عودة إلى الوباء

  • 2021/01/31
  • 8:52 ص

إبراهيم العلوش

عاد العالم إلى قراءة رواية “الطاعون” لألبير كامو، وأعاد قراءتها مع بدء انتشار فيروس “كورونا” ومستجداته. ومع انتشار جرائم الأسد وفتكها بالشعب السوري، لماذا لا نعيد نحن السوريين قراءة إحدى الروايات السورية التي أرّخت لهذا التوحش، وهي رواية “الوباء” لهاني الراهب (1939-2000) الذي تحل ذكرى وفاته الـ20 في 6 من شهر شباط.

صدرت رواية الوباء قبل 40 عامًا (1981)، وكانت من الروايات السورية المهمّة، وأحدثت نقاشات واسعة في الأوساط الأدبية السورية في مطلع الثمانينيات عندما تفاقم وباء المخابرات، فهي تتحدث عن سيرة تاريخية لعائلة الخياط الساحلية، وتحولات أجيالها منذ مطلع القرن الـ20 وبداية الحرب العالمية الأولى حتى بداية حروب الأسد ضد السوريين في الثمانينيات من ذلك القرن.

تبدأ رواية الوباء بعائلة عبد الجواد الخياط التي أعياها الجوع حتى تسبب برمي أحد أولادها تحت جسر، وهي في طريقها إلى المجهول لتحصيل لقمة العيش التي صارت صعبة إلى درجة الفاجعة، كما هي اليوم في ظل نظام الأسد الابن!

وترصد الرواية بدقة حالة الاستعباد التي يخضع لها الفلاحون على أيدي “الأغوات” والسادة، وتصور استبداد “الوقّافين” الذين ينتقيهم الإقطاعي من بين الفلاحين لمراقبتهم، وهم أشد ضراوة وقسوة في تعاملهم مع أبناء قراهم وأقربائهم، فـ”الوقّاف” يقوم بدور الجلاد بكل تجلياته وأفعاله من الضرب المباشر حتى الاغتصاب والاعتداء على الأعراض، فالمرأة التي تعجبه يجب أن تذهب إلى سريره ولو كانت متزوجة، والفتاة التي يراها حلوة يجب أن تقبل به زوجًا حتى ولو كانت من عمر أحفاده.

وفي الرواية، قام مسؤول في المخابرات بنفس دور “الوقّاف” وهو يطارد شداد ابن الشيخ عبد الجواد الخياط، عندما استحلى زهرة زوجته وأطلق النار على أبيها الذي كان يحاول إيقاف الاغتصاب الموشك على الحدوث أمامه.

تستعرض الرواية بتفاصيل واسعة حالة الوهم التي تختلط بالجهل وتهيمن على عقلية الفلاحين المستعبدين، وتصوّر تكالبهم على المزارات والتداوي بها وبأدعيتها، وتحويل اهتمامهم من العدو الحقيقي، ومن السبب الحقيقي لبؤسهم وهو “الآغا” وأزلامه، إلى أساطير الشيوخ وقدراتهم الوهمية، حتى يعلن إسماعيل السنديان قطع أشجار الغابة التي ورثها عن أجداده المقدسين، والتي تحلّ أرواحهم في ثنايا الغابة، ويوافق على بيع أخشاب أشجارها من أجل بناء مدرسة للأطفال، ونشر العلم بين أبناء قرية الشير موطن الرواية الأول.

يتعلم الأطفال ويكبرون ويعون هول الظلم الذي يحل بهم وبأهلهم، فيتمرد شبابهم على العبودية، وتتمرد نساؤهم على العادات، وتحاول مريم خضير أن تجد موطئ قدم لها في عالم الذكور الموبوء باستعراضات القوة والأوهام، فتطلق العنان لجسدها انتقامًا من حالة البؤس، لتصبح أول عاهرة في تاريخ الشير، فهي تنتقي عشاقها علنًا، وتخلّف الأولاد الذين يشبهونهم حتى إن أهل الشير يميزون الأولاد حسب ملامح عشاقها، وعلى النقيض منها، ظلت نساء الشير يخضعن لسطوة العلاقات الظالمة، فتحبل الفتاة من “الآغا” أو من عاشق يتنكر لها، فيكون مصيرها الموت أو الاختفاء من القرية، إلا إسماعيل السنديان الذي يقبل بأبوته لحمل الخادمة التي كان يمارس الجنس معها، ويلومه أهله بأنها مجرد خادمة يستطيع أن يزوّجها من أحد تابعيه، بينما هو يجب أن يتزوج ابنة “آغا” أو صاحبة نسب وعز.

يبقى الأب عبد الجواد أسيرًا لمعتقداته وخضوعه، رغم أنه يعمل من أجل إبعاد شبح الجوع عن عائلته، ولكن احتقار الأنثى والقسوة في معاملة أولاده كانت من معتقداته الثابتة طوال حياته المرّة التي تقلب بها.

يتطوع عبسي، ابنه، في الجيش، وينضم إلى “ثورة البعث”، ويتزوج فتاة ثرية من حمص، بينما يعتنق أخوه شداد الماركسية، وينضم إلى أحد أحزابها، ويضيع أخوهم كنعان الذي ينضم إلى الإنجليز في فلسطين، وخولة الأخت الوحيدة نالت مبادئ إذلال المرأة منذ طفولتها، إذ يضربها أبوها بقسوة لأنها تجرّأت أن تضرب أخيها رغم أنهم يؤدون لعبة أطفال ساذجة، ويضربها زوجها الشرطي المرتشي بلا رحمة، حتى نالت حريتها بامتهان الخياطة وتأمين دخل لها يحفظ كرامتها.

يتم اعتقال شداد عدة مرات، بينما عبسي، الضابط الكبير، لديه مرافقة وفيلا فخمة في اللاذقية، وسيارة “مرسيدس”، ويحاضر بحزمة من الخطابات البعثية التي تتحدث عن التحرير والثورة ومجابهة الاستعمار وأعداء الثورة بمن فيهم أخوه شداد، ويعمل في التجارة والسمسرة، وينمو هو وأمثاله كبذار للوباء الذي يحل في سوريا مع نمو أجهزة المخابرات وتفاقم سطوتها التي لم تسلم منها حتى زوجة أخيه شداد التي تتعرض لمحاولة الاغتصاب، ويتفاقم الأمر أكثر فيتم قتل شداد على يد عنصر مخابرات وهو يطارده لإلقاء القبض عليه قرب بيته.

تتمحور بنية النظام السوري التي تنبأت بها الرواية حول شخصية عبسي الخياط (ولاحقًا تصبح الكنية السنديان) الذي يبيع أخاه كنعان ويشهد على موته وهو حي، ويلوم أخاه شداد الذي لا ينصاع لقيم دولة “البعث” التي كان يبنيها حافظ الأسد دون تسميته في الرواية، فمن تلك الشخصية انبثقت شخصيات كثيرة تحمل الوباء في المجتمع السوري، اعتبارًا من المقدم فالح الذي يقوم بأعمال التحقيق والتعذيب، وانتهاء بفروع ومفارز المخابرات السورية في دمشق وفي غيرها من المدن التي تشير إليها الرواية، وترصد سطوتها الخارجة عن كل القوانين والقيم التي تدّعيها.

ويتنبأ شداد بأن هذه القسوة ستزرع العنف بين الناس، وستجعل الإرهاب هو الحل الوحيد في هذه البلاد. وقد تحققت نبوءة شداد المهمة، فنظام “البعث” الذي يمثله عبسي صعّد كل أساليب القسوة في التعذيب والاغتصاب والتهجير ونهب المال العام وانتهاك القوانين والقيم في المجتمع السوري، وأطلق العنان لإرهاب مضاد يشاركه في تدمير سوريا وفي تهجير شعبها اليوم.

فالوباء الذي يمثل عبسي بداية انتشاره فاق في توحشه وحشية “الوقّافين” الذين كانوا في قرية الشير، وفي آخر الرواية يتبين للقارئ، أن رجال النظام الذين يدّعون الثورة على الاستعمار والظلم، هم مجرد “وقّافين” من أبناء البلاد من أجل تعذيبها واغتصابها.

ولعل حافظ الأسد وشخصيته القاسية أبلغ تعبير عن “الوقّافين” الذين يمارسون كل أنواع القسوة خوفًا من أن يعودوا مجرد فلاحين جياع مثل أبناء بلدهم وأقاربهم، وستجد تلك المواصفات في شخصية الكثير من ضباط الأسد في الجيش والمخابرات، فعبادة القائد والاعتداء على الناس وتحقيرهم، هي من أهم ميزات “الوقّاف” الذي يتذلل لـ”الآغا” ويحتقر أهله وأقاربه ويغتصب بناتهم وينهب الأموال خوفًا من جوع ومن حرمان يعجز عن ردم منابعه العميقة في شخصيته وفي سلوكه!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي