نبيل محمد
مثلما كانت جدران المدارس وبعض المنشآت الحكومية، وما زال أغلبها، من أكثر الصور البعثية الشمولية وضوحًا في طرقاتنا بين الأحياء، وفي الشوارع العامة، بما تتضمنها من رسومات، تكرس المفاهيم ذاتها، بحب الوطن والقائد، ورفع العلم فوق جثث المحتلين، وتلك الرسوم المكرورة التي غالبًا ما يعتليها تاريخ معيَّن يرتبط بعيد من أعياد “البعث”، تعود الكرّة في مجمل الأعمال الفنية التي يتم الترخيص لها، أو التكليف بها في الفترة الحالية وخلال السنوات القليلة الماضية بكثافة، وبأيدي من يفترض أنهم مختصون وذوو رسالة فنية غير مقيدة بأيديولوجيا كلاسيكية.
لن تمنعك اليوم أي محافظة سورية خاضعة للنظام كفنان مجاز جامعيًا، أو حتى تمتلك موهبة من وجهة نظر المؤسسة الرسمية السورية، من اختيار زاوية أو مكان في أحد أحيائها، ونصب منحوتة، أو رسم لوحة، أو تزيين مكوّن مادي ما، طالما كانت الرسالة التي سيقدمها عملك الفني “جدلًا”، مستمدة من المعجم الوطني للنظام خلال المرحلة الأخيرة، المعجم القديم بلا شك، والذي يعيد إحياء نفسه بصرامة منذ انطلاقة الثورة ضده قبل عشرة أعوام، من الحذاء العسكري، والبندقية التقليدية، والعسكري الغاضب، إلى شعارات التضحية والشهادة والذود عن التراب، كل جدار أبيض أو زاوية على مفترق طريق لم تنصب فيها البلدية حاوية قمامة، يمكن نصب عملك الفني فيها بلا شك، ولا دليل أكثر من الانتشار الكبير للمنحوتات واللوحات مؤخرًا في مختلف المدن السورية خاصة دمشق واللاذقية.
للفنانين الذين لم يخرجوا من عباءة النظام في سوريا اليوم، والذين يحاولون مرارًا وتكرارًا الظهور كمستقلين، غير خاضعين لأي سلطة، لا يشبهون الشخصيات التقليدية التي تكرر الكلام ذاته على الشاشات، أو تعمل بشكل وتوجيه واضح من السلطة، مكان مميز لدى النظام، يستطيعون ببساطة الحصول على مشاريع، أو إقامة فعاليات ذات مظهر مدني، بعد اتفاق بينهم وبين السلطات المختصة على مضامين تلك المشاريع، وسيأخذون ما شاؤوا من مراكز المدن للعمل بها، وها هي جدران شوارع في قلب دمشق القديمة بجمالها تسقط فنيًا بالتشويه البصري والجرائم الفنية التي يرتكبها مصطفى علي، ومجموعة الفنانين المبتدئين ومجموعة من الهواة وغير الهواة، بلوحات أكثر ما تذكرنا به هي اللوحات الخالية من أي أثر فني، والخارجة من كتب القومية الرطبة المليئة بأربع أو خمس صور لحافظ الأسد تتكرر بين كل درس وآخر، والمشهد البليد لرفعه العلم في القنيطرة.
“فن الطريق” الملتقى الذي اختتمه مصطفى علي مؤخرًا، والذي نظمته محافظة دمشق، ولا بد أن شعاره ومضمون رسوماته وأفكاره مستقاة من شارع التوجيه السياسي بمؤسساته الأمنية والعسكرية، هو نشاط من نشاطات علي ومن لف حوله من جموع فنانين يحملون الرسالة ذاتها، عن الوطن والمواطن وحتى الحب والحياة.
من “فن الطريق” إلى ملتقى فني أو نحتي، قريب من بيت الفنان في دمشق القديمة، البيت الذي كان في يوم من الأيام أشبه بمركز ثقافي يحاول الظهور بشكل مختلف عن المراكز الثقافية التي تخلو مدرجاتها وجدرانها من أي عمل ثقافي حقيقي، ما اختلف فقط بين الأمس واليوم، أن من غضّ النظر عن نشاط ما، أو أتاح شيئًا ما لمصفى علي ولم يتحه لغيره، يجد اليوم أنه من الضروري أن يكون هذا البيت وما يخرج منه من نشاطات ذا وظيفة تعبوية مباشرة، لا يحتمل حتى الفنون الرمزية والتجريبية، يجب أن يكون تعبيريًا واضحًا يكرّس الكلمة كما هي، والعَلَم كما هو، ووجه الطفل والمقاتل والموظف والشهيد بالتفاصيل الكلاسيكية المعتادة، أما عن الجدران التاريخية القديمة، وتشويه معالم مدينة مدرجة في قائمة التراث العالمي، فلم يكن لدى النظام يومًا مانع من حرق الأسواق، وتغيير المعالم، ومسح كل ما شاء، وبقوة السلاح.