“نعم، إن فاجعة الفقد أوسع من العبارة. وأكثر ما يقلقني من هذا التحدي أن يجد كاتب المراثي نفسه مضطرًا إلى الكدح البلاغي ومراودة الشعر العصيّ، فينشغل عن موضوعه بأسلوبه، وعن فقيده بلغته، وعن المرثي برثائه. وبدلًا من أن يتقدّم الراحل في وعيه ووجدانه ومخيلته، يتقدّم القارئ!”.
يحاول الكاتب الفلسطيني وليد سيف بكلماته هذه أن يبتعد عن التكلف في رثاء صديقه وشريكه في العمل المخرج السوري حاتم علي، إذ إن “أبلغ ما ينعى به مبدع كبير مثل حاتم علي هو استدعاء آثاره الباقية. وهي على كل حال حاضرة حية مذكورة بلا تذكرة”.
في رثائه لشريكه حاتم علي الذي نشره وليد سيف اليوم، الاثنين 4 من كانون الثاني، قال إن الشراكة الإبداعية “تتقوّم بالتفاهم والتكامل والاحترام المتبادل والنزاهة وتوقّي نزعة الاستحواذ”، وإن “النص الضعيف لا يستطيع إنقاذه مخرجٌ حاذقٌ مهما تكن موهبته. وفي المقابل، فإن الإخراج الهزيل يمكن أن يهبط بالنص الممتاز مهما يكن مستوى تميزه. فإذا اجتمع النص القوي مع الإخراج الفائق بلغ العمل غايته”.
“لا تعلنوا نهاية تاريخ الإبداع بنهايته”
أوصى سيف في رثائه جمهور المخرج حاتم علي بأن ينعوه بكل حب واحترام دون أن يعلنوا نهاية تاريخ الإبداع بنهاية حياة المخرج، و”ألا ينعوا المستقبل بنعيه، فللحياة طرقها في التجدد. وإنما يبقى إرث المبدعين في ورثتهم، كما تتولّد النصوص من النصوص، ويحرّض الإبداع على الإبداع”.
غاص السيناريست وليد سيف في التاريخ الإسلامي والعربي، وصنع بالشراكة مع المخرج حاتم علي أشهر الإنتاجات من الأعمال التاريخية التلفزيونية، التي تعتبر مصدرًا مؤثرًا لكل مهتم في سياق التاريخ الإسلامي.
اقرأ المزيد: حاتم علي الذي طوّع التاريخ والدراما لإحداث التغيير
الأسطورة الشعبية الفلسطينية شعرًا
تتعدد طاقات وليد سيف الإبداعية، وموهبته الفنية قادرة على أن تبرز في الأدب، والشعر، والمسرح، والدراما التلفزيونية.
وحضر اسم سيف شاعرًا في بداية تجربته في الكتابة على الرغم من قلة إنتاجه الشعري وانقطاعه عنه، إذ استدرجته الكتابة الدرامية التاريخية إلى ساحاتها، وبرزت شهرته بها.
ونشر وليد سيف تجربته الشعرية الأولى في صفحات المجلات، مثل “الأفق الجديد”، و”الآداب البيروتية”، وأصدر ديوانه الأول “قصائد في زمن الفتح” عام 1969.
وفي السبعينيات أصدر ديوانه الثاني بعنوان “وشم على ذراع خضرة” عام 1971، ثم انشغل بدراسته لنيل درجة الدكتوراه في لندن، وبعدها أصدر ديوانه الثالث “تغريبة بني فلسطين” عام 1979.
امتلكت أعمال سيف الشعرية الحس الجماعي بالمعاناة والهم العام الفلسطيني، خصوصًا تلك المتعلقة بطرح الأسئلة الإنسانية والوطنية والاجتماعية.
وهناك من الشعراء الذين يميلون لبناء رموز خاصة بهم، أي العمل على إعلاء النموذج الشعري ليصبح رمزًا بذاته، مثل تجربة الشاعر محمود درويش في قصيدته “أحمد الزعتر”.
ورغب وليد سيف في صنع رمزه الفلسطيني، من خلال الحكاية الجماعية والتركيز على بعدها الإنساني، ففي قصيدة “أعراس” في ديوانه “وشم على ذراع خضرة” تبرز الشخصيتان “خضرة وزيد الياسمين” كرمزين أسطوريين.
ولا تتمثل أهمية هاتين الشخصيتين في أنهما من إبداع وليد سيف فقط، وإنما في اقترانهما مع بعضها ليكونا أسطورة شعبية، وهذا ما فرض حضورهما وسيطرتهما على ديواني الشاعر الأخيرين.
ابتعاد عن الشعر وانطلاق الدراما
هجر وليد سيف الشعر وانصرف عنه، وتركز جهده الذهني على الكتابة الدرامية، فأنتج بالشراكة مع حاتم علي أفضل معالجة درامية تلفزيونية للقضية الفلسطينية، من خلال كتابته نص مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي أُنتج عام 2004 عبر 31 حلقة.
ولم تأتِ الحوارات التي دارت في قصة “التغريبة الفلسطينية” من فراغ، إنما هي ذاكرة كاتبها، المحملة بمعاناة أهل الخيام، وهو ابن طولكرم التي ولد فيها في عام النكبة 1948.
أبطال المسلسل هم أهل الأرض، وتلك القصة كانت تصوّر شخصياتهم وآمالهم وأسئلتهم الشخصية، وتفاعلهم مع تطور الأحداث السياسية التي ترسم مستقبلهم وتأثيرها عليهم.
“ولذلك تكرر كجزء من ردود الفعل عند الناس الذين شاهدوا العمل القول إن هذه الشخصية عمي وهذه الشخصية خالي وتلك الشخصية جدتي وهذا جدي”، بحسب ما قاله وليد سيف، وهو يسرد، في لقاء تلفزيوني له، كيفية شروعه في كتابة المسلسل، الذي يعتبر أشهر ما أنتجته الدراما العربية في معالجتها للقضية الفلسطينية، إذ تفتقر الشاشة العربية الصغيرة إلى مثل هذه الأعمال بشأن قضية فلسطين.
ويتناول المسلسل قصة عائلة فلسطينية فقيرة، تكافح من أجل البقاء في ظل الاحتلال البريطاني ثم الثورة الفلسطينية، وفي خيم اللجوء بعد “النكبة”، إذ تلخص الأحداث التي مرت بها هذه الأسرة حقبة تاريخية مهمة في المأساة الإنسانية للفلسطينيين امتدت ما بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي.
“الماضي هو الآن”
استلهام طموح الشخصيات التاريخية للتعويض عن إحباط الحاضر، كان أبرز ما وظفه وليد سيف في أعماله التلفزيونية ضمن شراكته مع المخرج حاتم علي، مثل مسلسل “صقر قريش” الذي ألفه سيف، ضمن سلسلة “ثلاثية الأندلس”، وهو يتحدث عن حياة الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل في الأندلس، وما قدمه للدولة الإسلامية من خدمات مهمة جعلتها أقوى دولة في العالم حينها.
وكتب وليد سيف مجموعة من المسلسلات التي أخرجها حاتم علي، أبرزها “ثلاثية الأندلس” و”التغريبة الفلسطينية” و”صلاح الدين الأيوبي” و”عمر”.
ويعتقد وليد سيف أن الماضي لا ينفصل عن الحاضر، والحاضر لا يستقل عن الماضي، لأن “الماضي هو الآن” والحنين إلى الماضي شهادة على حال الحاضر، “فما الذي يغرينا باستدعائه وتغليفه بهالة رومانسية لم تكن تحيط به في وقته حين كان حاضرًا! لماذا نصفه دائمًا بالزمن الجميل الطيب المضيء، وكأننا نقيم الحجة على حاضرنا المغاير”، بحسب كتابه “الشاهد المشهود” الذي وثق فيه سيرته الذاتية.
وفي معالجته الدرامية للتاريخ الإسلامي، تظهر فلسفة وليد سيف بأن الحاضر غير معصوم عن الوعي والتفكر في القيم التي رسخت في تجارب الشعوب بالماضي، بلغة درامية لا تتميز بزخارف لفظية وإنشائية، إنما الجماليات الأدبية الحقيقية تنتج من طبيعة الموقف الدرامي وصراعاته، وتوظف في خدمة التأثير المنشود منه بشكل طبيعي لا تكلف فيه، لأن الحوادث الدرامية التاريخية تحاكي الحياة الواقعية، وما فيها من مواقف وعلاقات إنسانية، فلا ينبغي أن تكون مجموعة من النصوص الإنشائية والنثر الشعري مركبة على شخصيات العمل الدرامي، ومقحمة على الحوارات الدرامية خلال العمل التلفزيوني.
تتميز أعمال وليد سيف التاريخية في الدراما، بأنها مشبعة بالفلسفة ومحملة بتأملات كاتبها وتصوراته عن الوجود والتاريخ والسياسة والدين والحب وغيرها من الأفكار الإنسانية.
–