حوار: أسامة آغي
مخيلة المبدع هي ابنة شرعية لواقع تتداخل فيه أمور كثيرة، ومخيلة الأديب والشاعر السوري جان دوست المنحدر من بلدة عين العرب (كوباني)، والمقيم في ألمانيا ويحمل جنسيتها، لا تخرج عن هذا المنحى، بل يمكن تتبع الخلطة السحرية لثقافات متعددة في نتاجه الأدبي، الذي يُنتج حنينًا للضفّة الأولى، ضفّة وطن لا يزال بين براثن الوحش كما يقول دوست.
هويتي الثقافية مركّبة
ولد جان دوست في مدينة عين العرب (كوباني)، في عام 1966، وينتمي إلى القومية الكردية في سوريا.
وجود دوست بين قوميتين سوريتين (العربية والكردية) أسهم بشكل مباشر في أعماله الأدبية، ويرى في حديثه مع عنب بلدي أنه ولحسن حظه، ولد في بيئة اختلطت فيها الثقافات وتعددت الألسن.
وقال دوست لعنب بلدي، “وفتحت عينيّ على كتب التراث العربية، ودواوين الشعر الكردية، وعلى الرغم من تقارب الثقافتين، وتشابههما في كثير من الأوجه، استطعت أن أُدرك الشخصية المستقلة لكلّ ثقافة”.
يفتخر جان دوست بانتمائه للكرد ويعتزّ بأنه سوري، “الواقع هو الأصل، ولا أعني بالواقع الأزمنة التي يمكن أن يعيشها كاتب ما في بقعة ما من هذه الأرض، بل إن الواقع هنا يشمل كل جوانب البيئة، التي يعيشها الكاتب، تاريخًا ولغة وحضارة”.
وبالتالي، اكتشف دوست أن هويته الثقافية مركّبة، غير نقية بالمعنى العنصري، ويرى أن هذا الأمر يتجلى في كثير من رواياته، سواء التي كتبها باللغة العربية (المكتسبة)، أو لغته الأم الكردية (الموروثة)، واعتبر نفسه “محظوظًا جدًّا”، بأن الثقافة العربية بكلّ رحابتها، تشكّل جزءًا مهمًا من هويته الثقافية، “الثقافة العربية هي روحي الثانية بعد الكردية”، بحسب تعبيره.
ولا يرى دوست أن هناك تعارضًا بين الانتماءين، فالهويات المركبة أقوى وأقدر على مواكبة روح العصر، الذي يشهد انفتاحات متعددة الجوانب، وفي كل المجالات، بحسب رأيه.
ورغم ذلك، يرى دوست أن هناك “نفورًا كرديًا” من الانتماء إلى الوطن السوري، وهو نفور مبرر نفسيًا وسياسيًا، “الوطن السوري يعيش منذ 57 سنة ديكتاتورية الحزب الواحد، ثم ديكتاتورية مقيتة، قوامها رجل، اختزل الوطن في ذاته”.
وأوضح دوست فكرته بأن سوريا صار اسمها “سوريا الأسد”، وبالتالي يعتقد أن “ضعف الشعور الوطني لم يأتِ من فراغ”.
ويبقى دوست سوريًا وهذه حقيقة، بحسب وجهة نظره، لا يمكن إنكارها، “أنا شخصيًا ولدت وعشت كل عمري حتى هجّرني النظام في ظلّ تلك الديكتاتورية، التي جعلت الوطن حظيرة، أو مزرعة يملكها الحاكم”.
وبالتالي، يعتقد أن “من الطبيعي أن يشعر المواطن باغتراب روحي، ومسافة هائلة تفصله عن الوطن”.
ومع انطلاق الثورة السورية، تعزز الانتماء إلى سوريا لدى دوست، مع محاولتها إزاحة كابوس الديكتاتورية عبر مظاهرات سلمية جميلة لم يكتب لها النجاح، وفق تعبيره.
وأضاف دوست، “أنا أنتمي إلى سوريا كوطن، وأن أكون كرديًا سوريًا كأن أكون كرديًا ألمانيًا، المهم عندي هو استعادة الوطن من بين براثن الوحش الاستبدادي، ليليق بنا ونليق به”.
ويطرح دوست سؤالَا على نفسه فيقول: “لماذا لا نوسع الدائرة ونعمل على الهوية الإنسانية؟ لماذا نحتفظ بقواقعنا التي لم يكن لنا يد في اختيارها؟ معتبرًا أن الهويات القاتلة هي تلك التي جاءتنا بالمصادفة، وأن الهويات سلاح ذو حدين، فهي قد تصبح آلات للقتل والكراهية والحروب، وقد تصبح لبنات أساسية في بناء حضارة راسخة، مشيرًا إلى عمله على التسامح وتقبّل الآخر، “في رواياتي هذا الموضوع يهمني، لأنني عانيت من مشكلة اختلاف الهويات”.
وسبق لدوست أن أصدر 12 رواية، كانت آخرها التي حملت عنوان “سيرة خبات”، الصادرة عن دار “الفكر” في العاصمة السورية دمشق عام 2020.
الحرب أعادتني إلى الشعر
لا يخفي جان دوست أن النثر أقرب إليه من الشعر، “بدأت بكتابة الشعر، وحاولت استثمار موهبتي الأدبية في حقل الشعر”، خاصة مع افتتانه بالشعر الكلاسيكي الرصين ذي الموسيقى.
وأضاف دوست، “كتبت قصائد عديدة نشرتها في ديوان صغير، باسم (ديوان جان)، وكتبت ملحمة شعرية، ثم مجموعة شعرية باللغة الكردية، مستفيدًا من تجربة شعر التفعيلة في الشعر العربي، لكنني شعرت بأنني لست شاعرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، فتركت الشعر”.
لكن دوست حين غادر نسبيًا الشعر، وذهب إلى النثر الروائي، لم يغادر جملته الشعرية، وبالتالي فإن انتقاله إلى عالم الرواية لم يبعده عن الشعر ومناخاته، بل نقل أدواته الشعرية معه واستعملها في سرده الروائي، الذي تطغى عليه اللغة الشعرية.
وبعد انتقاله بين عالمين مختلفين، اكتشف دوست أن الشعر “صاحب وفيّ يعود إليك حتى لو هجرته”، ليعود إلى كتابة الشعر مجددًا مع دمار مدينته إثر المعارك بين تنظيم “الدولة الإسلامية” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والتحالف الدولي ، التي أفضت إلى سيطرة “قسد” على المدينة في عام 2015.
وقال دوست لعنب بلدي، إنه عاد مجددًا لكتابة الشعر تحت تأثير ما حل بعين العرب (كوباني) من دمار، لينشر مجموعة شعرية حملت اسم “قصائد نسيتها الحرب في جيب شاعر”.
ويبدو أن دوست الذي عاد إلى الشعر بسبب الحرب، لم يجد إجابة للعودة، متسائلًا: “هل ما جرى معي من كتابة الشعر هو (عودة الشيخ إلى صباه)، أم أن الأمر فلتة لن تتكرر؟”. وبيّن أن العلاقة بين الأدب والوعي هي علاقة تبادلية، “فالأدب بشكل عام من نتاج الوعي، ومن الأدب يتشكل وعي جديد، خصوصًا الوعي الجمالي والإحساس الفيّاض بالبيئة المحيطة بالإنسان”.
وبرأي دوست فإن “الأدب والوعي متلازمان، يُنتج أحدهما الآخر في حركة دائرية، كحركة الكون ليست لها نهاية”.
التخيل التاريخي
وحول عوالم الرواية في أدبه، يقول جان دوست، “بدأت بكتابة الرواية التاريخية، أو ما يسمى برواية التخيل التاريخي”، مبينًا أنه مولع بالتاريخ بشكل عام، والتاريخ الكردي بشكل خاص.
ويعتبر مصطلح “التخيل التاريخي” بديلًا لمصطلح “الرواية التاريخية”، وهو الذي يطلق بدوره على الروايات الأدبية التي تتخذ من التاريخ مادة أو موضوعًا لها.
وكان للثورة السورية دور في نزوع دوست نحو الرواية التاريخية، إذ دفعته للالتفات إلى الواقع السوري، وبالتالي صدرت له أربع روايات تتعلق بالحرب في سوريا بشكل مباشر، منها روايتا “دم على المئذنة” و”كوباني”، مستفيدًا من التحولات العميقة التي مرّت بها الثورة منذ انطلاقتها كمظاهرات سلمية في 2011، وصولًا إلى “الحرب الشاملة” والتدخلات الإقليمية فيها.
كما أشار دوست إلى وجود بعض من سيرته الذاتية في الروايتين.
وأضاف، “حلب المدينة التي عشت فيها الفترة الجامعية، خصصت لها حيّزًا كبيرًا في روايتي التاريخية (مارتين السعيد)، وفيها تحدثت عن حلب المدينة الشرقية العثمانية، في أوائل القرن الـ18”.
واعتبر دوست أن حلب “تعيش في روح الكاتب وضميره، لذا تحدث عن أحيائها ومساجدها وكنائسها وخاناتها وعلمائها وحركة الأوروبيين التجارية فيها”.
–