على رصيف الطريق الغربي لفرن مدينة حلفايا المركزي، جلس ليرتاح بعد عناء انتظار طابور طويل للحصول على الخبز المقطوع عن المدينة منذ أربعة أيام.
كان محمد العبدو يبلغ من العمر حينها 12 عامًا، وكان قد أنهى مهمته في شراء الخبز وسط إلحاح من صديقه ليعطيه قطعة من رغيف ساخن، قبل أن تطل طائرة حربية في السماء، وكان ذلك آخر ما رآه في حياته.
بعد حوالي 20 يومًا، في أحد مستشفيات تركيا، بدأ محمد بالإحساس بمن حوله وسمع صوت أبيه، “الحمد لله أنك لا تزال على قيد الحياة”، لكنه فقد بصره بعد خضوعه لخمس عمليات جراحية في الرأس وثلاث في العينين، حسب حديثه لعنب بلدي.
كان محمد أحد ضحايا مجزرة فرن مدينة حلفايا، في 23 من كانون الأول 2012، وهو واحد من 36 فرنًا استهدفهم النظام، وقُتل في تلك الاستهدافات أكثر من 310 مدنيين، بينهم 60 طفلًا وأربع نساء، وأُصيب ما لا يقل عن 1257 آخرين، حسب بيانات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“، التي اعتبرت أن مجازر الأفران “متعمدة”.
الأرض مغطاة بالقتلى والجرحى
مدير المستشفى الميداني في مدينة حلفايا شمال غربي حماة، آنذاك، الطبيب عماد الدين أبو زيد، كان شاهدًا على المجزرة، وروى لعنب بلدي مشاهداته في ذلك اليوم.
لا ينسى الطبيب طفلة في الـ12 من عمرها، بُترت ساقها في القصف وأُصيبت في وجهها، وكانت الدماء تسيل على ثيابها حين وصولها إلى المستشفى، “وضعتها على سرير الإسعاف، وخلعت سترتها التي ترتديها، وفوجئت بالخبز الذي كانت وضعته داخل سترتها قبل الإصابة وقد مزج بدمها”.
وتابع الطبيب، “بعد وقت قصير لم نعد نشاهد أرضية المستشفى، التي كانت عبارة عن قبو أسفل المدرسة، بسبب عدد القتلى والجرحى الكبير من المدنيين”.
الناشط الإعلامي غياث الرجب، وهو من أهالي مدينة حلفايا وشاهد على المجزرة، قال لعنب بلدي، “منذ ثماني سنوات وحتى الآن ورغم ما تعرضت له من مآسٍ ونزوح، لم أنسَ رائحة الدماء والأشلاء والبارود الممزوجة برائحة الخبز”.
ماذا حدث حينها
كانت فصائل “الجيش الحر” سيطرت على مدينة حلفايا بشكل كامل، في 15 من كانون الأول 2012، وبدأت بعض الخدمات تعود تدريجيًا إلى المدينة بإدارة الفصائل العسكرية، ومنها الفرن المركزي حسب الناشط غياث الرجب.
وتعرضت المدينة لقصف يومي من قبل قوات النظام بعد سيطرة الفصائل، إلا أن القصف توقف بشكل تام في 23 من كانون الأول 2012، وهو ما وجد فيه الأهالي فرصة نتيجة نقص الخدمات في المدينة، التي لم يدخلها أي نوع من أنواع الغذاء كالخبز والطحين منذ أربعة أيام، فقررت الفصائل العسكرية تفعيل أحد الأفران، حسب الطبيب عماد الدين.
وبدأ الفرن في العمل الساعة الثالثة عصرًا، ليتجمع الأهالي لشراء الخبز، وحوالي الساعة الرابعة نفذ الطيران الحربي لقوات النظام دورانًا في سماء المدينة، ما شكل حالة رعب بين الأهالي الموجودين أمام الفرن، وابتعدوا عنه، وبعد غياب الطيران الحربي عن الأجواء عادوا إلى الفرن، حسب الناشط غياث.
وتجمع الأهالي من جديد، ثم استهدفهم الطيران بثمانية صواريخ عنقودية، سقط أحدها على بعد متر واحد من شباك الفرن، حسب غياث.
لم يستوعب المستشفى الميداني المؤلف من طبيب وعدد من الممرضين العدد الكبير من القتلى والجرحى، ونُقل عدد من الجرحى إلى المستشفيات القريبة في مدن اللطامنة وكفرزيتا شمالي حماة، ثم حُولوا إلى المستشفيات الحدودية لينقلوا إلى تركيا.
“مشاهد مرعبة”
وقال الطبيب عماد الدين أبو زيد، إنه بعد قصف الفرن بخمس دقائق “بدأت سيارات الإسعاف والسيارات الخاصة تتوافد إلينا، كان المشهد مرعبًا، نظرًا إلى الأعداد الكبيرة للقتلى والإصابات الخطيرة، وخصوصًا حالات البتر والحرق الكامل الذي أدى للتفحم، حاولنا إسعاف من بقي على قيد الحياة ومن نستطيع تقديم أي شيء له”.
أحصي قرابة 200 ممن وصلوا إلى المستشفى، بينهم 93 قتيلًا و30 بترت أطرافهم، ووصل عدد من أجريت لهم عمليات فتح البطن والإصابات العصبية إلى نحو 70 أغلبهم من النساء والأطفال، واستنفرت جميع الكوادر الطبية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، حسب الطبيب.
وبعد ساعتين من المجزرة، جُمعت جثث وأشلاء المدنيين في أحد طوابق المدرسة ليتم التعرف إليها، ثم أُخذت جثث القتلى إلى المقبرة بغية الدفن، لتستهدف قوات النظام المدنيين خلال الدفن.
وعثر بعد عدة أيام على عدد من القتلى المفقودين والأشلاء على أسطح المنازل المجاورة للفرن، أما المصابون فلم يعد الكادر الطبي يعرف كيف أصبحت أحوالهم بسبب نزوح الأهالي، حسب الطبيب عماد الدين.
–