الرحمة المفقودة

  • 2020/12/27
  • 9:35 ص

إبراهيم العلوش

يهلّ عيد الميلاد المجيد وعيد رأس السنة الميلادية وسط تجاهل عالمي لأوضاع اللاجئين السوريين، ووسط صمت الدول عن صيحات المعتقلين، ووسط الجوع والبرد واستمرار الدمار، فهل كُتب على البلد الذي عاش فيه المسيح وحواريوه كل هذا العذاب وكل هذه الدروب الشائكة.

رسالة المسيح كان عنوانها المحبة والتسامح، بينما رسالة الأسد وروسيا وإيران و”داعش” وبقية المحتلين هي المزيد من القتل والقصف والاستهتار بكرامة السوريين وبحقوقهم التي صارت مجال تجاهل وتلاعب، ولم يعد للإنسانية من عنوان في سوريا التي لطالما كانت عنوانًا للسلام والمحبة.

لم تكن “داعش” و”النصرة” هما الوحيدتين اللتين تلاعبتا بالدين من أجل استغلاله في تسويق نفسهما، بل إن إيران استعملت الحسين وآل البيت وسيلة لاستمرار نظام التعذيب والتهجير الذي اعتمدته في سوريا مع نظام الأسد، وكذلك الروس استغلوا المشاعر الدينية، ففي أول ظهور علني لهم في سوريا، ظهر رجل دين يبخّر طائرة روسية في قاعدة “حميميم” قبل أن تبدأ بقصف المستشفيات والأسواق الشعبية والمدارس.

في مثل هذه الأيام، كل سنة كنا نزور جيراننا المسيحيين في الرقة، ويتشارك أطفالنا مع أطفالهم بهجة الأضواء والهدايا رغم اختلاف الدين، ولم يكن في الأمر بيننا مجال للنقاشات والمماحكات الدينية، بل هو مجال للقبول بالآخر واحترام معتقده والمشاركة في فرحته لتعم في البناية التي كنا نسكنها أجواء التفاهم والفرح.

اليوم في سوريا صار استغلال الدين والمذهب هو المجال المفضل للحرب وللبحث عن الدعم والتمويل، فالنظام يحاول احتكار العلويين والدروز والمسيحيين وتخويفهم من بقية السوريين، والإيرانيون ينافسونه على استعادة العلويين وتحويل ولائهم لطهران، والروس يعتبرون أن المسيحيين السوريين ملك يمينهم بلا نقاش، والأتراك يرقّعون ما تبقى من مفاهيم الدولة العثمانية لاحتواء السنّة وانضوائهم تحت الإرادة التركية.

كل الأطراف تحاول العودة بالسوريين إلى الماضي، فلا مكان للسوريين في الحاضر ولا في المستقبل كما تؤكد التنظيمات الإسلامية، وكما تؤكد دول الاحتلال، والنظام يصرّح علنًا برسالته التي يخطب فيها ودّ العالم بأن السوريين غير مؤهلين للكرامة والحرية، وهم مجرد أقوام وطوائف مستعدة للتناحر حتى الموت، وقد أفلح النظام نسبيًا في تسويق رسالته إلى درجة أن بعض الدول بدأت بإعادة تأهيل الأسد كأداة لترويض السوريين ريثما يتم ابتكار نظام جديد لإعادة تصنيع الأفكار والمبادئ التي تحافظ على مصالح الدول الكبرى وتابعيها من الدول الإقليمية التي تتصايح وسائل إعلامها بشكل مثير للكراهية على مختلف الأصعدة.

لم يترك النظام الأسدي مناسبة ولا عيدًا إلا حاول استغلاله في تسويق نفسه، فهو يسبغ على نفسه صفة المخلّص الديني عندما يخاطب السنّة عبر وزارة الأوقاف وعبر القبيسيات وشيوخ “الرز بحليب”، ويلبس لباس الكهنة والرهبان عندما يخاطب المسيحيين ويدعو إلى مؤتمرات حماية الأقليات من شر الأكثرية التي يعمل على شيطنة كل من ولد منتميًا إليها. ويحاول تخويف العلويين والدروز والمسيحيين بدعم تصنيع “داعش” التي يتحكم بها عن بُعد، ويستغل استكلابها على القتل العاري.

ليست الأديان والطوائف وسيلة للاستغلال، ولا للابتزاز، بل هي أداة للاعتقاد والإيمان، وليست هي أدوات للحروب، فأوروبا خاضت آخر حروبها الطائفية في حرب الـ30 عامًا (1618-1648) بين الطوائف المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، ولم تجد من وسيلة لوقف الموت باسم الدين إلا بجعل الدين والطائفة شأنًا روحيًا وليستا وسيلتين للسياسة والاستغلال الاقتصادي والعسكري كما تفعل كل الأطراف اليوم في سوريا.

فرغم كل النظريات الفلسفية، وكل القوانين الحديثة في أوروبا من علمانية ومدنية، فإن المؤمنين يحتفلون بعيد الميلاد المجيد، ويزينون بيوتهم لاستقباله، ورغم وجود الطوائف المختلفة إلى حد التناحر بينها عبر القرون الماضية، استطاع الناس التجمع حول ما يوحدهم وحول ما يجعلهم أكثر توافقًا وسلامًا.

يدق ناقوس الميلاد في دمشق وفي كل الأنحاء السورية مناديًا بالسلام وبالمحبة، وهو يذكّر المحتلين والمتصارعين بأن السوريين يحتفلون بالميلاد منذ ألفي سنة، ولم يقتلوا بعضهم بهذا العنف وبهذه الهمجية التي يتشارك بها نظام الأسد مع المحتلين ومع التنظيمات الدينية المتطرفة.

يدق ناقوس الميلاد ورأس السنة الميلادية وسط انعدام الرحمة بالجياع والمشردين والمعتقلين والأيتام والأرامل، ووسط سُبات القيم والمشاعر الإنسانية تجاه عذابات السوريين، وتجاه مأساتهم في ظل نظام الأسد وتداعياته.

عيد ميلاد مجيد لأهلنا المسيحيين بكل طوائفهم، وعيد ميلاد مجيد لسوريا البلد الذي لا يزال يحتفظ ببقايا المحبة والغفران المعتّقة عبر القرون.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي