“قد لا تتخيل أن إسفنجة مسح الأحذية التي توضع في علبة صغيرة وتلمع الحذاء في ثوانٍ، أثارت دهشتي حين رأيت صديقي يستخدمها لأول مرة، ودهشتي تلك أثارت دهشة صديقي الذي لم يتخيل أن هناك من يندهش من هذا الشيء البسيط الشائع”.
هكذا وباختصار، شرح الطبيب السوري والمعتقل السابق راتب شعبو الشرخ الزمني الذي عاشه بعد الإفراج عنه، وبعد أن بلغ حياة ما بعد المعتقل الذي أمضى فيه 16 عامًا وثلاثة أيام، منذ عام 1983 وحتى 1999، متنقلًا بين فروع أمنية تختلف بالأسماء وتتوحد في الاستبداد الذي يدور بين جدرانها، وكان ختامها في معتقل “تدمر”، قبل أن يستقر به المقام في باريس، كمفارقة أو هدية “قدمتها له الحياة بعد طول جفاء”.
اعتقل شعبو وهو في الـ20 من العمر، وكان حينها طالبًا في كلية الطب بجامعة “دمشق”، وقضى تلك السنوات عقابًا على “التورّط” بالانتماء لتيار سياسي معارض لمنطق “البعث”.
كتب رواية “ماذا وراء هذه الجدران” بعد سنوات على خروجه من المعتقل (بين عامي 2007 و2009)، وصدرت في عام 2015، وجمع فيها التفاصيل الحية والواقعية التي نقلها عن عالم آخر موازٍ يدعى المعتقل، فيه شكل مختلف من الحياة التي خاف الناس الحديث عنها لزمن طويل.
وأُسّس سجن “تدمر”، “شيخ السجون السورية” كما يصفه راتب، عام 1966، وهيأه النظام السوري منذ بداية حكم حافظ الأسد (1970) لاستقبال ذوي التهم السياسية من إسلاميين وشيوعيين أو أصحاب أي انتماءات سياسية خارجة عن طاعة “البعث”.
يقول شعبو لعنب بلدي، “حين كتبتُ الرواية كنتُ مخلصًا لذاكرتي كما كانت مخلصة لي، لم أشطب ولم أبالغ ولم أستر، ولم أنشغل بإدانة السجان عن قصد، لإيماني بأن الإخلاص في الرواية هو الإدانة الأشد”، وتُرجمت الرواية للغة الهولندية في 2019، كما تجري ترجمتها للفرنسية.
وبعد كثير من المشاهد والصور والمفاهيم التي قدمتها رواية شعبو، يرى أنّ ما كان وراء تلك الجدران التي تعاقب عليها كثيرون، كان وجه الاستبداد الحقيقي، فهناك يكون الظلم عاريًا دون خجل، ويترك في الذاكرة ندوبًا لا تسقط ولا تُمحى، فالرجل يستذكر صور أبواب المعتقلات حين يرى في شوارع باريس، حيث يقيم، بابًا ما يشبهها.
وفي غيابة سجن “تدمر” الذي استقر به ليعايش نوعًا من السجون لا يشبه سجن “عدرا”، أو “كراكون الشيخ حسن”، اللذين استقطعا سنوات طويلة من عمره، لم يحلم راتب بأكثر من إخلاء السبيل، ومغادرة السجن، رغم الشعور بأن كل أجهزة الدولة ومؤسساتها تقف ضد المعتقل السابق، وأنه منبوذ من كل ما هو رسمي، لافتًا في الوقت نفسه إلى اكتسابه الشعور بالأمان بشكل أكبر وأكثر حضورًا في النفس بعدما غادر سوريا عام 2014.
وفُجّر سجن “تدمر” في أيار من عام 2015، على يد تنظيم “الدولة الإسلامية” بعد تفخيخه من الداخل والخارج بعشرات الأطنان من المتفجرات، لتنتهي على الأرض أسطورة أكثر السجون السورية رعبًا، وتمارس فعاليتها في نفس وذاكرة كل من نجا من ذلك المكان الذي شهد الكثير من المجازر، وكان أبرزها تلك التي وقعت في 27 من حزيران عام 1980، وقُتل فيها نحو ألف معتقل رميًا بالرصاص والقنابل اليدوية، في عهد حافظ الأسد.
وعن الدوافع التي تمضي بالمعتقل لكتابة الرواية، يرى أن المعتقل يكتب قصته ليرتاح أولًا، فالكتابة تجعل القراء شركاء بالهمّ، بالإضافة إلى كونها واجبًا وضرورة، فعدم نقل القصة والتجربة هو تخلٍ وانكفاء.
ويعتبر شعبو أن دور المثقف في الثورة وخارجها هو النقد المستمر، وأن كثيرًا من المثقفين وأصحاب التجربة مارسوا دورهم خلال الثورة، ولم يلتفتوا للخلاص الشخصي والفردي، مقابل آخرين لعبوا دورًا مسيئًا، حين تخلوا عن النقد لمصلحة تمجيد أشخاص أو كيانات أو سلطات معيّنة.
وبالحديث عمّا يمكن أن يُضاف إلى الرواية لو أُتيح ذلك، يبدي السجين الحر رغبة بتعريف ما أسماه “الدرس الديمقراطي لسجن تدمر”، في إشارة إلى إلغاء المسافات بين التهم السياسية، في زمان ومكان كان يُساق فيه المعتقلون محنيي الظهور، خائفين، معصوبي الأعين، تحت سطوة الكرابيج والركلات الحاقدة لا لسبب واضح، فالجميع في ذلك الكهف يتقاسمون التعذيب والوجع، بمعزل عن تهمهم السياسية، وتياراتهم الفكرية.
ويدعو شعبو إلى عدم نسيان المعتقلين أو القبول بالتحايل على قضيتهم وأهميتهم كأولوية إنسانية، كما يعتبر كل الطرق التي تسهم في إحياء قضية المعتقلين مناسبة، كونها تشكل جوهر القضية السورية، فتحرير المعتقلين خطوة نحو تحرير البلاد.
وذكرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في تقريرها السنوي التاسع، الصادر في حزيران 2020، أن نحو 130 ألفًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى قوات النظام، بالإضافة إلى 14 ألفًا و235 شخصًا قضوا تحت التعذيب على يد قوات النظام، منذ مطلع الثورة السورية في آذار 2011، وفي عام 2014، سرّب مصور عسكري سوري منشق يُلقب بـ”قيصر”، 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل قضوا تحت التعذيب في سجون النظام.
وقال شعبو، “رغم أن المعتقلين لا يشكلون خطرًا على النظام لو أفرج عنهم، فإنه يحتفظ بهم كي يشعر المجتمع بالعجز والذل”، وأكّد أن وجود الأبرياء في السجون ليس خطأ أمنيًا بمقدار ما هو سياسة أمنية تهدف لكسر إرادة المجتمع، واستجرار المزيد من الخضوع.
راتب شعبو الذي تحدّاه سجّانه أن يخرج من السجن ويكمل دراسته، خرج وتابع دراسة الطب البشري، ويقيم اليوم في فرنسا، وينتظر صدور روايته الجديدة التي تحمل اسم “باب صغير لعالم واسع” ليعبّر العنوان عن مكنون ما يأتي بعده.
–