عنب بلدي – خولة حفظي
في تقليد أصبح يوميًا، تضع جنى العبد الله يدها على رأس أطفالها، وتتمتم بآيات قرآنية على جبينهم على أمل أن تحميهم من سقوط سقف متهالك أو جدار متصدع في مدرستهم ذات البناء القديم، الواقعة في حي “العمارة البرانية” الدمشقي، وتبقى هالة من الخوف حولها لا تفارقها إلا حين عودتهم.
وقوع أحد الأعمدة أو السقوف والجدران المتهالكة في الأبنية القديمة بأحياء دمشق، هاجس يرافق معظم ساكني تلك المناطق، وصار المشهد مألوفًا عند معظم السكان، بحسب ما قالته جنى العبد الله، وهي أم لثلاثة أولاد وتقيم في حي “العمارة البرانية” بدمشق، لعنب بلدي.
ويؤكد الظاهرة صاحب أحد المحال في منطقة العقيبة بدمشق، طلب عدم ذكر اسمه، قائلًا إنه شهد سقوط سقف أحد البيوت أمام دكانه بسبب ثقل مياه الأمطار على سقف البيت القديم.
وأضاف الرجل الستيني، لعنب بلدي، “منذ سقوط السقف، صار البيت مكشوفًا للمارة”، بينما لم تتحرك البلدية لترحيل المخلفات، التي لا تزال في المنزل بسبب رفض الورثة التحرك لوجود خلافات بينهم، وجميعهم مقيمون خارج سوريا.
وتحوّل المنزل إلى “خرابة مهجورة” ومأوى للقطط، بينما يملأ الغبار المكان في المنطقة ويثير انزعاج الأهالي في الحي، بحسب الرجل، الذي تحدث عن عدد من الحالات المشابهة في المنطقة.
وخلال الفترة الأخيرة، شهدت دمشق انهيار عدد من البيوت القديمة، من بينها انهيار منزل في حي السويقة، في 28 من كانون الأول 2020، أسفر عن إصابات “طفيفة” لتسعة أشخاص بينهم رجل عاجز، بحسب “فوج إطفاء دمشق“.
كما انهار مبنى قديم في حي الشاغور بدمشق يضم غرفًا ومحال تجارية ومستودعات، في 18 من الشهر ذاته، دون وقوع أي خسائر بشرية.
الترميم مسؤولية مَن؟
يقول المحامي السوري غزوان قرنقل، إن مسؤولية ترميم أو هدم وإعادة بناء عقارات تقع على عاتق مالكيها من حيث المبدأ، إن كان ذلك مسموحًا قانونيًا.
ويوضح قرنفل لعنب بلدي، “إذا كان العقار مدرجًا ضمن التصنيف كمبانٍ أثرية وبالتالي يمنع هدمها، فإن مسؤولية ترميمها تقع على مالكيها، ولكن يمكن لهؤلاء اللجوء إلى الدولة، وخاصة لوزارة السياحة، للحصول على قروض ميسرة تساعدهم على الترميم”.
ولا يقع الترميم على كاهل الدولة إلا في حالة واحدة، وهي قيامها باستملاكها ودفع قيمتها لأصحابها، عندها ينتقل عبء الترميم ومسؤوليته إلى الجهة المستملكة للعقار، بحسب ما أضافه المحامي.
دعم المنظمات يتحول إلى البيوت المدمرة
تواصلت عنب بلدي مع مهندس مدني (تتحفظ عنب بلدي على نشر اسمه) يعمل في وزارة الإدارة المحلية بدمشق، وأوضح أنه منذ سنوات كانت هناك جمعيات تعطي مساعدات رمزية للأهالي، لمساعدتهم على ترميم بيوتهم في مناطق دمشق القديمة.
ولكن تلك الجمعيات، التي كانت تعمل بالتنسيق مع الأمم المتحدة، توقفت عن تقديم الدعم منذ “سنوات طويلة”، وتحول الدعم إلى إعادة ترميم البيوت في المناطق التي دمرتها الحرب، والتي تعمل حكومة النظام لإعادة سكانها إليها، بدلًا من دعم ترميم البيوت القديمة.
ولا تتوفر بيانات حول أسماء الجمعيات المشاركة في بناء المناطق المتضررة من الحرب، باستثناء ما قاله مدير “الإغاثة والمنظمات الدولية” بريف دمشق، تيسير القادري، منتصف عام 2020، عن “خطة” لإعادة ترميم البيوت المدمرة تشارك فيها منظمات دولية إلى جانب “الهلال الأحمر العربي السوري” و”الأمانة السورية للتنمية” وجمعيات، مثل “السورية للتنمية الاجتماعية” ومبادرات كنسية.
وأُسست “الأمانة السورية للتنمية” عام 2001، أي بعد تسلم بشار الأسد السلطة، وحصلت على الترخيص القانوني من وزارة الشؤون الاجتماعية في 2007، وعملت أسماء الأسد على تمرير رسائل سياسية من خلالها بإلقاء كلمات تدعم النظام السوري.
لماذا لا يرمم السكان بيوتهم؟
يعجز بعض السكان عن ترميم بيوتهم المتهالكة، رغم درايتهم بخطورة وضعها، بسبب ارتفاع أسعار مواد الترميم، والحاجة إلى مبالغ تفوق قدرتهم على دفعها.
وقال معاذ شورى لعنب بلدي، وهو موظف متقاعد لا يتعدى راتبه التقاعدي 35 ألف ليرة سورية (قرابة 12 دولارًا أمريكيًا)، ويمتلك بيتًا في حي ساروجة، إن السقف المبني من التبن في بيته بدأ يتشرب المياه بحلول الشتاء، ودخلت المياه إلى الغرف، مضيفًا بلهجته الدمشقية ساخرًا، “من وين بدي رمم بيتي، يلا قدران أمن أكل وشرب بهالغلا”، في إشارة إلى ارتفاع الأسعار.
ورفعت حكومة النظام السوري أسعار الأسمنت بجميع أنواعه، في 19 من كانون الأول 2020، ليصل سعر الطن إلى 125 ألف ليرة سورية.
وجاء ذلك بناء على القرار رقم “2603”، القاضي بتحديد أسعار مبيع الطن من مادة الأسمنت المعبأ والفرط، المنتج لدى المعامل والشركات التابعة للمؤسسة العامة للأسمنت ومواد البناء.
وفقًا للقرار “2603”، فقد بلغ سعر مبيع طن الأسمنت المعبأ للمستهلك من نوع “البورتلاندي” عيار 32.5، 125 ألفًا و500 ليرة سورية، بدلًا من 66 ألفًا و900 ليرة، أي بزيادة قدرها 58 ألفًا و600 ليرة (أكثر من 87%).
بينما حُدد سعر طن الأسمنت “البورتلاندي” المعبأ عيار 42.5 بـ151 ألفًا و600 ليرة سورية، وطن الأسمنت “البوزلاني” عيار 32.5 بـ114 ألفًا و300 ليرة، وطن أسمنت “آبار النفط” بـ167 ألفًا و700 ليرة، وطن أسمنت “مقاوم كبريتات” بـ161 ألفًا و500 ليرة.
أما الأسمنت الفرط، فقد رفعت الوزارة سعر مبيع الطن من نوع “البورتلاندي” عيار 32.5 إلى 106 آلاف و350 ليرة سورية، بدلًا من 60 ألفًا و489 ليرة سورية، أي بزيادة تصل إلى نحو 46 ألف ليرة (أكثر من 76%).
كما حددت سعر طن الأسمنت الفرط من نوع “البورتلاندي” عيار 42.5 بـ130 ألفًا و850 ليرة سورية، وطن الأسمنت “البوزلاني” عيار 32.5 بـ94 ألفًا و650 ليرة، وأسمنت “آبار النفط” بـ146 ألف ليرة، وأسمنت “مقاوم كبريتات” بـ140 ألفًا و150 ليرة.
روتين وتكلفة مرتفعة
تطلب محافظة دمشق أذونًا للترميم والإصلاح الطارئ لعقارات ومقاسم واقعة ضمن مدينة دمشق القديمة للحفاظ عليها بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف، إضافة إلى وثائق تتعلق بإثبات الحيازة للعقارات السكنية والتجارية، ثم يتقدم صاحب العلاقة بطلب إلى مركز “خدمة المواطن” العائد للمدينة القديمة.
ولكن استخراج الأوراق الرسمية يستغرق وقتًا وجهدًا إضافة إلى أنه مكلف ماديًا، وقد يعرقل عملية الترميم، بحسب ما قاله مالكو بيوت قديمة في دمشق لعنب بلدي.
وقال ثائر علاف، وهو مالك بيت عربي قديم في ساروجة، “ما إن قررتُ البدء بترميم جسر في إحدى الغرف داخل المنزل، حتى بدأت العراقيل بالظهور، فمحافظة دمشق تطلب أوراقًا عدة للسماح بالترميم، ويتطلب البدء بالمعاملة حوالي مليون ليرة سورية، قبل حتى أن تبدأ بالترميم، ناهيك عن رسم إزالة الجسر، الذي يبلغ 50 ألف ليرة سورية”.
عقبات إضافية
روى أحد سكان منطقة ساروجة (فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية) ما يعانيه قاطنو البيوت المتهالكة التي تحتاج إلى الترميم في المنطقة، معتبرًا أن تضارب قرارات الحكومة عرقل عمليات ترميم المنازل.
وتابع، “باتت الهوية العمرانية للمنطقة مهددة بالزوال بعد سقوط الكثير من البيوت في المنطقة (…) وتصل مساحة الواحد منها إلى حوالي 4000 متر مربع”.
وانتقد المواطن المقيم في ساروجة تضارب التصنيفات من قبل محافظة دمشق، موضحًا أن ساروجة تصنف تارة على أنها تتبع لدمشق القديمة وأنها منطقة أثرية، بالتالي ترميمها يجب أن يكون على الطراز القديم، وتارة تصنفها على أنها تابعة لتنظيم غربي سوق “الهال”.
وقال الرجل إنه استخرج رخصة ترميم لمنزله في ساروجة على أنها تتبع لتنظيم غربي سوق “الهال”، وعندما بدأ بأعمال الترميم أوقفته البلدية ومديرية الآثار والمتاحف، “قالوا لي منزلك يتبع لدمشق القديمة المصنفة منطقة أثرية”.
وأُدرجت مدينة دمشق القديمة ضمن لائحة “يونسكو” لمواقع التراث العالمي سنة 1979، تحت بند التخطيط المعماري المتميز، كما أُدرجت ضمن لائحة “يونسكو” لمواقع التراث العالمي المهدد بالخطر عام 2013.