يعتبر كتاب “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان” واحدًا من أبرز كتب أدب الرسائل في الوطن العربي، ليس لأن المراسلات جرت بين كاتب وكاتبة، عاشق وربما عاشقة، بل لأنها كُتبت بيد وقلب غسان كنفاني بالذات.
يتألف الكتاب من 12 رسالة كتبها غسان ليعبر من خلالها عن عواطفه تجاه الكاتبة السورية غادة السمان، في ستينيات القرن الماضي، كما يشمل نحو مئتي نقد أدبي لهذه الرسائل، التي بررت غادة نشرها بإبقاء غسان حاضرًا في الذاكرة العربية، وهو لم يُنسَ أصلًا.
ويلعب دور البطولة في هذه الرسائل الحدث والمشهد واللغة، وليس الأشخاص، ففي الرسائل سرد بصري لتوقيت كتابتها وظروف إنشائها، وتوصيف لكواليس المشاعر التي يحملها الإنسان دون إبداء أهمية للسلك الوظيفي الذي يعمل به، فمع الحب تسقط الاعتبارات المادية والاجتماعية.
وتسير الرسائل، التي كشفت عنها غادة ونشرتها في تسعينيات القرن الماضي، على أرضية ثابتة من اللغة الصادمة، والقادرة على الوصول والتأثير، فاللغة عند غسان عمومًا، وفي هذه الرسائل بالذات لغة صريحة وجارحة كحد السكين، ولكنها تجرح كاتبها وقارئها، وليس الطرف الآخر.
عمل غسان في بداية شبابه مدرّسًا للغة العربية في دمشق، ثم التحق بالعمل الصحفي والسياسي قبل أن يتم دراسته الجامعية، واستطاع بثقافته الواسعة، وحكمته العميقة النابعة من الألم والمرض، تكوين هوية لغوية خاصة تصبغ كتاباته ونصوصه بأدق تفاصيلها.
عبّرت أعمال غسان الأدبية، وما بقي من مقابلاته مع الصحافة (بحكم عمله مع منظمة التحرير الفلسطينية) عن شخصية عنيدة وصلبة، ولكن من الخارج فقط، وعبّر هو نفسه عن ذلك على لسان أخته فائزة في الرسالة الأخيرة، إذ قالت له ذات مرّة، “إن شراستك كلها إنما هي لإخفاء قلب هش”.
الشاب الفلسطيني الذي فتح عينيه على اللجوء والأسفار التي لا تنتهي من بيروت إلى سوريا والقاهرة والخرطوم، لم توفر له العاطفة ما سلبه اللجوء، إذ تعكس الرسائل جوًّا متوترًا وحالة من الهذيان العاطفي صاغت الرسائل بتلقائية دون تدخل أو رقابة من كاتبها نفسه، فهناك بوح كثير، وغضب واضح، ولكن صدق العاطفة كان أكثر من الحبر في الكتاب.
ومما يجعل هذه الرسائل ناقصة بعض الشيء، غياب الردود عليها، فغادة نشرت رسائل غسان فقط، دون ردودها عليها، بزعم احتراق ما لديها من رسائل، جراء حريق نشب في منزلها، ما يُخرج هذه الرسائل من حالة الحوار إلى الحديث من طرف واحد، وهو ما سيترك القارئ أمام متعة فكرية ووجدانية ناقصة بعض الشيء، ولكن بعض ما ذكرته الرسائل أفصح عن شيء من الردود الغائبة.
ورغم الزواج من سيدة دنماركية، وإنجاب الأطفال، والعمل السياسي والصحفي والرسم، وجد غسان وقتًا للحب، فكل الأقات مناسبة للحب، وإن كان حب غسان مخلوطًا بالحاجة إلى فهمه، والحاجة إلى الاستقرار والرعاية، فالكاتب المتماسك والممسك بناصية لغته، تتعكز صحته على إبر “الأنسولين” لإصابته بالسكري، وهناك نقرس في الرقبة، وكل الأشياء تأتيك مجتمعة بقسوة لا يلينها مثل الحب والبوح بهذا الحب.
ترك غسان للقارئ العربي أعمالًا عصية على النسيان، لأنها تقوم على الفكرة والفكرة لا تموت برأيه، ومن هذه الأعمال، رواية “الشيء الآخر” التي حملت اسمًا آخر هو “من قتل ليلى الحايك”، بالإضافة إلى رواية “عالم ليس لنا” و”رجال تحت الشمس”، وغيرها من الأعمال الخالدة.
وُلد غسان عام 1936، واستشهد في عام 1972، إثر تفجير جهاز “الموساد” الإسرائيلي سيارته في شارع الحازمية بالعاصمة اللبنانية بيروت، وعلّقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك على حادثة الاغتيال بالقول، “اليوم تخلصنا من لواء مسلح، فغسان بقلمه يشكل خطرًا على إسرائيل أكثر مما يشكله لواء مسلح”.
رحل وترك خلفه ثلاث روايات اعترض الموت طريق إكمالها، وهي “الأعمى والأطرش”، و”العاشق”، و”برقوق نيسان”، لكن ما نُشر من هذه الأعمال كان يعد بإضافة مؤثرة للفكر والروح.