من شأن الأزمة السورية، في غضون شهرين قادمين، أن تبلغ من العمر عشر سنوات كاملة، فيما يعد علامة فارقة لأكثر الحروب الأهلية دموية وفتكاً وتدميراً في التاريخ الحديث. عندما خرج عشرات الآلاف من المواطنين السوريين إلى شوارع البلاد في مظاهرات سلمية للمطالبة بإجراء الإصلاحات السياسية، لم يكن بوسع القليل منهم أن يتصور حجم العنف الوحشي والخراب الرهيب الذي قد يعمد نظام بشار الأسد إلى استخدامه لقمع مواطني بلاده. فلقد جرى تدمير أكثر من نصف البنية التحتية في عموم سوريا حتى اليوم، مع غياب الاحتمالات الواقعية لأي عمليات إعادة بناء ذات مغزى. وما يزال النظام السوري الحاكم منبوذاً على الصعيد الدولي، ومذنباً بقائمة اتهامات لا نهاية لها من جرائم الحرب الشنيعة. ووفقاً إلى منظمة الأمم المتحدة، لا يزال النظام السوري يواصل انتهاك اتفاقية الأسلحة الكيماوية، واتفاقية نزع السلاح لعام 2013 ذات الصلة بها.
والأهم من ذلك، أن الاقتصاد السوري في حالة إنهاك شديدة يُرثى لها؛ ممزق إثر صراع داخلي لا يمكن تحمله، ومهلهل بسبب الفساد العميق المستشري في كل أوصاله، ومنهار للغاية نظراً للانهيار المالي الذي يعاني منه لبنان المجاور. ولا تعتبر أزمات الخبز والوقود المتفاقمة في البلاد ناجمة عن العقوبات الدولية على سوريا، وإنما بسبب الرفض الروسي الحالي لإنقاذ الدولة السورية الفاشلة والمفلسة تماماً. وبعد الزلزال الشديد الذي عصف به النظام السوري بحليفه السابق رامي مخلوف في مايو (أيار) من عام 2020، واصل النظام الغاشم محاولاته الدورية في ممارسة الضغوط الشديدة على الأصول القيمة من بين أعضاء النخبة الآخرين المحسوبين على النظام، ولكن بصرف النظر تماماً عن المكاسب التي يمكن تحقيقها من وراء ذلك، فلن تكون كافية بحال.
ولقد أسفر الانزلاق السوري المستمر في هوة الأزمات المالية العميقة عن تآكل شديد في الطبقة الوسطى في البلاد، حيث بات ما نسبتهم 90 في المائة من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر حالياً. وأصبح شراء رغيف الخبز لوضعه على المائدة محنة من المحن اليومية المستمرة. ومما لا يثير الاستغراب، أن حالة الإحباط العامة حيال النظام الحاكم هي في تزايد مستمر، كما أن إشارات الغضب والسخط العام من قلب قاعدة الدعم والتأييد للنظام قد صارت أبلغ وأكبر من أي وقت مضى. ومع اعتبار الصعوبات الشديدة في الوصول إلى الدولارات الأميركية داخل سوريا راهناً، انقلبت النخبة التجارية الموالية للنظام على بعضها بعضاً مع تنافسات بالغة القسوة لكسب الأفضلية في خضم بيئة الأعمال والتجارة المقيدة للغاية وغير اليقينية بصورة متزايدة.
وإيجازاً للقول، فإن سوريا في حالة سيئة للغاية – ويمكن القول إنها أسوأ حالاً إزاء آفاق المدى البعيد مما كانت عليه الأوضاع في أوج الصراع الأهلي المسلح بين عامي 2014 و2015. ولا نرى بصيص ضوء في نهاية النفق المظلم، كما لن يبرح النظام السوري الحاكم مكانه قريباً. ومن واقع الضوء الأخضر الروسي – الذي يُقال إن النظام السوري قد حصل عليه إثر سلسلة من صفقات الأعمال وعمليات الاستحواذ على الأصول التي طالبت بها روسيا، فضلاً عن وضع الجدول الزمني لسداد الديون المستحقة إلى موسكو – سيخوض بشار الأسد الانتخابات الرئاسية في الصيف المقبل. والفائز في تلك الانتخابات القادمة شخصيته معروفة ومحددة سلفاً، على الرغم أنه من المرجح أن تدفع روسيا بعدد من المرشحين الإضافيين في محاولة لتفادي نوعية الانتصار الانتخابي بنسبة 95 في المائة المقدسة التي اعتاد عليها السوريون من قبل.
وفي مواجهة هذه التحديات، تدخل إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن إلى معترك الأحداث قريباً. وفي ضوء سلسلة من التصريحات والبيانات الواضحة وقوية اللهجة الصادرة خلال الشهور الأخيرة من قبل الرئيس الأميركي المنتخب وكبار الشخصيات المعينين حديثاً في إدارته الجديدة، من شاكلة جيك سوليفان وأنتوني بلينكن، فمن شأن القوات الأميركية المنتشرة في سوريا والمعنية بمحاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية في شرق البلاد، أن تستمر رفقة المسار العام الأساسي للسياسات الأميركية الأوسع نطاقاً تجاه سوريا والمتصفة بالمعارضة الحازمة لنظام حكم بشار الأسد طويل الأمد. ومع ذلك، فإن هذا في حد ذاته ليس كافياً بحال، لا سيما مع اعتبار الديناميات والتحركات السائدة حالياً في البلاد، والتي إن تُركت دونما تناول وتعامل وانتباه، فإنها سوف تضمن بتفاقم الفوضى التي تعد بالمزيد من زعزعة الاستقرار المحتمل على الصعيدين الإقليمي والدولي. والوقت ليس في صالح الجميع، ومن واقع كافة الاحتمالات، فإن القرارات التي سوف تُتخذ في عام 2021 الجديد هي التي سوف تحدد الكثير من آفاق المستقبل السوري.
ومنذ البداية، سوف تحتاج إدارة الرئيس بايدن إلى تنشيط التفاعلات الدبلوماسية بشأن القضية السورية – الأمر الذي كانت الأوضاع تفتقر إليه بشدة إبان سنوات الحكم الأربع المنقضية من إدارة الرئيس دونالد ترمب. وفي جوهر الأمر، فإن التحركات الدبلوماسية النشطة بشأن الأزمة السورية لا بد أن تكون متعددة الأطراف، ولسوف تحتاج الولايات المتحدة إلى دعوة الحلفاء كافة للمشاركة، لا سيما أولئك الموجودين في منطقة الشرق الأوسط، وفي أوروبا. ومن واقع النظر إلى الجهود المحمودة التي بذلها غير بيدرسن، مبعوث منظمة الأمم المتحدة الخاص بالأزمة السورية، من أجل المحافظة على استمرار العملية الدبلوماسية قائمة من خلال اللجنة الدستورية السورية، فإن تلك الجهود قد عانت الكثير من العراقيل لإحراز التقدم الملموس، وباتت وكأنها ذريعة من جانب الحكومة الروسية للقضاء ببطء شديد على الجهود الدبلوماسية المعنية. وفي حين أن تعزيز المناقشات الدستورية السورية سوف تكون مفيدة بكل تأكيد، إلا أن الفائدة الحقيقية سوف تكون محققة من خلال إعادة تنشيط مجموعة «أصدقاء سوريا» تحت إطار تحالف دبلوماسي يعمل بصورة أكثر حزماً، من أجل المضي قدماً على سبيل تحقيق الأهداف المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. ومن شأن تلك الجهود أن تبدأ بدفعة صوب التوقف الحقيقي لإطلاق النار على الصعيد الوطني السوري مع وصول المساعدات الإنسانية غير المقيدة بُغية التخفيف من معاناة المدنيين في أرجاء البلاد كافة.
وبالتوازي مع ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها استثمار المزيد من الجهود في الحوار مع روسيا، مع السعي للوصول إلى أرضية مشتركة يمكن انطلاقاً منها بناء مستوى معين ومقبول من الثقة. وما تزال مكافحة الإرهاب هي المبعث الوحيد لاستمرار التبادلات الأميركية – الروسية مع سوريا كما أنها تشكل نقطة انطلاق ذات أهمية. ومع ظهور تنظيم «داعش» بصورة واضحة في الصحراء الوسطى الخاضعة لسيطرة النظام السوري الحاكم، ومع شروعه في التأثير على الأوضاع الأمنية في المناطق التي تشرف عليها الولايات المتحدة في شرق الفرات، تتضح أمامنا فرصة سانحة لعقد المناقشات المحدودة بشأن مكافحة الإرهاب.
إن مواصلة الحملة الأميركية ضد تنظيم «داعش» تستلزم إيلاء النظرة العاجلة إلى التوترات الداخلية لدى قوات سوريا الديمقراطية. والأهم من ذلك، حالة العداء المستمرة بين تلك القوات وبين تركيا. أيضاً تقدم المجلس السياسي لقوات سوريا الديمقراطية بمبادرات متكررة تجاه قوى المعارضة السورية المدعومة من أنقرة على مسار استكشاف سُبل الانفراج والتعاون في المستقبل، غير أن الحكومة التركية نفسها تظل العقبة الرئيسية في ذلك. ومن شأن الولايات المتحدة إعادة استكشاف آفاق بناء الثقة والضمانات الأمنية في شمال شرقي سوريا من أجل الحد من التوترات وتيسير المفاوضات الجارية – وإنما المجمدة – بين مجلس سوريا الديمقراطية والتكتلات السياسية الكردية السورية ذات الصلة بالحكومة التركية. ورغم المحافظة على قناة اتصال مفتوحة مع النظام الحاكم في دمشق، فإن مجلس سوريا الديمقراطية قد اكتشف أن أي صفقة تُبرم مع نظام بشار الأسد سوف تعتبر بمثابة استسلام – تلك الحقيقة التي ينبغي أن تمنح الولايات المتحدة قدراً من النفوذ، وليس العكس.
هذه ليست سوى بعض التحديات المباشرة ذات الصلة بالملف السوري. أما تسوية أزمة إدلب فهي أمر مختلف تماماً، وكذلك المصير المعلق الذي ينتظر الآلاف من معتقلي «داعش»، فضلاً عن عشرات الآلاف من أفراد العائلات المرتبطين بهم، بالإضافة إلى استمرار وجود أكثر من 5 ملايين لاجئ سوري في كل من تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، كذلك الضغوط التي لا يمكن تحملها والمفروضة على اقتصادات تلك البلدان.
وفي خاتمة المطاف، لا تزال سوريا أولى بالأهمية – بالنسبة للعالم بأسره على نطاق كبير. وتقدم لنا الأحداث التي جرت خلال السنوات العشر الماضية دليلاً واضحاً وملموساً لأسباب تلك الأهمية. وعلاوة على ما تقدم، فإن بشار الأسد لم ينتصر في هذا الصراع، بل إنه يحاول النجاة منه فحسب. لقد تعمد إحراق البلاد بهدف تأمين نجاته وبقائه على رأس السلطة، ولسوف تبدأ تبعات سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها في الظهور تباعاً. ولا يمكن للعالم المعاصر الاكتفاء بمجرد مصافحة سوريا، إذ لا بد عليه الالتزام الحقيقي بالتعامل المباشر معها، وأن يقدم أحسن ما في جعبته لتأمين المستقبل الأفضل من ذلك الموعودة به سوريا اليوم تلقاء الوضع المزري الراهن.