“جرن حمام” وقصص سينمائية قصيرة

  • 2021/02/07
  • 9:10 ص

نبيل محمد

تلك النصوص الشعرية القصيرة، والخواطر التي علَّ آلافًا من أولئك الذين لم يحترفوا الشعر أو الكتابة الأدبية كتبوها، ثم استسلموا لنسيانها، أو دوّنوها في دفاتر قديمة تعود إلى ذاكرتهم كلما نفضوا عنها الغبار في متحف أشيائهم القديمة المنفي في أحد أدراج خزانة قديمة في المنزل، هي نصوص يمكن أن تحيا بكاميرا، تجد في الصورة البسيطة ما قد يعبّر عنها، ويحملها بخفة إلى أعين وآذان متابعين، محافظًا على ارتباك هوية المادة النهائية، ما بين شعر وسينما.

وهو ما يمكن تلقّفه في مشروع بسيط قامت به تغريد دواس الفلسطينية- السورية، لتختصر بجهود ذاتية كل ما يمكن اختصاره من تكاليف صناعة الفيديو، إذ لا تتكئ على منتِج يمكن أن يحوّل مشروعها إلى مواد ذات نوعية أعلى وانتشار أكبر، بل تحاول بما تيسّر صون فكرتها من النسيان، وإظهارها بصورة بسيطة متواضعة لا تدّعي أنها أكبر مما هي عليه.

من ذاكرة الطفولة تخرج ضمن هذا المشروع أربعة أفلام قصيرة جدًا لا تتجاوز مدة كل منها ثلاث دقائق، وهي “كيس أسود” و”جرن حمام” و”فساتين” و”صبار”، بهذه العناوين التي يبدو أنها تنتمي لحكايات وصور في أذهان شبان أو شابات، سكنوا حيًّا شعبيًا عربيًا، فكانت تلك التفاصيل التي حفظوها في أذهانهم، تأخذ رمزيات أكبر كلما تقدموا في العمر، وازداد اشتياقهم لها بكل قساوة مدلولاتها أحيانًا.

صوت خشخشة الكيس الأسود، ينبش من الذاكرة تلك الأكياس السوداء التي طالما رفض الأطفال حملها، وطالما حملت يوميات الطفولة، من البسكويت والمصاص، إلى أول علب السجائر التي اشتريناها خلسة عن أهلينا، من هذا الكيس يقرأ الفيلم الذي يحمل اسمه، الطبقة التي كانت تحمله دائمًا، بما يحتويه من مفرداتها الفقيرة، هذا الكيس يحرّض على مزيد من الاشتياق لكل ما تضمّنه، ولشكله، بمعزل عن بيئة الفقر التي كونته، والتي فرضت عليه أن يضم في داخله ما تتحمّله جيوب حامليه.

في “فساتين” لا تحضر الذاكرة إلا في فرحة ارتداء فستان ملوّن أول مرّة، لكن من هذه الفساتين تخرج المحظورات على الفتيات، من الفساتين التي قد تظهر من أجسادهن ما لا يجب إظهاره، “هكذا تقول الجارات للأم ليحذّرنها من فساتين ابنتها”، إلى الدراجات الهوائية التي “لم تُخلَق للفتيات”. تلك الأشياء الجميلة لم تكن تبادر بالحبِّ للفتيات في هذه البيئة التقليدية على الرغم من أنهنّ يعشقنها، لكن في بيئة أخرى يمكن لكل الأشياء ببساطة أن تكون مكونات طبيعية في حيات الفتيات. تلك الرسالة الأنثوية لا تنمّط الفيلم ضمن حملة للدفاع عن حقوق المرأة في المجتمعات الدينية، ففي فيلم آخر وهو “صبّار” يحضر الطفل الذكر، الذي تتزايد الهموم ومحددات نمط شخصيته الذكورية الشرقية، كأشواك تحاصر جلده، وتخفي شيئًا فشيئًا من شخصيته البريئة الدفينة، التي تحتاج إلى أن تنزع الأشواك وتنعتق.

في “جرن حمام” تبدو الذاكرة في أبعد تجلياتها، تقارن بين حمّام الأمس، وحمّام اليوم، بين ذلك الماء المليء بتراب الحارة وغبارها الذي تغسله مياه قادمة من جرن حجري قديم، وبين ذلك الماء القادم من “الدوش” الذي قد لا يسعه بمائه النظيف أن ينزع وجهًا نلبسه لا ينتمي إلى حقيقتنا. هذه النمطية المفرطة، والمقارنة التي يمكن أن تحضر بأي تفصيل آخر من البيت، ما يهوّن نمطيتها هذه هو بساطة لغتها وشعريتها الطفولية، وعدم تحميلها في قالب مصنّع ومكلف، إنما بسياق صورة لا تريد سوى أن تقول، “هناك كلمات من الجيد أن تسمعها مستعينًا بصورة”، كلمات قد لا تعيبها أيضًا أخطاؤها اللغوية.

المشروع الذي يحمل اسم “taghwitter” وفق القائمة عليه، اعتمد من “يوتيوب” منصة لانتشاره، منصة من المعروف مدى صعوبة الانتشار عبرها، خاصة لمشاريع كهذه لا تحمل في صورتها وطياتها جاذبًا استهلاكيًا، لكنه ينطلق من قيم أساسية في هذه المنصة، وهي إمكانية إتاحة الفرصة للإنتاج المستقل تمامًا، والمشاريع التي لا أحد يدعمها.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي