عنب بلدي- صالح ملص
بعد سيطرة قوات المعارضة السورية في آذار عام 2013 على مدينة الرقة شمال شرقي سوريا، غادرها رئيس فرع المخابرات العامة السورية (335) في المدينة، “خالد. ح”، متجهًا سيرًا على الأقدام إلى تركيا.
وفي نيسان من العام نفسه، سافر “خالد. ح”، الذي عمل في المخابرات السورية من عام 2009 حتى 2013، إلى الأردن، حيث طلب من السفارة الفرنسية هناك الحصول على تأشيرة، وتمكن من السفر إلى فرنسا بطائرة.
أقام في فرنسا لمدة عام، وبعد استجوابه الأول، اشتبهت سلطات اللجوء هناك باحتمالية ارتكابه انتهاكات ضد حقوق الإنسان خلال عمله في سوريا.
ووفقًا للجدول الزمني لأحداث هروب “خالد. ح”، الذي نشره تحقيق موقع “كورير” النمساوي الصحفي، ظهر “خالد. ح” عام 2015 في النمسا بعد أن حصل على حق اللجوء فيها، وعلى جواز السفر التقليدي، وهو جواز سفر يمكن أن يطلبه الأشخاص الذين حصلوا على حق اللجوء في النمسا ويسمح لهم بالسفر دوليًا.
ويُزعم أن لجوء “خالد. ح” كان مدبرًا من قبل مكتب حماية الدستور ومكافحة الإرهاب النمساوي، بالتنسيق مع ممثلين رفيعي المستوى من “الموساد” الإسرائيلي، وفقًا لتحقيق “كورير”.
سُميت العملية النمساوية- الإسرائيلية بشأن تهريب “خالد. ح” باسم “الحليب الأبيض”، وهو الاسم الرمزي الذي أُطلق على “خالد. ح” ضمن مراسلات طرفي العملية، دون معرفة سبب هذه التسمية.
في كانون الثاني 2016، تسلمت وزارة العدل النمساوية رسالة من “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” (CIJA) أبلغتها فيها اللجنة عن مخاوفها بشأن ضلوع “خالد. ح” في ارتكاب “جرائم حرب” في سوريا، وحينها كشفت المخابرات النمساوية قضية “الحليب الأبيض” للأمن العام.
في تموز من عام 2017، أصدرت السلطات الفرنسية تعميمًا باسم “خالد. ح” عن طريق “اليوروبول”، بخصوص مزاعم موثقة بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”.
في تشرين الأول عام 2018، أنهى مكتب حماية الدستور ومكافحة الإرهاب تعاونه مع السلطات الإسرائيلية الشريكة بقضية “الحليب الأبيض”، وفي الوقت نفسه أصدرت الشرطة الجنائية الفيدرالية (BKA) في النمسا طلبًا سريًا للتحقيق في مكان وجود “خالد. ح”، وبعدها بشهر واحد اقتحم ضباط الشرطة الجنائية الفيدرالية في النمسا شقة ضابط المخابرات في فيينا، ولكنه لم يكن موجودًا فيها.
سيأتي دوره
تعمل المنظمات الحقوقية السورية والدولية، من بينها “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” و”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، على تطبيق العدالة لضحايا انتهاكات النظام السوري ضد حقوق الإنسان، وخروقاته للقانون الإنساني الدولي، وذلك داخل المحاكم الأوروبية، خصوصًا في ألمانيا والسويد وفرنسا.
وفي نيسان من عام 2020، ضجت وسائل الإعلام السورية والدولية والمنظمات المعنية بدعم حقوق الإنسان ببدء محاكمة مسؤولَين سوريَّين في مدينة كوبلنز غربي ألمانيا، بتهمة ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية داخل مراكز اعتقال تابعة لحكومة النظام بدمشق.
إلا أن قضية “الحليب الأبيض” لم تلقَ نفس الزخم الإعلامي الكبير مقارنة بقضية “كوبلنز”، على الرغم من أن “خالد. ح” أعلى رتبة، ويتمتع بنطاق مسؤولية أوسع من المتهمين اللذين تجري محاكمتهما حاليًا.
لكن المقارنة بين القضيتين غير مجدية في الوقت الحاضر، نظرًا إلى توفر الأدلة بشكل محدود في قضية “خالد. ح”، وفق ما قاله المدير التنفيذي لـ“المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، في حديث إلى عنب بلدي.
ويأتي سبب أخذ قضية “كوبلنز” تغطية إعلامية كبيرة، لأنها أول محاكمة من نوعها في العالم ضد انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
و”لم يتم توقيفه (خالد. ح) بعد”، وبالتالي لم تصل قضية “الحليب الأبيض” إلى القضاء النمساوي كي يتم الحديث عنها بشكل تفصيلي وواضح وعلني إلى وسائل الإعلام، مثلما حدث في نيسان عام 2020 بشأن قضية “كوبلنز”.
وأكد البني أن المنظمات الحقوقية السورية في أوروبا “تتابع القضية (الحليب الأبيض)، وسيأتي دوره للمساءلة، ولكن هذا يحتاج إلى وقت طويل لتجميع القرائن والتحقق من إفادة الشهود لدى المدعي العام”.
ظروف القضيتين مختلفة
الاهتمام الذي أثارته قضية “كوبلنز” كان له أسبابه، وتتعلق بشكل أساسي بتحرك السلطات القضائية الألمانية، والتحقيق المشترك الألماني- الفرنسي الذي أدى إلى إلقاء القبض على المتهمين لاحقًا، بحسب ما قاله مدير التقاضي الاستراتيجي في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، المعتصم الكيلاني، لعنب بلدي، بينما لم يتحرك القضاء النمساوي في سياق قضية “الحليب الأبيض”.
كما أن وجود الضحايا والشهود في ألمانيا وفرنسا لعب دورًا مهمًا في تمكين المدعين من رفع دعوى أمام القضاء الألماني لإدانة المتهمين، و”الفرع 251 معروف نسبيًا لدى السوريين أكثر” بالمقارنة مع عمل “خالد. ح” في الرقة، ووجوده لاحقًا في تركيا، وفقًا لما يراه الكيلاني.
ومع أن القضيتين تشيران إلى متهمين بـ”جرائم حرب” لكن الظروف مختلفة، وشروط تطبيق مبدأ “الولاية القضائية العالمية” وتعاون السلطات النمساوية في هذا الخصوص أيضًا مختلف، وفق الكيلاني، عدا عن السياق الزمني لوجود المشتبه بهم على الأراضي الوطنية لدولة المحكمة الناظرة في الدعوى، وهو ما يعتبر أمرًا مهمًا في تحديد القرائن القانونية لكل قضية.
وبعد اختفاء “خالد. ح” في النمسا، فإن “آخر المعلومات التي وصلتنا أنه كان في إحدى الدول العربية”، وفق ما قاله الكيلاني.
وتطورت جهود محاسبة مرتكبي “جرائم الحرب” في سوريا نسبيًا بين عامي 2015 و2019، وفق وجهة نظر الكيلاني، وذلك بمجهود المنظمات الحقوقية السورية، و”هذا يدل على السياق الزمني، والإمكانيات المتاحة للمنظمات الحقوقية وخبرتها في مجال المحاسبة في أوروبا بشكل خاص، الذي تطور عما كان في 2015″.
وكي تصل أي قضية إلى أبواب القضاء في أوروبا، تبدأ أولًا بالتحقيقات الأولية فيما يخص المشتبه بارتكابهم انتهاكات ضد حقوق الإنسان، بحسب ما أوضحه الكيلاني، ثم يتم العمل على بناء ملف قانوني متكامل يتضمن العديد من الأدلة ذات القيمة القضائية، بما فيها من مواد مرئية ومصوّرة وشهادات، وصولًا إلى التحقيق الهيكلي الذي يقوده القضاة، وإصدار مذكرات التوقيف، وإحالة الملف من قاضي التحقيق إلى قاضي الموضوع، والقيام بالمحاكمة بحقه لإدانته في نهاية الأمر.
وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في هذا السياق، فيما يتعلق بالشكاوى الفردية وتدخّل أطراف ثالثة في دعوى بين الجاني وضحاياه، بما فيها الأطراف المدنية في الشكاوى والدعاوى، ووجود المشتبه بهم على الأراضي الوطنية لدولة القاضي، بالإضافة إلى الأسئلة التي تواجهها المنظمات الحقوقية خلال عملها بشأن ما إذا كانت الشكوى مقبولة أمام القضاء في بلد معيّن أم لا، واحترامها كل الشروط القضائية والقانونية للنظر في الدعوى.
القرائن المستخدمة في المحاكمات
كل قضية تختص المحاكم الأوروبية بالنظر فيها وتتعلق بملف حقوق الإنسان في سوريا، تحمل كمًا كبيرًا من القرائن القانونية التي تمهد لرفع الدعوى والملاحقة القضائية للمشتبه بارتكابه “جرائم حرب” داخل سوريا.
وتقدم هذه الإثباتات والقرائن القانونية للمدعي العام في المحكمة بصورة أدلة يقينية، وتقارير صادرة عن جهات مخولة وظيفيًا ومهنيًا ومكلفة قانونيًا، بموجب القواعد الإجرائية وقواعد الإثبات الدولية، وتؤكد أن هذه الجرائم قد اُرتكبت فعلًا من قبل أفراد تابعين إداريًا لحكومة النظام السوري أو غيره من مرتكبي الانتهاكات على الأراضي السورية.
ومن الأدلة التي يستند إليها المدعي العام:
1- الصحافة والإعلام، ومن ضمنها المقاطع المسجلة التي تحمل أدلة حقيقية، والوثائق الرسمية الصادرة عن الجهة المتهمة، وشهادات شهود العيان، بالإضافة إلى صور “قيصر” المسربة، وتحديد الأشخاص المرتكبي الجرم إن أمكن، وما إذا كانوا فعلًا من الأفراد التابعين للنظام أم لا، والقصد من ذلك أن تصل الأدلة إلى حد اليقين في جرائم الاعتقال وجرائم القتل تحت التعذيب، وممارسات الأجهزة الأمنية وأقبيتها.
2- يجب أن تكون قواعد الإثبات المقدمة للمحكمة مقبولة قانونيًا، وذات مصداقية وليست قولًا مرسلًا.
3- تقارير موظفي الأمم المتحدة الذين يتمتعون بمصداقية وحصانة، والذين توجد ثقة بتقاريرهم المقدمة للأمم المتحدة وفقًا لاتفاق 1946، المتعلق بامتيازات موظفي الأمم المتحدة وحصانتهم، وكذلك ما يتعلق منه بتزويد المحكمة بالمعلومات التي تحتاج إليها لاستكمال إجراءات التحقيق وجمع الأدلة.
4- تثبيت الوقائع المذكورة في تقارير الأمم المتحدة وتوثيقها من خلال النائب العام لدى المحكمة، وتزويده بالوثائق والمعلومات الواضحة للاتهام، ويجب ألا يحتمل توثيق الوقائع أي خطأ إجرائي ضمن الملفات من قبل الأمين العام للأمم المتحدة والمنظمات التابعة له.
ما “جرائم الحرب”
“جريمة الحرب” هي بمثابة عمل غير مشروع، صادر عن فرد باسم دولة أو برضاها أو بتشجيع منها، ويكون منطويًا على المساس بمصلحة دولية يحميها القانون الدولي.
وبموجب المادة رقم “6” من ميثاق محكمة نورمبرغ لمحاكمة “كبار مجرمي الحرب النازيين”، فإن “جريمة الحرب” هي “الأفعال التي تشكل انتهاكًا لقوانين وأعراف الحرب الدولية”، وتتضمن القتل العمد (مع الإصرار)، والمعاملة السيئة للمدنيين وإقصاءهم وتسخيرهم في الأعمال الشاقة، وقتل الأسرى عمدًا، وإعدام الرهائن أو نهب الأموال العامة أو الخاصة، وتهديم المدن والقرى من دون سبب، أو الاجتياح إذا كانت الضرورات العسكرية لا تقتضي ذلك.
وتلك التصرفات تخالف أحكام المادة رقم “147” من اتفاق “جنيف الرابع” لعام 1949، وتندرج ضمن المخالفات الجسيمة للقانون الدولي أفعال التعذيب والمعاملة غير الإنسانية المتعمدة والإضرار بصحة المعتقلين.
وبموجب بيان “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، فإن “خالد. ح” ضالع في “جرائم ضد الإنسانية”، والتعذيب، والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، و”جرائم حرب”.
و”بحسب شهود عيان، فإن )خالد. ح) الذي كان عميدًا، لم يكن على علم بارتكاب هذه الجرائم فحسب، بل وشجع مرؤوسيه على استخدام العنف وتعذيب المعتقلين”، وفق بيان المركز.
هل تجفف النمسا “الحليب الأبيض” المسكوب على العلن؟
من الواضح خلال النزاع المسلح في سوريا أن القانون لم يكن رادعًا لأي جهة من الجهات المتنازعة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لن تكون هناك محاسبة لمرتكبي الانتهاكات ضد حقوق الإنسان التي أصبحت متراكمة على مدار عشر سنوات منذ بداية الاحتجاجات في سوريا عام 2011، ولا تزال تلك الانتهاكات مستمرة حتى الآن.
وظهرت إلى العلن أمام الرأي العام النمساوي تفاصيل عملية “الحليب الأبيض” بعد تقارير “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” (CIJA) في عام 2016، التي أبلغت القضاء النمساوي بضلوع “خالد. ح” بجرائم ضد الإنسانية خلال عمله في سوريا، وبعدها أصدر أعضاء من البرلمان هناك استجوابًا رسميًا لوزير داخلية بلادهم بشأن عملية “الحليب الأبيض”، تركز بشكل أساسي على رغبتهم بمعرفة تكاليف العملية، والتهديدات التي قد يتعرض لها النمساويون بسبب إقامة متهم بـ“جرائم حرب” على أراضيهم، والضرر المحتمل الذي قد يلحق بسمعة النمسا دوليًا في مجال حماية حقوق الإنسان، خاصة إذا كان منح اللجوء إلى النمسا يمكن أن يحتمل صفقات سرية تُخالف القانون الدولي.
وفي بيان لها، دعت “مبادرة العدالة للمجتمع المفتوح” الحكومة النمساوية إلى تسريع جهودها للتحقيق مع المشتبه بهم في “جرائم الحرب” على أراضيها ومحاكمتهم، “كي لا تكون النمسا ملاذًا آمنًا” لضباط في المخابرات السورية.
وحثت المبادرة في بيانها المنشور في موقعها الرسمي، وزارة العدل النمساوية على تقديم الدعم الكافي لهذه التحقيقات، من خلال توفير الموارد اللازمة والموظفين المناسبين لإتمام تحقيق سريع وفعال، وإنشاء وحدة ادعاء متخصصة للتحقيق في تلك الجرائم، ومقاضاة مرتكبيها بموجب القانون الدولي لتسهيل عملية الإدانة.
وضمن البيان، قالت المستشارة القانونية في “المركز الأوروبي لحقوق الإنسان” تاتيانا أوردانيتا ويتيك، إن “نظام العدالة النمساوي لا يزال بطيئًا في الانضمام إلى المعركة العالمية لمحاسبة الجناة بموجب القانون الدولي، على الرغم من أن لديه الأدوات القانونية للقيام بذلك”، وأرجعت التأخير في مقاضاة الجناة إلى نقص الموظفين والتمويل في مجال القضاء النمساوي.
وبطء إعداد التحقيقات النمساوية مع المشتبه بهم بانتهاكات حقوق الإنسان يقوّض آمال السوريين في جهودهم لتحقيق العدالة لقضيتهم، وفق البيان.
وحماية النمسا بهذه الطريقة لـ“خالد. ح” يُعد انتهاكًا لالتزامات حكومتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية “مناهضة التعذيب“، التي تعتبر النمسا دولة طرفًا فيها.
وتدرك السلطات النمساوية أن الدول الأطراف مطالبة بمقاضاة أو تسليم مرتكبي التعذيب المزعومين عندما يتم العثور عليهم في أي إقليم يخضع لولايتها القضائية، كما تطالب المادة رقم “14” من الاتفاقية الدول الأطراف من خلال نظامها القانوني بضمان إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب، وتمتعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب، بما في ذلك وسائل إعادة تأهيله على أكمل وجه ممكن.
وإلى جانب المسؤوليات القانونية وانتهاكات القوانين، تثير عملية “الحليب الأبيض” الخوف وانعدام الثقة بين اللاجئين السوريين وبين المؤسسات الحكومية النمساوية، وناشطي حقوق الإنسان والمحامين السوريين الذين يعملون من أجل العدالة والمساءلة في أوروبا.
وتعتبر الملاحقات القضائية، والتحقيقات التي تجريها الوحدات المتخصصة بمراقبة “جرائم الحرب” في المنظمات الحقوقية السورية والأوروبية، فرصة لتوفير الأطر القانونية المتكاملة لتنظيم سياسات اللجوء داخل القارة الأوروبية، لأنها تسهم في تسليط الضوء قضائيًا وإعلاميًا على الانتهاكات في سوريا، وتضع المعنيين في أوروبا بوضع وتنفيذ سياسيات اللجوء في مشهد الأحداث داخل سوريا، وذلك من خلال القرائن القانونية.
كما تعتبر المحاكمات القائمة في أوروبا للنظر في الجرائم المرتكبة في سوريا عاملًا مهمًا لطمأنة الضحايا وعائلاتهم من بين اللاجئين، فمن خلال القضايا المعروضة على المحاكم الأوروبية، برزت أدلة على اختباء بعض المشتبه بهم في ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان في سوريا ضمن طالبي اللجوء الحقيقيين.