هل تسيطر على عقل الطفل وتحتل ثقافته؟
مسلسلات “الأنمي”.. ثقافة اليابان مغربلة بين يدي أطفالنا
عنب بلدي – لؤي رحيباني
شغف وتركيز يسيطران على الأطفال المتسمرين أمام شاشات التلفاز، وهم يتابعون الأفلام والمسلسلات اليابانية التي تعرف باسم “الأنمي” (Anime)، في مشهد اعتادت عليه الأسر السورية، فمن خلال تلك الشاشة يجد الطفل عالمًا لا يطاله إلا في مخيلته، وفي موسيقى هذه الأعمال تتراقص روحه وحواسه في انسجام مع هذا العمل.
ولكن في غمرة حالة السعادة هذه، هل يتجرع الطفل السم في الدسم، من خلال محتوى لا يتناسب مع بيئة مجتمعه الثقافية؟ أم أن لهذه الأعمال أثرًا تنويريًا وتنمويًا يفيد الطفل على الأصعدة الاجتماعية والنفسية؟
“الأنمي” و”مانجا”.. بث الحياة في الرسوم
جاءت اليابان بفكرة “الأنمي” كصيغة جديدة لتحويل القصص المطبوعة على المجلات (تسمى مانجا باليابانية)، إلى مشاهد متحركة تأخذ شكل مسلسلات وأفلام، وبعد رواج الفكرة حولت مؤسسات الإنتاج اليابانية العديد من أعمال “مانجا” إلى “الأنمي”.
وتنبثق مسلسلات “الأنمي” من أعمال”مانجا” التي تعد الجزء الصعب من الإنتاج، إذ يجب أن يكون لدى المؤلف حس مرهف وقدرة ممتازة على صياغة القصة ورسمها لتحويلها إلى “الأنمي”.
في حال وصل “مانجا” إلى هدفه المنشود، ينقل المؤلف عمله إلى إحدى شركات الإنتاج التي تتبنى أعمال “الأنمي” وتمرر بدورها العمل إلى استديوهات مختصة بمجال الصوت تحضر فنانين بالدوبلاج ليؤدوا أدوار شخصيات “الأنمي”، فضلًا عن تأمين المؤثرات الصوتية الأخرى.
https://www.youtube.com/watch?v=pFh4o111GT8
سحر بصري لا تطاله سينما الواقع
لا ينحصر جمهور “الأنمي” بفئة الصغار، فإلى اليوم تجذب اليافعين وحتى البالغين، لما تحمله هذه الأعمال من محتوى فلسفي عميق، فضلًا عن الرسوم الاحترافية التي يعجز الممثلون الحقيقيون عن تأديتها، فتعبيرات الوجوه الحزينة والخائفة والغاضبة والشريرة والمتفاجئة في “الأنمي” لا تقبل المنافسة.
كما أن الخلفيات في هذه الأعمال تستحوذ على الانتباه بطرق لا تستطيع الأفلام والمسلسلات العادية فعلها.
الصداقة في أبهى تجلياتها
تظهر الصداقة في “الأنمي” بطرق لا يمكن لأي ترفيه آخر أن ينجح فيها، لأنه مصنوع عن قصد ليكون عاطفيًا للغاية، ويمكن للرسام تجسيد كل تفصيل من المشاعر تجسيدًا مثاليًا بلا عيب.
ربما السر في ذلك أن الصداقة الحقيقية نادرة في العالم الواقعي، وهو ما يستطيع “الأنمي” إبرازه بهذا الشكل الجميل، وبطريقة عاطفية مميزة، بحسب قراءة موقع “الأنمي موتيفيشن” المختص بمناقشة المسلسلات اليابانية.
“آكشن” بلا منازع
في المشاهد التشويقية، يتغلب “الأنمي” على الواقع بحرية تحريك الشخصيات المتحركة وزوايا تصويرها، وما يتم إضفاؤه عليها من مؤثرات جذابة، وهو ما يجعلها متفوقة على الأفلام الواقعية.
“سبيستون”.. ونشأة “الأنمي” في الوطن العربي
أعمال “أنمي” في الحقيقة ليست قديمة، وبدأ عرض أول مسلسلات “الأنمي” في الوطن العربي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
المخرج ورسام الرسوم المتحركة كريم قبراوي قال لعنب بلدي، إن ما نعرفه في سوريا لا يمثل 10% من مجمل “الأنمي” الياباني، فهذا العالم ضخم ومن الصعب الإلمام به كليًا، لافتًا إلى أن التعرف إلى مسلسلات “الأنمي” بدأ عبر الإنترنت.
وأشار كريم، الذي كان من مؤسسي قناة “سبيستون” للأطفال، إلى أن لهذه الأعمال تصنيفات ومدارس، لافتًا إلى أنها عبارة عن صناعة، جعلت هذا النوع من الأعمال ينتشر عالميًا.
وأوضح أن “سبيستون” كانت أولى قنوات الأطفال التي عرضت الأعمال اليابانية، وعلى الرغم من أنها قامت على كادر سوري، لم تبدأ من سوريا، بل بدأ بث القناة من البحرين ثم مصر.
وأضاف المخرج أن 90% من محتوى مسلسلات “سبيستون” المدبلجة يابانية المنشأ، و10% أمريكية، كـ”باتمان” وأفلام “لوني تيونز”.
وبدأت “سبيستون” ببثها التجريبي على تلفزيون “البحرين” في عام 2000، في حين بدأت ببثها الرسمي في 2002 كقناة مستقلة تستهدف شريحة الأطفال.
وفي 2008، بدأت قناة “سبيس باور” ببثها التجريبي للمحتوى الياباني، لتستهدف الفئات العمرية الأكبر سنًا وتلائمها، وكذلك كانت تخضع لغربلة في المشاهد والسيناريو ولكن بوتيرة أخف، وفق ما أوضحه المخرج.
ولفت إلى أن شركات الإنتاج هذه كانت تخضع لرقابة “مجلس التعاون الخليجي”.
المدرستان اليابانية والأمريكية.. ما الفرق؟
الأعمال اليابانية مختلفة عن بقية المدارس، ولها هويتها الخاصة، كما أنها تحمل أبعادًا فلسفية وعميقة جدًا.
وأوضح كريم أن النمط الياباني لا يخضع للرقابة، فالمواضيع التي تُعرض قد تكون غريبة في طرحها وتتخطى حدود المنطق، لأن أفق الخيال في هذه الأعمال ليس له حدود.
“بينما المدرسة الأمريكية في الكرتون على الرغم من أنها قد تبتعد عن الواقع في طرحها القصصي والفني، فإنها تبقى أقرب إلى الواقع، من ناحية أشكال الشخصيات وحركتها وألبستها، من تلك اليابانية”، بحسب ما أوضحه المخرج.
بينما أخرج كريم قبراوي الكرتون العربي من المقارنة، إذ قال، “لا يمكن إخضاع الأعمال اليابانية والعربية للمقارنة، لأن العمل العربي لا يعد صناعة بحد ذاته، وغير متمرس في هذا المجال”.
أعمال الكرتون في علم النفس.. آثار إيجابية
يرى الطبيب النفسي مأمون المبيض، في حديث إلى عنب بلدي، أن أفلام الكرتون أصبحت جزءًا طبيعيًا من حياة كل طفل في أنحاء العالم، بما أننا في عصر التكنولوجيا والشاشات، مضيفًا أنها أصبح ضرورية في تعليم أمور مفيدة معرفية وإدراكية.
ونبّه المبيض في الوقت عينه إلى ضرورة انتقاء المحتوى المناسب، والموجه بطريقة صحيحة لا تؤذي نشأة الطفل النفسية، مع مراعاة عدم استغراق الطفل في مشاهدة هذه المسلسلات لساعات طويلة.
وذكر الطبيب الطفل السوري مثالًا كمستفيد من مشاهدة مسلسلات الكرتون، إذ إنها تسهم بتخفيف معاناته في ظل ما مر به في الحرب السورية، مضيفًا أنه يمكن للمسلسلات أن تنعكس بآثار تبعث على الطمأنينة والترفيه في نفسية الطفل.
كما أن هذه الأعمال تلقن الطفل بطريقة مسلّية روح العمل الجماعي، ومعاني الصداقة، واحترام الكبير والصغير، ومعرفة أفق أوسع من هذا الكون.
ولهذه المسلسلات آثار إيجابية، فيمكنها أن تسهم في التطور الشامل للطفل على الصعيد اللغوي والمعرفي والاجتماعي والقيمي، وتعينه على فهم الحياة والمنطق، بحسب المبيض، الذي أشار إلى أن هذه المسلسلات تطور حس الطفل السمعي والبصري وتنمي تركيزه وإبداعه.
ونصح الطبيب النفسي الأهل بتعزيز فوائد هذه المسلسلات بحضورها مع أطفالهم والتفاعل معهم في مناقشة محتواها.
للآثار السلبية حصتها
في المقابل، يمكن للأفلام غير الموجهة أو السيئة المحتوى أن تعزز صفات العنف والسرقة والكذب وتجمّلها في عين الطفل، وقد تفسد القيم المجتمعية إذا كان محتواها يخالف قيم المجتمع الموجهة إليه، بحسب المبيض.
ولا ينصح الطبيب بمشاهدة أفلام الكرتون للأطفال ممن هم دون السنة والنصف، لأنها قد تؤثر على الانتباه والنوم والذاكرة والقراءة والنمو اللغوي، كما حذر من عدم استغراق الأطفال الذين عمرهم بين سنتين وثلاث سنوات في مشاهده أفلام الكرتون أكثر من ساعة باليوم.
بدوره، يربط الطبيب النفسي إسماعيل الزلق أثر مسلسلات الكرتون على الأطفال بنوعية المحتوى الذي تقدمه، ودور البطل في المسلسل، وطريقة تعامله مع من حوله ومن هم أضعف منه.
فقد يكون الأثر سلبيًا إذا كان البطل (الذي سيؤثر بالطفل) يمجد العنف وإساءة المعاملة مع الآخرين، أو يتصرف بشكل غير لائق من خلال طريقة اللباس والكلام والتصرف، بحسب الطبيب إسماعيل الزلق، الذي أضاف أن طريقة رسم الأبطال في بعض المسلسلات الكرتونية يكون فيها “قبح” في بعض الأحيان، وهو ما يؤثر سلبًا على القيم الجمالية لدى الطفل.
إغراق الطفل في المسلسلات طوال الوقت سيؤدي إلى آثار سلبية على قدراته اللغوية والاجتماعية، بحسب الزلق، الذي يفسر ذلك بأن الطفل يجلس أمام الشاشة بدور المتلقي الصامت، من دون تفاعل اجتماعي مع أشخاص حقيقيين.
“حصان طروادة” يقتحم ثقافة مجتمعنا
اختصاصية الطب النفسي للأطفال الدكتورة رانيا عبد الرحيم، ترى في حديث إلى عنب بلدي، أن أفلام الكرتون التي أُعدت في دول أخرى غير عربية سواء في اليابان أو أمريكا أو أوروبا، تعكس ثقافة وعادات وتقاليد الدولة التي أنتجتها، والبيئة التي خرجت منها، وهي “مغايرة للبيئة والثقافة العربية”.
وأوضحت أن محتوى هذه الأفلام، فيه ما يكفي من التعليمات والأفكار والمؤثرات، التي تتنافى مع أفكارنا وعاداتنا وتركيبنا الاجتماعي (كمجتمعات إسلامية) مختلفة عن تركيبة الغرب، محذرة من أن ذلك سيكون له أثر عميق في برمجة عقل الطفل العربي وإفساد أخلاقه.
حالات مرضية
وقالت الطبيبة رانيا لعنب بلدي، “في عيادتي، يراجعني كثير من الأطفال يعانون من اضطرابات نفسية كان سببها جلوسهم أمام شاشات التلفزيون لأوقات أكثر من الساعة يوميًا، ما أدى إلى إصابتهم باضطراب التوحد (Autism) المكتسب، الذي يشبه بأعراضه اضطراب التوحد الموروث”، مشيرة إلى أن ذلك يجعل الطفل “مبرمجًا” ولا يتكلم إلا بلغة أفلام الكرتون، فضلًا عن فقدانه لغة التواصل الطبيعية.
ما شاهدناه فُصّل لأجلنا
الأعمال اليابانية تحمل قيمًا وأفكارًا غير مألوفة للمجتمع والثقافة العربية، بحسب المخرج كريم قبراوي، الذي أوضح أن هدفهم الأساسي في “سبيستون” كان دبلجة هذه الأعمال ووضعها ضمن إطار ثقافي مناسب للبيئة العربية، فضلًا عن غربلة المشاهد غير المناسبة.
وضرب كريم لعنب بلدي بعضًا من الأمثلة على مسلسلات عُرضت على شاشات التلفزيون في الوطن العربي وخضعت للغربلة، وهي:
“أنا وأخي”
في هذا المسلسل كانت الفكرة أن الأم تموت وتتقمص روحها في الابن الكبير “سامي” ليربي أخاه الصغير، وهو ما أُلغي في صيغته المدبلجة للعربية، بسبب فكرة التقمص (انتقال الروح من جسد إلى جسد).
“سلام دانك”
أُلغيت فكرة المصاحبة بين الشاب وعشيقته، وصُيرت إلى أخ وأخته.
“سندباد”
شراب النبيذ الذي تتناوله الشخصيات في المسلسل أصبح عصير العنب
“روبن هوود”
الكثير من مشاهده حُذفت لأنها تحمل رموزًا دينية لن يتقبلها المجتمع العربي، وهو من أكثر المسلسلات التي خضعت لتعديل في المشاهد والسيناريوهات، وفق كريم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :