محمد رشدي شربجي
مع انهيار الامبراطوريات الكبرى في العالم بعد الحرب العالمية الأولى، صعدت الرابطة القومية لتشكل الرابطة المعتمدة لتشكيل الوحدات السياسية الجديدة، وهكذا فقد كان صعود الأفكار القومية العربية (وهي منتج تنظيري سوري بامتياز) والتركية من الأمور الرئيسية التي سهلت من تفكك الامبراطورية العثمانية المريضة.
ومع فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، خاض السوريون معركة الاستقلال تحت راية العروبة أكثر من راية سوريا، وبعد الاستقلال ضحى السوريون بحياة برلمانية تعددية حرة، نسبيًا، في سبيل الوحدة مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر.
تلقى التيار القومي العربي ضربة قاضية مع هزيمة 1967، واستمر بالتراجع حتى تلاشى من أرض الواقع وبقيت شعارات يرددها المستبدون ومن يدور في فلكهم، ومن الملاحظ أن تراجع القومية ترافق مع انتشار المد الإسلامي منذ مطلع السبعينيات إلى اليوم.
أثبت الربيع العربي أن العروبة أقوى مما تبدو عليه، وأنها ما تزال رابطًا وجدانيًا متينًا ما بين المغرب العربي ومشرقه، ولكن انقضاض الثورة المضادة في مصر واليمن، وتعثر المسار الانتقالي في ليبيا، والأهم دخول الثورة السورية في نفق مظلم، انتكس بالفكرة العربية إلى الحضيض، وأصبحت العروبة شماعة يعلق الجميع ذنوبه عليها، وهو ما نراه اليوم مع زيادة الاهتمام العالمي بأزمة اللاجئين.
مع تسهيل ألمانيا لإجراءات استقبال آلاف اللاجئين الواصلين إلى أراضيها عبر البحار وشاحنات اللحم المفرز، سرت في أوساط وسائل التواصل الاجتماعي «صرعة» فيسبوكية تقارن بين ألمانيا والدول العربية، ودائمًا –وليس غالبًا– ما تحمل عبارات عنصرية ضد العرب والمسلمين مثل «العرب جرب»، وغيرها من العبارات التي يحكمها منطق مثلها «جربان» وتافه في آن معًا.
لقد اختصر المجتمع الدولي المعاناة السورية إلى معاناة لاجئين وخطر تنظيم الدولة الإسلامية، ثم اختصر معاناة اللاجئين في محاولة إعادة توطينهم وتوزيعهم دون العمل على عودتهم وحل مشكلتهم، مع تعويم للقضية الأساسية والابتعاد عن الحديث عن مسببها الأساس وهو نظام الأسد.
المناخ السائد اليوم أن الخطأ الذي يرتكب من قبل أي حكومة عربية في أي مكان فإنه يعمم حالًا على كل الشعب العربي (أحيانًا يتم شمل المسلمين كلهم أيضًا) في كل مكان، في حين أن الشيء الإيجابي الذي تفعله حكومة غربية في أي مكان يعمم فورًا على جميع الشعوب العربية في كل مكان.
يصدر قائد الانقلاب في مصر قرارًا بفرض تأشيرة الدخول على السوريين، يصب كثير من السوريين جام غضبهم على مصر والمصريين والعرب والمسلمين، وحين تصدر ألمانيا قرارًا بتسهيل قبول اللاجئين السوريين يعمم الراضون هذا على كل الغرب ومن ثم يشتمون مصر والمصريين والعرب والمسلمين، وهكذا فإن العرب يحملون مع قهر حكامهم المستبدين مسؤولية أفعالهم، ويشتمون أنفسهم على كل حال.
خلفت الثورة السورية أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، وهي أزمة تنوء بحملها دول عظمى، ومن بداهة القول إنه لولا جهود مئات الجمعيات الخيرية الأهلية العربية والإسلامية والسوريين في الاغتراب لكان الحال أسوأ مما عليه الآن بمراحل، ولكن «الصرعات» الحالية لا ترى من كل هذا إلا حملات النشطاء الأوروبيين.
لا شك أن موقف عموم الشعب الألماني من الوافدين الجدد إلى ألمانيا أخلاقي ومشرف إلى أبعد حد، وذلك بغض النظر طبعًا عن حاجة ألمانيا لليد العاملة مع عزوف شعبها عن الإنجاب، وبغض النظر مرة أخرى عن أن سياسة ألمانيا وعموم أوروبا الخارجية بخصوص قضايا المنطقة ليست أخلاقية على الإطلاق كما هي داخله، ولكن بغض النظر عن كل هذا، فليس بالضرورة أن تترافق رؤيتنا لهذا الموقف الأخلاقي مع احتقارنا لأنفسنا في المقابل.
مطلوب منا كسوريين أن نرد الجميل للشعوب الأوروبية التي استقبلتنا وكرمتنا بعد سنوات من القهر والعذاب، وذلك يكون بالعمل وخدمة هذه المجتمعات والحفاظ على الشخصية لخدمة قضايا منطقتنا بالمقابل، أما مسخ الذات واحتقارها كما هو حادث اليوم، فلن يدفع الآخرين إلا لذلك.