليها، ووجود المشايخ في المؤسسة القضائية، وهيمنتهم على فرع النقابة”، حسب تعبيره، وبالتالي لا تطبق في إدلب قوانين تنظيم النقابة.
وتعتمد “نقابة المحامين الأحرار” في مناطق “المؤقتة” في عملها القانون “رقم 30” الخاص بنقابة المحامين في سوريا والصادر عام 2010، لتنظيم مهنة المحاماة، مع تعطيل المواد التي تتعارض مع كونها نقابة حرة، بحذف المواد المتعلقة بهيمنة حزب “البعث” والسلطة في سوريا على النقابة، حسب حسن الموسى.
وتكمّل “القانون 30” مواد من القانون المدني تنظم حقوق والتزامات طرفي الوكالة، ومسألة الأتعاب يحكمها قانون تنظيم المهنة، ويراقب ذلك مجلس الفرع من خلال دعاوى الأتعاب.
وبلغ عدد المحامين في “نقابة المحامين الأحرار” فرع حلب حوالي 650 محاميًا ومحامية.
وتواصلت عنب بلدي مع عدة محامين في إدلب للوقوف على عدة مسائل تخص النقابة، إلا أنهم اعتذروا لأسباب مختلفة، منها عدم ممارسة المهنة حاليًا، أو اعتزالهم العمل بسبب تدخل “هيئة تحرير الشام” في تشكيل النقابة.
لكن المحامي محمود الفاضل، قال لعنب بلدي، إن عمل المحامين يجري ضمن المقبول، والتوكيل يصدر عن “نقابة المحامين الأحرار” في إدلب، وتحدد الأجور باتفاق المحامي والموكل، وفي حال الخلاف تُحل المسألة عن طريق “نقابة المحامين”، لكن لا توجد قوانين تحدد آلية عمل المحامين، وتُتخذ كمرجعية في العمل.
أُسست “نقابة المحامين الأحرار” في سوريا بمؤتمر تأسيسي انعقد في مدينة غازي عينتاب جنوبي تركيا، بتاريخ 11 من حزيران 2014.
وضمت 75 محاميًا كممثلين عن خمسة آلاف محامٍ من الداخل السوري، ومن فُصل من نقابة محامي النظام أو خرج من سوريا نتيجة تأييده الاحتجاجات الشعبية ضد النظام. |
الهيكلية القضائية.. 2017 الفيصل
تطورت عملية تشكيل الهيئات القضائية في مناطق سيطرة “الحكومة المؤقتة” عبر مراحل، حسب حديث وزير العدل، عبد الله عبد السلام، إلى عنب بلدي.
إذ شُكلت هيئات قضائية مكونة من رجال القانون (قضاة منشقون ومحامون) ورجال العلم الشرعي في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة منذ أواخر 2012، واستمر ذلك حتى أيار 2017.
شُكلت حينها الهيئة القضائية في مناطق سيطرة “المؤقتة” بالتعاون مع الجانب التركي، نظرًا إلى عدم وجود وزارة عدل في الحكومة “المؤقتة” حينها، واُعتمد على رجال القانون فقط في العمل القضائي.
وجرى الاتفاق على تطبيق أحكام القوانين السورية بمرجعية دستور عام 1950، ما يعني ابتداءً اعتماد قانون السلطة القضائية السوري في تشكيل المحاكم (محاكم بداية، قضاة تحقيق، قضاة نيابة عامة، محاكم استئناف، محكمة نقض)، وبالتالي فإن التقاضي يجري وفق الأنظمة والقواعد القانونية الدولية والقانون السوري.
ودستور 1950 أول دستور يُكتب بعد الاستقلال عن فرنسا، وأول دستور يذكر نصًا واضحًا لمصادر التشريع، وأول دستور يتم التنازع فيه بين نصي دين الدولة ومصادر التشريع، حسب دراسة لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”.
وجاء في الفصل الخامس من دستور 1950، أن سلطة القضاء مستقلة، وحُددت آلية تعيين ونقل وترفيع القضاة وإصدار الأحكام، والمحاكم التي تمارس القضاء، وغيرها من الأمور الأخرى.
وأكد الوزير عبد السلام أن المؤسسة القضائية “مستقلة بعملها، ولا سلطان لأي جهة على عمل القاضي، ولا رقابة عليه سوى محكمة النقض”، التي تعتبر المرجع الأخير لأي حكم قضائي حال وقوع أي طعن على الأحكام القضائية.
ويجري التنسيق مع الجانب التركي في العملية القضائية، عن طريق دائرة التفتيش القضائي في المناطق “المحررة” من جهة إدارة العملية القضائية، “دون أي تدخل في عمل القاضي أو الهيئة القضائية في الأحكام التي تصدرها”.
وتسعى “الحكومة المؤقتة” حاليًا لتشكيل مجلس قضائي، لاستكمال عمل المؤسسة القضائية بـ”الشكل الأمثل”، حسب تعبير الوزير عبد السلام.
وتجتمع وزارة العدل مع ممثلي نقابات المحامين في تركيا، وبشكل خاص ممثلي الولايات الجنوبية، إذ التقى وزير العدل، عبد الله عبد السلام، وأعضاء من “نقابة المحامين الأحرار” مع ممثل نقابة محامي مدينة كلس الحدودية مع سوريا، في كانون الأول 2020.
وناقش الطرفان “وضع المحاكم، ودور وزارة العدل والمحامين في الشمال المحرر، والصعوبات التي تواجه العمل القضائي وعمل المحامين الأحرار”، حسب الموقع الرسمي للحكومة.
ووُزعت مناطق سيطرة “المؤقتة” إلى ثلاث مناطق قضائية، هي اعزاز شمالي حلب بالقرب من الحدود السورية- التركية، وعفرين، وتل أبيض.
وفي كل منطقة قضائية توجد محكمة استئناف، ومحاكم فرعية، في المراكز والتجمعات السكانية حسب الكثافة البشرية، وبلغ عدد القضاة 73 قاضيًا.
وأحدثت “الحكومة السورية المؤقتة” معهدًا عاليًا لتأهيل القضاة اللازمين للعمل وفق خطة علمية، إلا أن وزارة العدل بانتظار الجهة الداعمة لهذا المشروع ووضعه في الاستثمار.
من يضبط انتهاكات العسكر؟
قضاء عسكري في ريف حلب
يبقى الملف الأكثر تعقيدًا في ريف حلب الانتهاكات التي ينفذها العسكر المنضوون في فصائل اندمجت تحت راية “الجيش الوطني”، ما يستدعي تطورًا في أداء القضاء العسكري وصلاحياته.
ويعد القضاء العسكري إدارة تغطي مناطق تل أبيض ورأس العين (منطقة عمليات نبع السلام) وريف حلب الشمالي الشرقي (عملية درع الفرات) وعفرين (عملية غصن الزيتون)، ولديه مجمعان قضائيان، وهو قضاء جزائي ينظر في الحق العام.
ويطبق القضاء العسكري في ريف حلب القوانين الجزائية السورية (قانون العقوبات العام الصادر عام 1949، وقانون العقوبات العسكري الصادر عام 1950، وقانون أصول المحاكمات الجزائية وغيرها من القوانين الجزائية السورية)، حسبما تحدث به مدير إدارة القضاء العسكري، العميد عرفات حمود، لعنب بلدي.
ويشترك القضاء العسكري مع القضاء الجزائي (العادي) في مناطق سيطرة “المؤقتة” بمحكمة نقض، ولديه مستشار عضو في الغرفة الجزائية العسكرية بمحكمة النقض.
محكمة النقض هي محكمة مهمتها مراقبة بقية المحاكم في الأخطاء التي قد تقع بها وتصحيح تلك الأخطاء. |
وتنفذ الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري من خلال النيابة العامة العسكرية، سواء في اعزاز أو رأس العين، وكذلك من خلال قضاة الفرد في بقية المناطق، وفق الآليات القانونية، بعد اكتساب القرار الدرجة القطعية، ويكون التنفيذ عن طريق الشرطة العسكرية التابعة لـ”الجيش الوطني”، التي لها ثمانية فروع في ريف حلب، حسب العميد عرفات حمود.
وأشار حمود إلى أن “الجيش الوطني” “يعتبر الداعم الأساسي” لعمل القضاء العسكري، وأن هناك “تجاوبًا كبيرًا” من قبل قيادة “الجيش” مع القضاء العسكري، على حد تعبير العميد، إذ أسهم بفيالقه الثلاثة (الأول، والثاني، والثالث) في عدة أماكن بقمع التجاوزات، وضبط الخلايا “الإرهابية” وتقديمها إلى الشرطة العسكرية.
ما النظام القضائي الذي ينظم عمل القضاة؟
النظام القضائي المعمول به في مناطق “المؤقتة” هو النظام القضائي السوري الذي ينظمه قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم “رقم 98” عام 1961، حسب حديث النائب العام في محكمة اعزاز، ياسر الباشا، لعنب بلدي.
ويضمن القانون بموجبه حقوق القضاة في الحصانة القضائية من العزل والنقل، والعطلة القضائية، وتمتعهم بالاستقلالية المهنية في معرض ممارسة العمل القضائي.
وبحسب النائب العام ياسر الباشا، “يكاد يكون استقلال القضاة بنسبة 100%، خاصة أن العسكريين أصبحوا يحاكَمون أمام القضاء العسكري”.
ويطبق القضاء قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري، الذي ينظم آلية ملاحقة المجرمين والقبض عليهم وتوقيفهم بموجب المذكرات القضائية القانونية، ومحاكمتهم أمام المحاكم الجزائية بموجب جلسات علنيه تحفظ للمتهم فيها حقوق الدفاع بشكل كامل.
وبعد إصدار الحكم بالبراءة يطلق سراح المتهم ويخلى سبيله، وفي حال التجريم والإدانة وصدور عقوبه الحبس المناسبة للجريمة، يصار إلى إحاله الأوراق إلى جهاز النيابة العامة مجددًا، لتنفيذ العقوبه بحق المحكوم.
25 محكمة ودائرة قضائية تحت سيطرة “الإنقاذ”
مع إعلان تأسيس حكومة “الإنقاذ” في 2017، انبثقت عنها وزارتا الداخلية والعدل، اللتان تضمان عشرات المخافر والمحاكم التي تبت في القضايا المعروضة عبر سلسلة من الإجراءات والتدابير.
ويقود المؤسسات القضائية من محاكم وإدارات ومخافر “نخب المجتمع وأكاديميوه من الشعب السوري”، حسب حديث مسؤول التواصل في “هيئة تحرير الشام”، تقي الدين عمر، إلى عنب بلدي.
ويمر “كل الموقوفين قضائيًا في منطقة إدلب، بسبب ادعاء شخصي في قضية جنائية أو جنحية، أو فيما يهدد الأمن العام كخلايا النظام أو خلايا تنظيم (الدولة الإسلامية)، بإجراءات القضاء المعروفة من البحث والتحري وتقديم الاعترافات وجمع الأدلة والشهود وغيرها”، حسب تقي الدين.
وتمتلك وزارة العدل في حكومة “الإنقاذ” صلاحية كاملة، بحسب مدير مكتب العلاقات العامة في “تحرير الشام”، في إدارة القضايا المعروضة عليها عبر القضاة وأُطر المحاكم التابعة لها.
وبلغ عدد المحاكم والدوائر القضائية في مناطق سيطرة “الإنقاذ” 25 محكمة ودائرة، بمختلف الاختصاصات القضائية من محاكم عسكرية ومدنية وجنائية وإدارية، و”أُتيح التقاضي على درجات من استئناف وتمييز”، بحسب حديث وزير العدل السابق في الحكومة، إبراهيم شاشو، (تعرض لمحاولة اغتيال في 4 من كانون الثاني الماضي).
وأضاف شاشو، خلال حفل تخريج الدفعة الأولى من معهد إعداد القضاة في تشرين الأول 2019، أن أجهزة التفتيش القضائي أُنشئت للاستماع إلى المظالم.
تطوير القضاء.. بانتظار الحل الشامل
تسود مناطق سيطرة المعارضة حالة من عدم الاستقرار، نتيجة التهديد المستمر باحتمال شن النظام السوري عملية عسكرية على هذه المناطق، وهو ما أدى إلى زيادة نفوذ الفصائل العسكرية وتحكمها في بعض الأحيان بجميع مفاصل العمل الإداري إضافة إلى الأمني والعسكري.
وتتلخص صعوبات العمل القضائي في مناطق المعارضة، بوجود نسبة من الفوضى وتراكمات من الممارسة الخاطئة، تعود إلى ما قبل تشكيل القضاء سواء العسكري أو العادي، واعتياد المواطنين على آليات لحل المشاكل والخلافات في غالب الأحيان لا تنسجم مع القانون، أو مع عمل المؤسسات المنظمة، حسب مدير إدارة القضاء العسكري في ريف حلب، العميد عرفات حمود.
وعانى مشروع إنشاء نظام قضائي في مناطق المعارضة بداية من مشكلة في نقص عدد القضاة المنشقين، وجرى الاعتماد على المحامين من ذوي الخبرة، الذين مارسوا العمل القضائي منذ “انطلاق الثورة”، حسب وزير العدل في “الحكومة المؤقتة”، عبد الله عبد السلام، مشيرًا إلى حاجة مناطق المعارضة إلى تطوير مهارات المحامين وتأهيلهم للعمل القضائي بشكل أفضل.
ومن الصعوبات التي ذكرها الوزير عبد السلام، توفير الحماية للقضاة، ووجود شكوى حول الرواتب التي يتقاضونها، مبررًا ذلك بندرة الموارد وخاصة لدى “الحكومة المؤقتة”.
وأشار المحامي محمود الفاضل، الذي يرافع في إدلب، إلى عدم وجود “قانون إجراءات” يفصل بين القاضي والمحامي في مناطق حكومة “الإنقاذ”، معتبرًا أن أغلب القضاة غير مهنيين سواء في المحاكم المدنية أو العسكرية، لكن الأداء يتحسن نتيجة التجارب القضائية خلال السنوات الماضية، وانخراط المحامين فيها.
ويرى القاضي والباحث في القانون عبد الرزاق الحسين أن المحاكم في مناطق المعارضة تحاول تطوير عملها، ضمن ظروف لا تساعد على ذلك من حيث عدم وجود مرجعية دستورية، وكذلك اختلاف النظر إلى القوانين الواجبة التطبيق، وضبابية المرجعية الإدارية والسياسية، وعدم وجود مجلس قضاء جامع لها.
إضافة إلى طغيان دور الفصائل، التي “لا مرجعية مركزية لها أيضًا من الناحية الواقعية، وهذا ما يؤدّي إلى إضعاف دور المحاكم الضعيف أصلًا، وبالتالي صعوبة تحقيق الغاية الأساسية لها وهي تحقيق العدل بين الناس”.
والمحاكم في مناطق المعارضة “بطبيعتها مؤقتة”، حسب القاضي عبد الرزاق الحسين، لأن وجودها مرتبط باستمرار الوضع العام في البلاد وعدم وجود حل نهائي لسوريا.
ورجح القاضي عبد الرزاق الحسين استمرار القطاع في أسلوبه ونهج عمله دون تطور كبير، لكن عندما يحصل حل نهائي للمسألة السّورية عبر تغيير سياسي شامل يعيد توحيد البلاد، فإن وجودها يصبح “منتفيًا”، ويمكن الحديث حينها عن مؤسسة قضائية سورية تبعًا لوحدة الدولة والشعب السوري.
ومن الصعوبات التي تواجه المحامين، واقع التهجير وفقدان الوثائق للمتقاضين، خاصة تثبيت معاملات الزواج والنسب، وفقدان السجلات العقارية في بعض المناطق، كعفرين والباب، ما يؤثر على سير التقاضي وخاصة الحجوزات والبيوع الإجبارية.
إضافة إلى التباعد بين المحاكم في درجات التقاضي عن بعضها، بين محاكم البداية والاستئناف والنقض، ما يرهق أصحاب الحقوق والمحامين معًا ويطيل الإجراءات، وصعوبة تأمين مقرات تليق بمكاتب النقابة ضمن العدليات في المناطق، حسب رئيس فرع حلب في “نقابة المحامين الأحرار”، حسن الموسى.
جهود محلية للتطوير
أحدثت الحكومتان، “المؤقتة” و”الإنقاذ”، كل على حدة معاهد لتطوير العمل القضائي.
ولا تزال وزارة العدل في الحكومة “المؤقتة” تنتظر الجهة الداعمة لـ”المعهد العالي لتأهيل القضاة”.
وتعلن، على فترات، مسابقات انتقاء قضاة، لرفد المؤسسة القضائية العسكرية بخبرات وكفاءات جديدة لتغطية العمل الذي يزداد بشكل مستمر مع التوسع الأفقي.
وتُعقد اجتماعات ولقاءات وحوارات مع القضاة بشكل دوري، حسب العميد عرفات حمود، لتوجيههم والوقوف على الأخطاء والملاحظات التي تحصل في العمل وإيجاد الآليات لتلافيها، إضافة إلى توجيه وتدريب الكتاب والمنفذين باستمرار.
وتوجد عدة معايير يجب أن تتوفر في القاضي ليُعتمد في مناطق “المؤقتة”، وهي أن يكون مجازًا في الحقوق، ولديه خبرة سابقة في العمل القضائي كمحامٍ، ويجتاز المقابلة بنجاح، إضافة إلى كونه من بيئة “ثورية أو على الأقل مؤيد للثورة”، حسب العميد عرفات حمود.
بينما يرى النائب العام في محكمة اعزاز، ياسر الباشا، أن التطوير القضائي نسبي، نظرًا إلى انهيار البنية التحتية الناجمة عن قصف النظام البنى التحتية.
في إدلب، خرّجت حكومة “الإنقاذ”، في تشرين الأول 2019، الدفعة الأولى من المعهد القضائي التي بلغت 25 قاضيًا، ويشترط أن يكون المتقدم حاصلًا على إجازة في القانون أو الشريعة.
ويتدرب المنتسبون للمعهد على مدى سنتين (سنة نظري وسنة عملي)، ويتابع الخريجون من قبل مجلس القضاء التابع لـ”الإنقاذ”، لتقييم عملهم والوقوف عليه، حسب وكالة “أنباء الشام” (التابعة للحكومة).
محامون وقضاة تحت النار
تعد مسألة توفير الأمن للقضاة، خاصة المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة، إحدى الآليات التي تنقلهم من الصعوبات التي تهدد حياة القضاة.
العميد عرفات حمود قال إن جميع دوائر القضاء العسكري لديها مفارز من الشرطة العسكرية، لضبط الأمن وتنظيم دخول المراجعين، وتأمين الحماية للقضاة.
وسجلت مناطق المعارضة عدة عمليات ومحاولات اغتيال طالت قضاة ومحامين، آخرها محاولة اغتيال وزير العدل السابق في “الإنقاذ”، إبراهيم شاشو، بإطلاق نار، في 4 من كانون الثاني الماضي، إلا أنه نجا منها.
ونعت حكومة “الإنقاذ”، في نيسان 2020، القاضي علي عز الدين رضوان الذي قُتل بانفجار عبوة ناسفة.
كما اغتال مجهولون نقيب المحامين في مدينة الباب، سعيد أنور الراغب، في 22 من آذار 2020، بتفجير عبوة ناسفة مزروعة بسيارته.
وتوفي، في 19 من تشرين الأول 2020، القاضي في المحكمة العسكرية بمدينة اعزاز ملحم ملحم متأثرًا بجروح أُصيب بها نتيجة انفجار عبوة ناسفة بسيارته.