لمى قنوت
تقدم إرادة الشعوب نماذج مذهلة في إعادة إعمار مدن دمرتها الحروب والنزاعات المسلحة والكوارث، وتجتهد مدن لتنال تصنيفها كـ”مدن ذكية”، و”مدن من أجل حقوق الإنسان”، و”مدن إبداعية”، في حين يتفنن نظام الاستبداد في سوريا بمنع أو إعاقة عودة من نزحوا من مدنهم وبلداتهم طوعًا أو قسرًا، عبر فرض شروط محددة، مثل الحصول على موافقة أمنية، وتعهد خطي من مالكي العقارات بإخلاء المساكن والأراضي الزراعية بشكل طوعي حال صدور أي مخطط تنظيمي لاحقًا، بالإضافة إلى عرقلة مبادرات فردية وجماعية للسكان بهدف إعادة تفعيل أو ترميم بعض الخدمات الصغيرة، وتصليح بيوتهم أو إعادة بنائها، كساكني مدينة حرستا في ريف دمشق على سبيل المثال.
إن الفرق بين عرقلة المبادرات المجتمعية وحشدها كـ”هبة وطنية توحيدية“، كما وصفت المهندسة المعمارية يوانا لاسير الجهود المواطنية لإعادة إعمار وارسو، يماثل الفرق بين الهندسة المعمارية الفاشية وهندسة مدن من أجل حقوق الإنسان.
دور الأفراد والمجتمعات في بعض تجارب إعادة الإعمار
يقودنا الدور المركزي للأفراد والمجتمعات في إعادة الإعمار إلى بعض التجارب المهمة للاستفادة منها، مثلًا، مدينة وارسو عاصمة بولندا، التي شهدت غزوًا وتدميرًا عدة مرات، لكن التدمير المنهجي الأكبر للمدينة ولتراثها الثقافي، الذي يقدر بـ84% من النسيج العمراني، تم خلال الحرب العالمية الثانية، وبسبب توقع الهجوم النازي على المدينة، عمل السكان والمجتمع المدني قبل وفي أثناء الحرب على توثيق العمارة وإخفاء المخططات الوثائقية لمدينة وارسو التاريخية، بالإضافة إلى نقل القطع الفنية إلى أماكن آمنة خوفًا عليها من النازيين.
وكنوع من المقاومة الصامتة للاحتلال، وبعد انتهاء الحرب، تم إخراجها واستخدامها لإعادة بناء المدينة المدمرة كما كانت وطبق الأصل، واستعانوا أيضًا بصور الأرشيف وشهادات الناس، واستخدموا حجارة الأنقاض القديمة حفاظًا على هوية المدينة والذاكرة الجمعية للسكان، فاستحقت المدينة لقب “المدينة التي لا تقهر”، وسجلت على قائمة “يونسكو” للتراث العالمي، وسجل أرشيف مكتب إعادة بناء وارسو في سجل ذاكرة العالم عام 2011.
نساء الأنقاض
ومن التجارب المهمة أيضًا، الدور التطوعي للنساء الألمانيات في إزالة الأنقاض من الشوارع والأبنية، واستخراج الحجارة السليمة منها لإعادة استخدامها في البناء مرة أخرى، وذلك بعد أن خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية مدمرة ومهزومة، كما عملن في المصانع التي لم تدمرها الحرب، وشاركن مع اللاجئين الوافدين في إعادة البناء ضمن ظروف عمل قاسية وشاقة، وأصبح دور ما سمي بـ”نساء الأنقاض” جزءًا من الذاكرة الجمعية الألمانية، وخُلّدن في العديد من التماثيل والنصب التذكارية، وأدى دورهنّ الرائد في إعادة البناء إلى تغيير في مكانتهنّ الاجتماعية والحصول على حقوقهنّ.
لقد كان للسكان والمجتمع المدني الألماني دور ومساحة واسعة في إعادة إعمار مدنهم وإحياء حواضرها، ضمن سياسة لامركزية، بسبب غياب حكومة تمول وتوجه إعادة الإعمار، أما خطة “ماريشال” فلم تبدأ إلا في أواخر 1948- 1949، وموّلت من خلالها إعادة بناء الاقتصاد دون إعمار المدن، باستثناء إنفاق بعض المال على إعمار برلين الغربية لأسباب سياسية، ويسجل للمجتمع الألماني رفضه عددًا من مشاريع تغيير المدن التي كان يرغب بتنفيذها المخططون، فحافظوا في العديد منها على تراص الأبنية وخصوصية الأحياء.
يُعتبر دور الأفراد والسكان والمجتمع المدني من أحد أهم الفاعلين في إعادة الإعمار، فهو لا يقل أهمية عن دور الدولة والسلطات المحلية والقطاعين الخاص والعام والدعم الدولي، ويؤدي تكامل هذه الأدوار إلى النجاح في إعادة الإعمار والسرعة في تخفيف المعاناة الإنسانية، لكنّ “نصر” نظام الاستبداد على الشعب، أو على جزء منه، وإدمانه على انتهاك الكرامة الإنسانية، يقوّض كل الأدوار ويقمعها، إلا إذا كانت تخدم بنيته الاستبدادية وتعلي داعميه، ففي مسألة العقارات مثلًا، يجري تغيير واسع في بنيتها القانونية، في ظل غياب المحاسبة والمساءلة، فيستخدم ملف العقارات لإرضاء المتنفّذين الذين ليس لديهم وصول كبير إلى المال العام لنهبه، وعليه، تعلو أصوات المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان للتأكيد على أهمية محاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات، محذّرين من أن يسبب العمل التجاري انتهاكًا لحقوق الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر، أو/ وأن يطمس الانتهاكات والجرائم، وأن يستمر الاستيلاء على ممتلكات اللاجئين والنازحين والمعتقلين والمختفين قسريًا، نساءً ورجالًا، بشكل مباشر، أو عبر سنّ قوانين مسيّسة تهدف إلى استمرار عقاب المهجرين قسريًا.
–