تشابهت جميع الملامح، فالخراب طال كل شيء، واللون الأسود هو السائد، لا نوافذ أو أبواب متبقية، ولا حتى أي قطعة أثاث، والحفر العميقة ملأت الأرض والجدران ندوبًا تحكي قساوة المشهد، وما مر على منزل عائلتي (كاتبة المقال) من قصف واشتباكات عنيفة محت نيرانها معالمه وتضاريسه، ليصبح من الصعب تمييز غرفة عن أخرى، أو دهليز عن آخر، نيران طمست أيضًا ذكرياتنا وضحكاتنا التي لن تتكرر.
كان منزلنا في عين الخضراء، وهي إحدى قرى وادي بردى بريف دمشق، هو المكان الذي نهرب إليه من ضجيج المدينة، وصخب التزامات العمل والدراسة، لنهنأ بلحظات من الاسترخاء مع هدوء الطبيعة، فهناك لا شيء يكدّر صفاء الذهن أو يشوه مرأى الناظر، ولسطوة اللون الأخضر قدرة عجيبة على انتزاع ما في النفس من بوادر القلق والحزن، وإحلال التناغم بين العقل والروح والجسد.
لقد كان تسجيل مصوّر من خمس دقائق، حصلتُ عليه عن طريق أحد الأشخاص الذين تمكنوا من زيارة المنطقة مؤخرًا، كفيلًا بتصوير فداحة ما جرى خلال سنوات غيابنا، فالدمار طال المنازل والأحياء والمعالم العمرانية والسياحية، وكل ما فيها صار أثرًا بعد عين.
وادي بردى، أو براديوس (الفردوس باللغة الرومانية)، وفقًا لما وثّق المؤرخ الدمشقي ابن عساكر، هو المسمّى الجغرافي والإداري للمنطقة الواقعة جنوب مدينة الزبداني، وشمال غرب دمشق، حيث ينبع “بردى”، الشريان الحيوي لأقدم عواصم العالم، و”نهر الذهب” كما وصفه الإغريق.
تمتد منطقة وادي بردى من المحور الجنوبي لمدينة الزبداني وبلدة مضايا، وصولًا إلى بلدتي الهامة وقدسيا على الأطراف الغربية للعاصمة دمشق، وتحتوي نحو 20 بلدة وقرية، تمتاز بطبيعتها الخلّابة ووفرة مياهها، باعتبارها تقع في وادٍ بين سلسلة الجبال القلمونية، ويسير في وادي بردى خط القطار التاريخي المسمى “قطار المصايف”. أبرز بلدات وقرى الوادي: هريرة، أفره، سوق وادي بردى، برهليا، كفر العواميد، الحسينية، كفير الزيت، دير قانون، دير مقرن، عين الفيجة، عين الخضراء، بسيمة، أشرفية الوادي، جديدة الوادي. عين الفيجة، هي أكثر مناطق وادي بردى شهرة، وتحتوي نبع “الفيجة”، المغذي الرئيس للعاصمة دمشق وضواحيها بالمياه الصالحة للشرب. |
عقب نحو أربعة أعوام من سيطرة النظام السوري على منطقة وادي بردى، أصدرت محافظة ريف دمشق قرارًا بالسماح للأهالي ومالكي العقارات في قرى بسيمة، وعين الخضراء، وعين الفيجة بزيارة منازلهم لمدة ساعتين فقط، ووفق شروط محددة.
وقال موقع “صوت العاصمة“، إن المحافظة أصدرت تعميمًا طالبت فيه الأهالي الراغبين بزيارة منازلهم، بمراجعة مكتب المتابعة الواقع بالقرب من حاجز “الرمال” على أطراف المنطقة، والتقدم بطلبات الزيارة.
وأشار إلى أن نحو 150 شخصًا ممن حصلوا على موافقات دخلوا قراهم، في 17 من كانون الأول 2020، كدفعة أولى على أن يتم إدخال البقية على دفعات.
وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُظهر حشدًا من أهالي المنطقة أمام أحد الحواجز العسكرية، يستمعون إلى كلمة يلقيها ضابط أمن “الحرس الجمهوري” العميد علي الجاموس، يعدهم فيها ببدء ورشات إعادة تأهيل البنى التحتية، وتخللت الكلمة هتافات لبشار الأسد قبل المباشرة بالدخول.
موافقة أمنية شرط للزيارة
الناشط من منطقة وادي بردى براء الشامي، أفاد بأن دخول أهالي قرى بسيمة وعين الخضراء وعين الفيجة لتفقّد منازلهم، بعد سنوات من الحرمان، كان مرهونًا بالحصول على موافقة أمنية حالت دون تمكن بعضهم من ذلك.
وأوضح في حديثه إلى عنب بلدي أن الموافقة جاءت بعد دراسة أمنية تلت تسجيل الأسماء على حاجز “الرمال” التابع لـ”الحرس الجمهوري”، وكل من لديه ابن معارض للنظام مُنع من الدخول.
وعن نسبة الدمار الحاصل في هذه المناطق، أشار براء إلى أن عين الفيجة هي الأكثر تضررًا، إذ تعرض نحو 80% منها لدمار كلي، كما تعرضت قريتا بسيمة وعين الخضراء لدمار كلي بنسبة تصل إلى 35%، أما المناطق التي طالها دمار جزئي فقد تم “تعفيش” وسرقة جميع ما فيها من ممتلكات منقولة على يد جهات تابعة للنظام.
أما بقية قرى وادي بردى التي لم تشهد معارك عنيفة، ولم يغادرها أغلبية سكانها، فتفتقد لأبسط مقومات الحياة، فهي فقيرة بالخدمات الأساسية كالكهرباء ومياه الشرب، ومراكزها الصحية خالية من المختصين والأدوية، كما تندر فيها فرص العمل بعد أن قضى النظام على الحياة الاقتصادية في المنطقة.
وعلاوة على ذلك، لم تتوقف الملاحقات الأمنية وحملات الاعتقال في المنطقة، إذ تقوم الحواجز العسكرية المتمركزة على أطرافها باعتقال الأهالي بشكل دوري، وتسيء معاملتهم، خاصة من لديهم أبناء معارضون، أو مهجرون إلى إدلب، وفقًا لبراء.
تمكنت قوات النظام من السيطرة على جميع مدن وبلدات منطقة وادي بردى بعد توقيع اتفاق “مصالحة” توصل إليه النظام ووجهاء المنطقة، في 19 من كانون الثاني 2017، يقضي بوقف إطلاق النار، وعودة الأهالي إلى قراهم، ودخول ورشات الإصلاح إلى نبع “عين الفيجة”، وخروج المقاتلين وعائلاتهم باتجاه الشمال السوري.
وفي 28 من كانون الثاني 2017، انسحبت فصائل المعارضة من نبع “عين الفيجة”، ليدخله نحو 20 عنصرًا من قوات “الحرس الجمهوري” برفقة متطوعي “الهلال الأحمر”، يرفعون علم النظام السوري على المنشأة، إيذانًا ببدء سريان الاتفاق.
وجاء ذلك عقب شن قوات النظام مدعومة بميليشيات “حزب الله” اللبناني و”درع القلمون”، هجومًا بريًا وجويًا واسعًا على المنطقة، أواخر كانون الأول 2016، ما تسبب بمقتل وجرح عشرات المدنيين، وإصابة منشأة نبع “عين الفيجة” بأضرار مادية جسيمة، في سعي للسيطرة على المنطقة، رغم قرار وقف إطلاق النار في سوريا، برعاية تركية- روسية، الموقّع في 29 من كانون الأول 2016.
وعقب انتهاء الحملة العسكرية، منعت حواجز النظام أهالي بسيمة وعين الفيجة من العودة إلى المنطقة، رغم الوعود السابقة في الاتفاق.
مخطط خفي
أحمد من أهالي المنطقة (تحفّظ على ذكر اسمه الكامل لأسباب أمنية)، تحدث لعنب بلدي عما طال أحياء عين الفيجة وبسيمة من تدمير، وعن إمكانية تنفيذ وعود النظام بإعادة الإعمار، وتعويض الأهالي المتضررة أملاكهم بمساكن بديلة.
وأشار إلى أنه ومنذ حملة تهجير الأهالي، التي بدأت في 25 من كانون الأول 2016 وانتهت في أواخر كانون الثاني 2017، يحظر الدخول إلى قرى بسيمة وعين الخضراء وعين الفيجة، وقد أعلنها النظام مناطق عسكرية وأغلق منافذها، كما قام بتدميرها بشكل ممنهج، وبقي أغلبية سكانها مهجرين ونازحين في ضواحي دمشق وريفها.
ويعتبر أحمد أن هدف النظام من السيطرة على المنطقة كان وراءه وضع اليد على واحدة من أجمل المناطق السياحية، وليبقى محافظًا على مصادر المياه ويمنع أي أحد من الاقتراب من هذا الملف.
أما المخطط الخفي فيتمثل بتدمير المنشآت السياحية في المنطقة من قبل رؤوس من النظام وميليشيات إيرانية، بهدف جلب تمويل وتحويلها إلى قرية سياحية تضم منشآت ضخمة جدًا مع ما يمكن أن تدره عليهم من أرباح، نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي وطبيعتها الخلابة.
هدم المنازل والأحياء السكنية لإنشاء حرم للنبع والنهر
خسر الأهالي أملاكهم على حرم نبع الفيجة، بموجب قوانين رسمية بدأت حكومة النظام السوري بتطبيقها على الأرض، بهدف تنظيم المنطقة لمصلحة “مؤسسة مياه عين الفيجة” على اعتبار أنها منطقة مائية، وبدعوى الحفاظ على الأمن المائي، وبموجب ذلك منع النظام عودة الأهالي وعمل على توسيع الحرم المباشر لنبع عين الفيجة، فبعد أن كانت مساحته تُقدّر بعشرات الأمتار، تم الاستيلاء على ثلاثة أرباع قرية عين الفيجة، وتدمير أحيائها بشكل ممنهج عبر الألغام والجرافات، بما في ذلك الأبنية الحكومية والمطاعم والمساكن.
واستمرت عمليات الهدم والتفجير على مدار السنوات الماضية، حتى باتت أغلبية منطقة عين الفيجة، لا سيما المناطق الحيوية والسياحية فيها، عبارة عن جروف خالية من كل شيء، فحتى الأشجار تمت إزالتها.
وبموجب الحرم المباشر بُني سور قسّم عين الفيجة من منتصفها ومُنع أي أحد من تخطيه، وأصبحت المنطقة الممتدة حتى بداية قرية دير مقرّن المجاورة بكليتها تابعة لـ”مؤسسة مياه عين الفيجة”.
ولفت أحمد إلى أن الأهالي وخلال زيارتهم الأخيرة إلى المنطقة، تفاجؤوا بالخراب الحاصل لممتلكاتهم، ولم يستطع بعضهم التعرف على حاراتهم وبيوتهم التي مُحيت عن الوجود بشكل نهائي، ما جعلهم يندمون على الدخول ورؤية ذلك.
تظهر صور خرائط “جوجل” مساحات الدمار الكبيرة في نبع الفيجة نتيجة ما تعرض له من هدم وتفجير ممنهج.
أصدر رئيس النظام، بشار الأسد، القانون رقم “1”، في 18 من كانون الثاني 2018، الذي حدد بموجبه حرمي النبع “المباشر وغير المباشر”، وحرمي النفق المائي المار بتلك القرى والواصل إلى دمشق.
وينص القانون على إنشاء حرمين على طول نفقي جر المياه من نبع الفيجة إلى دمشق، وحدد عرض الحرم المباشر لنفقي جر المياه بمسافة عشرة أمتار لكل طرف من النفق. بينما حدد عرض الحرم غير المباشر لنفقي جر المياه بمسافة 20 مترًا لكل طرف من النفق، اعتبارًا من محور النفق متضمنًا الحرم المباشر. ويعرف الحرم المباشر لنبع الفيجة وفق القانون السوري بـ”الأرض الواقعة حول المصدر المائي التي تتيح الوصول إليه لصيانته والحفاظ على سلامته ومنع تلوثه”. بينما حدد الحرم غير المباشر بـ”الأراضي المحيطة بالحرم المباشر للمصدر المائي التي يمنع فيها القيام بنشاطات محددة لمنع تلوثه واستنزافه”. ونص القانون على استملاك العقارات وأجزاء العقارات الواقعة ضمن الحرم المباشر، تبعًا للمخططات المرفقة بالقانون، ووفق تعويض معادل للقيمة الحقيقية للملكية. |
أما الحرم غير المباشر للنبع، فيُمنع فيه وجود منشآت صناعية أو خزانات وقود أو منازل وأبنية جديدة، كما أصدرت حكومة النظام، في حزيران من عام 2019، قانونًا جديدًا يتيح لها إزالة المنازل السكنية في محيط نهر “بردى” تحت مبرر الحرم الخاص بالنهر، ليتم بموجبه هدم المئات من المنازل في عين الفيجة وبسيمة.
أعمال محظورة
يُسمح للقرى القائمة في الحرم غير المباشر لنبع الفيجة ونفقي جر المياه من نبع الفيجة إلى دمشق بالقيام بأعمال محددة، هي ممارسة الزراعة البعلية دون استعمال مبيدات أو مخصبات ذات أثر تراكمي، وتربية المواشي بطريقة الرعي الحالية، بالإضافة إلى ترميم المساكن القائمة فقط.
ويعاقب مخالف الأحكام السابقة بالحبس من ستة أشهر إلى سنة، وغرامة قدرها 500 ألف ليرة سورية.
كما يمنع منعًا مطلقًا، في الحرم المباشر لنبع الفيجة ونفقي جر المياه، القيام بأي من الأعمال التالية: حفر الآبار وردم الحفر ونقل الأحجار أو الأتربة أو الرمال وإحداث مقالع لها.
ويمنع بناء أي من المنشآت السكنية أو الصناعية أو التجارية أو السياحية، وإقامة الطرق وتعبيدها، بالإضافة إلى إقامة أي تمديدات أو خزانات مهما كان الغرض من استعمالها.
وعلى الرغم من أن الدمار الكلي الذي شهدته قرية بسيمة، هو أقل من مثيله في عين الفيجة، إذ طال بعض المناطق المجاورة للنهر فقط، فإن المنازل الموجودة فيها تم تدميرها بصواريخ، ولذلك فهي مضعضعة هندسيًا، وصعبة الترميم، وغير قابلة للسكن، ما سيفاقم عبء إعادة ترميمها من قبل أصحابها، وفقًا لأحمد.
تعويض الأهالي
يعتقد أحمد أن النظام بإمكانياته الحالية غير قادر على إعادة تأهيل البنى التحتية في المنطقة، أو تنفيذ وعوده للأهالي المتضررة منازلهم بتعويضهم بمساكن بديلة، فهو كلام يستحيل تطبيقه على أرض الواقع، لأنه يحتاج إلى دعم دولي، وليس إلى حكومة “فاشلة”، بحسب تعبيره.
وقد وصل الأهالي إلى حالة من اليأس بعد أربع سنوات من الوعود الحكومية التي بقيت حبرًا على ورق، وهو يرى أن النظام لم يقم بتهجير الناس وتدمير المنطقة بكل ما كلفه ذلك من طاقة وأموال ليقوم بإعادتهم إليها، فضلًا عن عدم وجود أي جهة تمون على النظام بموضوع عودة الأهالي، فليس بإمكان الناس حاليًا القيام بأي شيء أو استرجاع أملاكهم أو أراضيهم أو الحصول على أي تعويض، إذ إن التكلفة باهظة جدًا، وهي بحاجة إلى دول تتولى عملية إعادة الإعمار.
تعتزم حكومة النظام السوري إحداث ضاحية سكنية باسم “ضاحية بردى” في محيط بلدة عين الفيجة.
وأوضحت محافظة دمشق أن قيمة العقد الموقّع بينها وبين الشركة العام للدراسات الهندسية لإعداد المخطط التنظيمي لـ”ضاحية بردى” تبلغ 450 مليون ليرة سورية، بحسب ما قاله مدير دعم القرار والتخطيط الإقليمي في المحافظة، عبد الرزاق ضميرية، لوكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، في 17 من آب 2020.
وأضاف ضميرية أن “الضاحية السكنية المقترحة، ستكون بمثابة سكن بديل للمواطنين الذين تضررت منازلهم في منطقة وادي بردى، بشرط أن تكون بعيدة عن الحرم المباشر لنبع عين الفيجة، دون المس بأراضي الأهالي وملكيتهم لها أو الاجتزاء منها”.
وأشار ضميرية إلى أن عدد السكان المستفيدين صار جاهزًا، ويجري العمل حاليًا على إعداد مخطط تنظيمي للضاحية خلال عام، ثم بنائها من قبل إحدى شركات القطاع العام على شاكلة ضاحية قدسيا.
وتبلغ مساحة الضاحية 50 هكتارًا، وتقع إلى الجهة الشرقية من بسيمة وعين الفيجة، وتتوسط المسافة بين بسيمة والدريج، وترتبط معهما بشبكة طرق استراتيجية محلية.
وكانت حكومة النظام وعدت، في أيار من عام 2019، بتعويض سكان قرى عين الفيجة وبسيمة بضواحٍ سكنية بديلة، بعد إقرار مخطط تنظيمي جديد للمنطقة، بحسب محافظ ريف دمشق السابق، علاء ابراهيم.
ولاقى القرار رفضًا شعبيًا من الأهالي على صفحات التواصل الاجتماعي، وقالت صفحة “تراث وذكريات عين الفيجة“، “لن نقبل بضاحية سكنية بديلة في منطقة نائية لا تسكنها الوحوش، لا إنس ولا جن ولا ماء ولا حياة”.
وفي حزيران من عام 2019، أعلنت حكومة النظام عن تخصيص 700 مليون ليرة سورية، لاستكمال إزالة وترحيل الأنقاض ضمن الحرم المباشر لنفقي جر المياه من نبع الفيجة إلى بسيمة.
آليات تابعة لحكومة النظام السوري تقوم بهدم أبنية طابقية في بسيمة بريف دمشق 7 من حزيران 2019 (المؤسسة العامة للإٍسكان)
ظروف قاسية يعانيها أهالي وادي بردى
رئيس المجلس المحلي السابق لقرى وادي بردى، سالم نصر الله، أكد من جانبه ما تعانيه المنطقة من انعدام للخدمات والبنى التحتية، وما يواجهه أهاليها المهجرون والنازحون من مصاعب.
فنتيجة نهب عناصر تابعين لـ”الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري” محتويات المنازل من أثاث ورخام وحديد وكل ما يمكن أخذه منها، لم يتبقَ أي بيت صالح للسكن، إضافة إلى سرقة المباني العامة التابعة للدولة من مدارس ومساجد ومقاسم للهاتف والكوابل الكهربائية، كما قام بتجريف المنازل والمقاهي على جانبي النبع وعلى أطراف مجرى النهر، وقضى على جميع مناحي الحياة هناك.
وقد وعد النظام الأهالي الذين آثروا البقاء في القرى المجاورة بإرجاعهم إلى منازلهم، لكنه أخلف بوعوده مرارًا متذرعًا بحجج واهية، أما تعويض المتضررين ببناء سكن بديل في مناطق جبلية فهو سيحتاج إلى سنوات، إذ لا توجد طرق متوفرة ولا بنى تحتية وهو ما يحتاج إلى أموال طائلة.
وأشار نصر الله إلى أنه في الوقت الذي يمنع النظام أهالي بسيمة وعين الفيجة من العودة إلى مناطقهم، سمح لهم قبل أيام بدفن موتاهم في مقبرة بسيمة، “فبدا الأمر كما لو أنه يقول إن الميت أفضل من الحي”، علّق متهكمًا.
ويعيش الأهالي النازحون حياة قاسية بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة، واضطرارهم لاستئجار منازل في القرى المجاورة، رغم أنهم لا يبعدون عن أرضهم وأملاكهم سوى بضعة أمتار، كما تنعدم الموارد وفرص العمل في تلك المناطق، ويعيش السكان بفقر مدقع نتيجة تجاهل النظام لهم، فضلًا عن تعرض البعض ممن لم يقوموا بـ”التسوية” مع النظام للاعتقال، وحتى الذين قاموا بـ”التسوية” اعتقلهم النظام على الحواجز بعد إعطائهم الأمان بأنهم لن يُلاحقوا.
أصدرت استخبارات النظام السوري، مطلع كانون الأول 2020، قائمة ضمّت أسماء ما يزيد على 150 مطلوبًا من أبناء قرى وادي بردى، بحسب موقع “صوت العاصمة“.
وأضاف الموقع أن المطلوبين هم ممن أجروا “التسوية” مع النظام، وتخلّفوا عن الالتحاق بجبهات القتال في الشمال السوري بعد أن طُلب منهم ذلك. ومطلع عام 2020، عممت دائرة التجنيد العامة، قوائم تضم أسماء أكثر من 150 شابًا من أبناء بلدة كفير الزيت، من المطلوبين لأداء الخدمة العسكرية الاحتياطية. |
أما وضع من هُجّروا بالباصات إلى مناطق الشمال السوري فهو ليس بالأفضل، إذ أحصى النظام أسماءهم، وقام بمصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة، وفقًا لنصر الله.
ولفت نصر الله إلى مخاطر القانون رقم “10” لعام 2018 على حقوق الملكية لأهالي وادي بردى، إذ إن أغلبهم مهجرون، وقد فقد كثير منهم وثائق إثبات الملكية نتيجة لظروف الحرب، إضافة إلى مخاوف البعض من التعرض للاعتقال التعسفي في حال الدخول إلى مناطق سيطرة النظام، فضلًا عن أنه حتى السؤال عن أملاك قريب قد يعرض الشخص للمساءلة.
أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، القانون رقم “10”، في 2 من نيسان 2018، وينص على “إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية”.
حذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية في تقرير لها من أن تطبيق القانون رقم “10” في سوريا، سيؤدي إلى “الإخلاء القسري” للمواطنين غير القادرين على إثبات ملكيتهم، واعتبرت المنظمة أن القانون يؤثر على حقوق الملكية، ولا يقدم إجراءات محاكمة أو تعويض، ويصل إلى حد “الإخلاء القسري” بحق المالكين، ومصادرة أملاك من لا يملكون حقوق ملكية معترفًا بها. وقالت نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في المنظمة، لما فقيه، إن “القانون رقم (10) يشكل إضافة مقلقة إلى ترسانة الحكومة السورية من قوانين التخطيط العمراني التي استخدمتها في مصادرة الممتلكات، دون مراعاة الأصول القانونية أو التعويض”. |
قوانين أتاحت الاستملاك في وادي بردى
يعتبر المحامي محمد هاجر العمري، أن النظام تعمّد منذ زمن بعيد الاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي بلدات وادي بردى بحجة النبع، وأصدر العديد من القوانين بهذا الخصوص.
وبيّن في حديثه إلى عنب بلدي أن الاستيلاء على الأراضي المحيطة بنبع عين الفيجة تم على مراحل بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تم استملاك عقارات ومنازل من مالكيها المحليين وهدمها بالكامل ضمن مخطط توسيع حرم النبع، إلى جانب منع البناء والترميم في المنطقة.
كما استملك النظام مناطق شاسعة بناء على القانون رقم (10) لعام 1989، الذي يحدد الحرم المباشر وغير المباشر للنبع ونفقي جر المياه إلى دمشق، وعمل على هدم معظم ما فيها من أبنية، وقد رفض بعض الأهالي الرضوخ لذلك، وطالبوا بحصولهم على تعويض مقابل منازلهم التي خسروها، لكن الأمر بقي مجمدًا ولم يكترث النظام بمطالبهم.
ومع انطلاق الثورة السورية، خرجت المنطقة من يد النظام، إلا أنه وبعد تمكنه وحلفائه من استعادتها، لوحظ تركيزه الشديد على قريتي عين الفيجة وبسيمة، وكانت وحشيته التدميرية واضحة فيهما، وبعد أن حصل الاتفاق على خروج مقاتلي المعارضة من المنطقة، أغلق النظام منطقة عين الفيجة وبسيمة وعين الخضراء عسكريًا، ومنع أي أحد من الدخول إليها إلا العناصر التابعين له الذين قاموا بـ”تعفيش” هذه القرى وانتهاك حرمتها، وعلى مدار أربع سنوات، لم يدخل أهل هذه القرى إليها، وواصل النظام تفجير وتدمير المنازل والممتلكات وتجريفها لتطابق الوضع المزمع تطبيقه وفق قانون الحرم الجديد الذي جسده القانون رقم “1” لعام 2018.
ويرى العمري أن السبب وراء استصدار هذا القانون يكمن في توسيع الحرم المباشر وغير المباشر، وقد تعمّد النظام عدم السماح للأهالي بالعودة وتدمير المنازل والعقارات وإزالتها تمامًا للاستفادة من المادة رقم “7” في القانون، التي تنص الفقرة “أ” منها على أنه، “تطبق جميع الأعمال الممنوعة في الحرم المباشر المذكورة في المادة (5) على الحرم غير المباشر لنبع الفيجة ونفقي جر المياه من نبع الفيجة إلى دمشق مع تثبيت الوضع الراهن القائم عند صدور هذا القانون بواسطة الصور الجوية المأخوذة من قبل جهة رسمية في الجمهورية العربية السورية”.
ويقصد بتثبيت الوضع الراهن أنه لا يحق لأي شخص المطالبة بأي حق خلافًا لذلك، وهو ما يعني استملاكات لعقارات ومساحات جديدة تُقدّر بأكثر من نصف عين الفيجة ضمن الحرم المباشر، أما نصفها الآخر فيوجد ضمن الحرم غير المباشر.
وقد رافق ذلك إصدار قرارات حجز على أملاك بعض مقاتلي المعارضة بحجة “الإرهاب”، وهو ما سيتبعه التنفيذ والاستيلاء على تلك العقارات، إلى جانب قيام عصابات بعمليات تزوير وغصب عقارات من هُجّر من أملاكه وسرقتها.
ويأتي تعديل المرسوم “66” لعام 2012، بالقانون رقم “10” لعام 2018 ليكمل مهمة الاستيلاء على ما تبقى، وسرقة أملاك الناس لمصلحة شركات قابضة، وفقًا للعمري.
ولا يخفى على أحد أن المهجرين الذين غادروا سوريا إلى بلاد اللجوء سيتعذر على أغلبيتهم المطالبة بحقوقهم أو تحصيلها.
وأشار العمري إلى أهمية المناطق التي استولى عليها النظام، من ناحية الموقع الاستراتيجي والطبيعة الخلابة، لافتًا إلى أن النظام يخطط للاستفادة من المنطقة سياحيًا بمشاريع يستفيد منها حلفاؤه وأمراء الحرب المتعاونون معه.
–