على مسافة نحو 20 كيلومترًا جنوبي مدينة طرطوس تقع قرية الحميدية، وهي قرية وناحية تتبع لمحافظة طرطوس الساحلية المطلة على البحر المتوسط، يشكل اليونانيون المسلمون أغلبية سكانها، وهم أقلية قدمت من جزيرة كريت، أكبر الجزر اليونانية، إبان الحرب التركية- اليونانية أواخر العهد العثماني.
وتعد جزيرة كريت خامس أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، تطل على بحر إيجة من جهة الجنوب، وهي جزيرة مستطيلة الشكل، طولها بين الغرب والشرق 255 كيلومترًا، ويبلغ أكبر عرض لها 50 كيلومترًا، وتبلغ مساحتها 8331 كيلومترًا، عاصمتها خانيا.
في الفترة بين عامي 1897 و1898، أسس يونانيون مسلمون في الأصل، قدموا من جزيرة كريت العثمانية إلى سوريا ولبنان بسبب الحروب والخلافات الدينية، حياتهم الجديدة في البلدين المضيفين، مع تقسيم المنطقة إلى دولتي سوريا ولبنان.
وأعاد السلطان العثماني الأخير عبد الحميد الثاني توطينهم في قرى ساحلية على البحر المتوسط في البلدين، بعد خسارة العثمانيين الجزيرة لمصلحة اليونان في أثناء الحرب التركية- اليونانية.
وسمح السلطان العثماني لهم ببناء مساكن في قرية الحميدية التابعة لمدينة طرطوس، والتي سميت باسمه، وفي مدينة طرابلس اللبنانية، بحسب ما تشير إليه الأبحاث والدراسات التاريخية.
حفاظ على اللغة
في غياب الإحصائيات الرسمية عن أعداد اليونانيين من سكان قرية الحميدية، يقدر “المكتب المركزي للإحصاء” في سوريا العدد الإجمالي لسكان القرية بـ11 ألف نسمة، وفقًا لأرقام عام 2007.
بينما تقدر دراسة للباحثة والأستاذة المشاركة في قسم تربية الطفولة المبكرة بجامعة “سالونيك” اليونانية رولا تساكاليدو، أعداد الأقلية اليونانية بثلاثة آلاف نسمة من مجموع سكان القرية.
تستعرض الباحثة في دراستها بعنوان “مقاطعات متحدثة باليونانية في لبنان وسوريا” المقاطعات الرئيسة الناطقة باللغة اليونانية في لبنان وسوريا، وتركز على المجموعة المسلمة الناطقة باللغة على حدود البلدين، والتي تنتمي إلى أصول “كريتية”.
ويستمر سكان القرية الناطقون باليونانية، بعد 100 عام من الإقامة في المناطق الساحلية بمدينة طرابلس اللبنانية وقرية الحميدية السورية، والمقدرة أعدادهم بعشرة آلاف نسمة، منهم ما يقارب من سبعة آلاف في لبنان، باستخدام لهجتهم “الكريتية” على الرغم من أنهم من الجيل الثالث إلى الخامس من المهاجرين، بحسب الباحثة.
اعتمدت الباحثة على أبحاث سابقة، وقالت إن سكان الحميدية يتحدثون اللغة اليونانية فقط عند تعاملاتهم مع بعضهم، بينما يتعلمون اللغة العربية فقط في المدارس، مشيرة إلى إتقانهم اللغة اليونانية المحكية، لكنهم أميون في قراءتها وكتابتها.
وعزت الطلاقة في المحادثة إلى “التقاليد القوية” في استخدام اللغة اليونانية المحكية، بينما أرجعت أسباب الأمية في القراءة والكتابة إلى غياب المدارس اليونانية، نتيجة رفض السلطات اليونانية للأقلية التي هاجرت إلى سوريا ولبنان.
وأشارت إلى أن إجادتهم اللغة اليونانية المحكية، وخاصة اللهجة “الكريتية”، جيدة بشكل ملحوظ، كما أنهم يحافظون على تواصلهم مع اليونان وجزيرة كريت عبر التلفاز وأقاربهم الموجودين في الجزيرة.
ويتمتع سكان القرية من الأصول اليونانية بعلاقات “ممتازة” مع السكان العرب، وفقًا للدراسة المعتمدة على مقابلات مع أهل القرية، ويحافظون “بوعي” على العادات والتقاليد التي جلبها أسلافهم معهم من جزيرة كريت، وخاصة ممارسة الزواج الأحادي (شكل من أشكال العلاقة الثنائية حيث يكون للفرد شريك واحد فقط خلال حياته، عكس تعدد الزوجات)، وممارسة الموقف النقدي تجاه حرمان الفتيات المسلمات من التعليم.
وعلى الرغم من أن “الكريتيين” في طرابلس والحميدية لا يزالون مهتمين بشدة بأصولهم اليونانية، فهم محرومون من فرصة تحسين لغتهم اليونانية من خلال رحلات منتظمة إلى بلدهم الأصلي، بحسب الباحثة تساكاليدو، التي اقترحت تشجيع الهيئات الرسمية اليونانية على الاعتراف بالمجتمعات كجزء من الشتات الناطق باليونانية، على الرغم من الحواجز الدينية، وذلك على المستوى الاجتماعي والسياسي.
إذ إن ذلك سيؤدي إلى تمكين أفراد المجتمعات من زيارة أقاربهم في اليونان بحرية أو المشاركة في برامج التبادل أو الاستضافة المقدمة إلى المجتمعات الأخرى الناطقة باليونانية في العالم، وستحصل اليونان على مزيد من الوصول إلى البلدان المجاورة، ويمكن أن يؤدي الاتصال بين الهيئات اليونانية الرسمية والمنطقة إلى العديد من النتائج الإيجابية الأخرى من حيث التجارة والتمويل لجميع البلدان المعنية.
كما اقترحت، على مستوى التعليم، دعم جهود المجتمعات للحفاظ على لغتهم الثانية من خلال المساعدة في تطوير برامج التدريس المناسبة.
التوزع في سوريا
لا يقتصر الوجود اليوناني في سوريا على مدينة طرطوس، إذ تتوزع الأقلية اليونانية على عدة مدن، أبرزها مدينتا دمشق وحلب.
واستقر القادمون من جزيرة كريت إلى جانب مهاجرين من أتراك وشركس وآخرين في منطقة سفح جبل قاسيون من الجهة الغربية، التي كانت تعرف باسم “تحت الردادين”، وسُميت فيما بعد باسم حي “المهاجرين”، الذي يعد اليوم أحد أهم أحياء العاصمة السورية دمشق.
وجد اليونانيون أنفسهم لاجئين في سوريا في عدد من الأحداث التاريخية، إذ فر ما يقارب 17 ألف يوناني من “كارثة آسيا الصغرى” إلى مدن مختلفة في سوريا، بعد الحرب اليونانية- التركية بين عامي 1919 و1922 والتبادل الإجباري للسكان.
وفي عام 1939، في أثناء ضم لواء إسكندرون إلى الأراضي التركية، فر نحو 12 ألف يوناني إلى دمشق وحلب، وانضموا إلى المجتمعات اليونانية الموجودة هناك.
واستخدم 20 ألف يوناني، معظمهم من الجزر، طريق المهاجرين الذي سلكه اليوم آلاف اللاجئين وهم يشقون طريقهم إلى شواطئ تركيا ثم إلى اليونان، بشكل عكسي، من أجل الهروب من الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، بحسب ما نشرته منظمة “Perichoresis” اليونانية غير الحكومية، وهي منظمة أُسست عام 2016، وتعمل تحت رعاية المجمع العام للكنيسة الإنجيلية في اليونان.
–