الهجرة، هي الكلمة الأكثر تكرارًا على ألسنة السوريين وعلى لسان واقعهم أيضًا، بحثًا عن أمان مفقود، زاوية يحتمون فيها بعيدًا عن مخاوف الحرب وحالة عدم الاستقرار، ومحاولةً لاستئناف حياة توقّفت منذ أعوام؛ تعلّمًا، وعملًا، وزواجًا، ولمة عائلة.
حنين النقري
وأمام تزايد الاضطرار للسفر في بلدٍ أُغلقت معظم حدوده وعُطّلت البواخر المدنية في موانئه، وباتت حركة الطيران الحربي فيه تفوق حركة الطيران المدني، المقتصر على عدد قليل من البلدان أصلًا، لم يبق سوى لبنان مخرجًا قانونيًا لمن يبتعدون عن طرق التهريب، ولأجل هذا كانت القصص والمشاهدات على حدود لبنان، وفي مطاراته وموانئه تلخّص حكايا السوريين، وترسم مشهدًا كاملًا للتغريبة السوريّة.
السيدة أم محمود ثلاثينية من أهالي ريف دمشق، توفّي زوجها أثناء الثورة ليتركها مع يتيمين اثنين، في ظروف تزيد وطأة اليتم، وتخبرنا أنها خرجت من مدينتها منذ ثلاثة أعوام وأقامت في بلدة التل شمال دمشق.
“لكن الأمور باتت تتدهور من سيئ لأسوأ لذا بدأت فكرة السفر تراودني بجدية مع تردي الأوضاع الأمنية في الأشهر الأخيرة، قبل أن أصرف كل ما بحوزتي من نقود تركها لي زوجي”، تقول أم محمود.
استخرجت جوازات سفر لها ولابنيها وبدأت تفكّر في وجهتها، استبعدت لبنان والأردن لغلائهما ومصر لظروف السوريين فيها، إذ تعتقد أن تضييقات تمارسها الحكومة بحقهم، وهكذا لم يبقَ في ميدان أم محمود إلا تركيّا مقصدًا «الشعب التركي لطيف واستقبال السوريين هناك جيّد، عندي أقارب يسكنون في إسكندرون سيخففون عني الشعور بالغربة، بالإضافة إلى أن تركيا بوابة للعبور إلى أوروبا لاحقًا».
هكذا اتفقت أم محمود مع مكتب للحجوزات في دمشق ليسهل عليها السفر ويجعله مضمونًا، فالدخول إلى لبنان لم يعد سهلًا كما السابق ومزاجية أمن الحدود من الجانب اللبناني هي اللاعب الأبرز في مصير السوريين، وتُوضح «أخذ المكتب صور جوازاتنا قبل الرحلة بأسبوع ليتم الموافقة على مرورنا، دفعت 250 دولارًا على الشخص دون تمييز في الأسعار بين كبير وطفل، يشمل الحجز الطريق البري من دمشق إلى بيروت، وحجز طائرة باتجاه واحد من بيروت إلى أضنة، أو السفر البحري عن طريق ميناء طرابلس لمن يريد حمل المزيد من المتاع».
أحلامٌ بـ “حياة أفضل”
بعد انتظار عدّة ساعات على الحدود تحت شمس آب وحرّ الظهيرة دخلت الحافلة المحمّلة بعدد من السوريين والكثير من الأحلام إلى الأراضي اللبنانية، لتتجه بسرعة إلى مطار رفيق الحريري خشية فوات الرحلة عليهم، وتضيف أم محمود «أعطونا بطاقات على الحدود اللبنانية تسمح لحاملها البقاء في لبنان لمدة 24 ساعة ونُسلمها عند دخولنا المطار إلى الموظف المُختص، كان معنا في الرحلة العديد من الشباب، تكلمتُ معهم أثناء انتظارنا: طارق من حمص مسافر لأن تاريخ انتهاء تأجيله للعسكرية اقترب، آخر من ريف دمشق خرج بصحبة والدته إلى منزل أخيه في تركيا، قصص كثيرة متكررة والقاسم بينها جميعًا الرغبة في الاستقرار، بالإضافة إلى تكرار الحديث عن أوروبا والرغبة في اللجوء إلى بلدانها من معظم الشباب”.
زواج لم الشمل لم يغب أيضًا عن ركّاب الرحلة، إذ كان من بينهم فتاة دمشقية بصحبة والدتها، حصلت على منحة للدراسة في ألمانيا وهي الآن متجهة إلى لبنان لعقد قرانها على شاب سوري بغرض لم الشمل لاحقًا، تضيف أم محمود “لم أشعر بوجود الفرحة المعتادة عند العائلة، هذا النوع من الزيجات أصبح مُنتشرًا بكثرة بل إن العديد من الشباب في عائلتي ومحيطي جادون في الرغبة بالزواج ممن تأخذهم إلى أرض الأحلام”.
وحيدةً في المطار
لأول مرة كانت أم محمود في المطار، حيث لم يسبق لها أن سافرت ولا علم لها بإجراءات وزن الحقائب وخلافها، وتقول «ساعدني بعض الشباب معنا في الرحلة، لكن حالنا جميعًا كان سواء، خوف واضطراب وشعور الغربة بدأ، نظرات الموظفين في المطار لم تكن جيّدة، لا أحد منهم يتفّهم أنها رحلتك الأولى».
تعرّضت أم محمود لمواقف مزعجة عند وزن الحقائب، إذ صرختْ الموظفة بوجهها كي تستعجل دون رأفة بحالها أو حال صغارها «الأمتعة ثقيلة وفيها كل ما سيلزمنا، لذا طلبت مني أن أخرج بعض محتوياتها لأعود إلى الوزن المطلوب، ولما سألتها ما الذي أفعله بالثياب التي أخرجتها من الحقيبة قالت لي “مو مشكلتي.. دبري حالك، حمليهن بإيدك ع الطيارة’».
طائرة التغريبة
وهكذا صعدت أم محمود مع طفليها للطيارة في الثامنة مساءً وبيديها بقية ثياب ومتاع، لتجد أن معظم الركّاب كحالها، وتصف ذلك قائلة «كان في الرحلة سيدة ريفية تحمل كيسًا قماشيًا كبيرًا ومنفوخًا، عرفنا من الرائحة التي عبقت في الجو أنه يحتوي ملوخية، أبناؤها كثر، ما شاء الله، يحملون العديد من الأكياس البلاستيكية المليئة بالأطعمة والمؤونة والثياب، الأمر الذي جعل المضيفين ينظرون إلينا باستغراب واستهجان وكأننا من كوكب آخر».
شاركت أم محمود سوريين من مختلف المحافظات والظروف رحلة ذهاب دون إياب، الأمر الذي يفسّر ثقل حقائبهم ومحتوياتها المختلفة عن حقيبة السفر المفترضة، وتعلّق «المسافر العادي يحمل ثيابًا وهدايا، لكننا نحمل معنا كل شيء، مناشف وشراشف وثياب ومؤونة وأغطية تقينا البرد، ملابس صيفية وشتوية بل والبعض حمل معه طراريح للنوم، باختصار: نحن نحمل حياة كاملة، بل وطنًا كاملًا في حقيبة، لذا سيكون من الظلم أن تقارن متاع ووضع المسافر العادي بمتاع وحالة المهاجر».
في المقعد المقابل لأم محمود تجلس شابة وحيدة من حمص «كانت خائفة من ركوب الطائرة مثلنا، لكنها خائفة أكثر مما سيليه، أخبرتني أثناء انتظارنا أن خطيبها ينتظرها ليذهبا معًا إلى إزمير، حيث ستركب البحر معه بمحاولة الذهاب إلى أوروبا، على عكسنا كانت تحمل القليل جدًا من المتاع، لا أنسى نظرة الخوف في عينيها عندما نظرت إلى البحر».
الصخب وصيحات الدهشة ومحاولات الركاب لمعرفة مقاعدهم أمر مميز وواضح، لكن بمجرد أن التزموا بمقاعدهم وثبتوا أحزمة الأمان بدأت الرهبة تسكتهم جميعًا، تصف أم محمود «أمسكتُ أيدي أبنائي عند بدء التحليق، كان شعورًا غريبًا جدًا وكأن جسدي يصعد مع الطائرة بينما قلبي لا زال على الأرض، علت في الطائرة صيحات الأطفال وصراخهم، في الخلف صوت صغير يبكي وآخر يريد الذهاب إلى الحمام، كانت رحلة غريبة وشعرتُ أن الزمن توقّف بنا”.
أرض جديدة
بعد ساعة وثلث حطّت الطائرة في مطار أضنة، وتقول أم محمود «نزلنا من الطائرة إلى أرض جديدة، الموظفون يتكلمون لغة غريبة عنا ولا نفهم حرفًا مما يقولون لكنهم مبتسمون ويحاولون تسهيل المُهمات علينا، على خلاف الموظفين في المطار اللبناني الذين لم تُقرّبهم لغتهم المشتركة منا».
بعد استلام الأمتعة خرج المسافرون من المطار، ليجدوا سيارات الأجرة الصفراء وسائقيها ينادون باللغة العربية بعد أن بات السوريون الأكثر توافدًا من الأجانب على المطار، وتختم أم محمود “كانت الساعة العاشرة ليلًا على رصيف أضنة وقفنا جميعًا، كُلٌّ يفكر ببلدٍ مجهول المصير خلفه، كُلٌّ يتّجه نحو أحلامه ومخططاته، وجهًا إلى وجه مع مستقبل مجهول في بلد مجهول».
الهجرة ليست مجرد لفظة فقط.. هي اضطرار وخيار، أمام من لفظته بلاده.