رسوم تعرقل البناء في الرقة.. تجار يحتكرون السوق
عنب بلدي – حسن القصاب
“كل شيء بات غاليًا، الأسمنت والحديد، سأبقى أنا وعائلتي في مدينة حماة هذا الشتاء، فلم أعد قادرًا على تحمّل تكاليف البناء”، يقول أحد النازحين من أهالي مدينة الرقة إلى مدينة حماة لعنب بلدي، متحفظًا على نشر اسمه الكامل لاعتبارات أمنية.
وكان قد غادر مدينته حماة منذ أربع سنوات، وبعد خروج تنظيم “الدولة الإسلامية” منها، استدان بعض المال للبدء بترميم منزله في الرقة، لكنه غير قادر اليوم إكمال ما بدأه بسبب ارتفاع أسعار البناء في الوقت الحالي.
بعد سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على مدينة الرقة في تشرين الأول من عام 2017، شهدت المدينة حركة عمرانية واسعة تجسدت أبرز صورها في ترميم بعض الأهالي منازلهم بغية العودة إليها، واستئناف العديد من المنظمات الدولية والمحلية أنشطتها، فضلًا عن العديد من المشاريع الاستثمارية ذات الريع الشخصي، ما أسهم بدفع عجلة الحياة نحو الأمام.
وخلال الأشهر الثلاثة الماضية شهدت أسعار البناء في مناطق شمال شرقي سوريا ارتفاعًا ملحوظًا، الأمر الذي انعكس سلبًا على حركة الإعمار في الرقة، ودفع بالعديد من سكانها إلى تأجيل أعمال الترميم الخاصة بهم على أمل هبوط الأسعار مستقبلًا.
وللوقوف على واقع الحال في الرقة تواصلت عنب بلدي مع العديد من المصادر وقدم لنا الإحاطة التالية:
الرسوم والضرائب
وفقًا لأحد المهندسين العاملين في “نقابة مهندسي الرقة”، يتوجب على مالك العقار قبل المباشرة بأعمال الترميم أن يحصل على رخصة من قبل “بلدية الشعب” وذلك من خلال دفع مبلغ 25 ألف ليرة سورية ثمن رسوم الكروكي والمخطط المساحي وإعادة الترخيص، ثمّ التوجه لنقابة المهندسين للحصول على تقرير السلامة الإنشائية الذي تتراوح قيمته حسب مساحة البناء (مئة ليرة سورية لكل متر مربع على ألا تقل قيمة التقرير عن 50 ألف ليرة سورية) يُضاف إليها 20 ألف ليرة سورية ثمن اختبار مطرقة بيتونية.
أما بالنسبة لتشييد بناء جديد (لا يملك مخططات هندسية سابقة) فتفرض “بلدية الشعب” رسم تخطيط عمراني يُقدر بـ 250 ليرة سورية لكل متر مربع إذا كان العقار سكنيًا، و375 ليرة سورية لكل متر مربع إذا كان العقار للتجارة والسكن.
أما نقابة المهندسين فتفرض مبلغًا يتراوح بين 500 و700 ليرة سورية لكل متر مربع وذلك لقاء الحصول على مخطط هندسي.
ويجرى أيضًا اختبار ميكانيك تربة تتراوح قيمته بين 100 و125 ألف ليرة سورية.
وهذه الرسوم ليست واحدة في جميع مناطق “الإدارة الذاتية”، إذ تختلف من منطقة لأخرى ومن مجلس لآخر.
بعد إتمام كل ما سبق يحصل مالك العقار على الرخصة التي توضح الكميات المطلوبة من مواد البناء التي يحتاجها بناؤه، كما أن هذه الرخصة تمكّنه من القيام بأعمال الترميم دون أن يعرّض نفسه للمساءلة القانونية.
آليات الإدخال والتوزيع
يجري إدخال الحديد والأسمنت لمناطق شمال شرقي سوريا عن طريق المعابر الحدودية مع العراق “سيمالكا” و”الوليد”، بالإضافة لمعبر “عون الدادات” في منبج، والذي يربط مناطق سيطرة المعارضة السورية بمناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.
ويجري ذلك من خلال شخصيات مدنيّة ذات صلة بـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) يحق لها دون غيرها استيراد هذه المواد، وبعد استيرادها توزع على شركات خاصة تتبع بشكل مباشر للمالية العامة الخاصة بـ “الاتحاد الديمقراطي”، وفق ما أفاد أحد موظفي المالية، والذي أكد أن الوارد المالي لهذه المواد لا يُقَيّد في سجلات “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا على الإطلاق، ويعتبر مصدرًا ماليًا مستقلًا للحزب.
في الرقة ينحصر توزيع الأسمنت والحديد بـ“شركة الشمال للإنشاءات والتعمير“، وهي شركة مقاولات تتبع للمالية العامة لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” مقرها الأساسي في مدينة الطبقة، ولها فرع في مدينة الرقة (مبنى الإنشاءات العسكرية سابقًا)، يرأسها في الخفاء أحد رجالات الحزب يدعى “ولات” وهو كردي من أصول تركية، وفقًا لأحد العاملين في الشركة.
تقوم فروع هذه الشركة، وبحسب مناطقها، بمنح رخص استجرار الأسمنت لعدد محدد من التجار، فعلى سبيل المثال يوجد في مدينة الرقة 31 تاجر أسمنت فقط ممن يملكون هذه الرخص، ويقوم فرع الشركة في الرقة ببيع الأسمنت لهم وفق نظام تسلسل زمني يُتيح للجميع الحصول على الأسمنت، ثم يجري بيعه من قبل التجار للمواطنين والمقاولين وأصحاب الحرف (مكابس بلوك، منشآت صناعية).
وأوقف بيع الأسمنت للمواطنين من الشركة مباشرةً منذ عام تقريبًا، قبل أن يُستأنف مجددًا منذ حوالي الشهر، تزامنًا مع توقّف الشركة عن منح رخص استجرار أسمنت لتجارٍ جدد مما أسهم في حصر تواجد هذه المادة عند فئة محددة من التجار واحتكار هذه الفئة لها والتحكُم بأسعارها، وفقًا لتوجيهات الحزب.
الأسعار ومقارنتها
بحسب أحد المقاولين، فإن سوق البناء في الرقة يحتوي على عدّة أنواع من الأسمنت (سوري، تركي، عراقي، إيراني)، وهي متقاربة إلى حد كبير في سعر الشراء، كما يوجد نوعان من الحديد في السوق (محلي، مستورد) وهنا يقصد بالمحلي أنه إنتاج معامل في مناطق الشمال السوري الواقعة تحت سيطرة “قسد”.
في شهر آب الماضي كان سعر طن الأسمنت يتراوح بين 84 و88 دولار أمريكي، وطن الحديد المستورد بين 615 و630 دولار أمريكي، أما الحديد المحلي فيتراوح سعر الطن منه ما بين 590 و610 دولار أمريكي.
ومع بداية شهر أيلول الماضي بدأت أسعار هذه المواد ترتفع تدريجيًا حتى وصل سعر طن الأسمنت إلى 325 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 130 دولارًا أمريكيًا (بحسب سعر الصرف في شهر أيلول).
ورغم كل الإجراءات التي اتُخذت من قبل “دائرة حماية المستهلك” في الرقة لتحديد سعر مبيعه بـ 90 دولارًا، لم يتبدل الحال لم يتبدل.
كما وصل سعر طن الحديد المستورد لـ 780 دولارًا، والحديد المحلي لـ 750 دولارًا، ما تسبب بارتفاع كلف بناء المتر المربع الواحد من 37 إلى 55 دولارًا، وبالتالي زيادة في أسعار العقارات وصلت حتى 25%، وفق تقديرات العديد من المهندسين ومقاولي البناء.
وفي مناطق سيطرة النظام السوري بلغ سعر طن الأسمنت وقتذاك 70 ألف ليرة سورية (ما يقارب 28 دولارًا) عن طريق مؤسسة “العمران” (المؤسسة العامة للتجارة الداخلية للمعادن ومواد البناء)، وفي السوق السوداء 165 ألف ليرة سورية (ما يقارب 66 دولارًا)، وسجل الحديد مليون ونصف ليرة سورية بسعر الطن (ما يقارب 600 دولار)، أما في مدينة تل أبيض (شمالي الرقة) الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، فارتفع سعر طن الأسمنت إلى 58 دولارًا في شهر تشرين الأول الماضي بينما كان سابقًا 44 دولارًا، وبلغ سعر طن الحديد 510 دولارات.
ومع بداية شهر كانون الأول الحالي، بدأت أسعار مواد البناء ضمن مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” بالهبوط ليستقر سعر طن الأسمنت عند عتبة الـ 90 دولارًا، ترافق ذلك مع هبوط سعر طن الحديد المستورد لـ 670 دولارًا، والحديد المحلي لـ625 دولارًا.
وفي مناطق سيطرة النظام السوري أصدرت وزارة الداخلية السورية في 16 من كانون الأول الحالي القرار رقم /2603/ والقاضي برفع سعر الأسمنت حتى 125 ألف ليرة سورية ما يقابل 45 دولارًا، بحسب سعر الصرف الحالي مع بقاء سعر الحديد ثابتًا عند حاجز المليون ونصف المليون ليرة.
أسعار مواد البناء في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” هي الأعلى قياسًا بنظيراتها في بقية مناطق السيطرة السورية، وحدثت الزيادة في أسعار هذه المواد خلال الفترة الزمنية المُمتدة من شهر آب حتى شهر تشرين الثاني، والتي تعد فترة الذروة بالنسبة لأعمال البناء بحكم أن الظروف الجوية في فصل الشتاء غير مناسبة للقيام بأعمال البناء والإعمار.
ووفقًا للعديد من مقاولي البناء وموظفي “الإدارة الذاتية” فإن ارتفاع أسعار مواد البناء يعود إلى السياسة المالية المُتّبعة من قبل “حزب الاتحاد الديمقراطي”، والقائمة على حصر عمليات إدخال واستيراد الحديد والأسمنت من خلاله، وحصر البيع عبر شركاته، بما يضمن للحزب الزيادة في الأرباح في حال حصول أي ارتفاع على أسعار هذه المواد ضمن مناطق سيطرته، وهذا ما يفسره منع المقاولين والعديد من التجار من شراء هذه المواد بشكل مباشر من العراق أو تركيا على الرغم من انخفاض أسعارها في المناطق المجاورة، فعلى سبيل المثال يتراوح السعر الحالي لبيع طن الأسمنت للمستهلك في مدينة تل أبيض السورية بين 54 و58 دولارًا، أي ما يقابل نصف سعره في مناطق “الإدارة الذاتية”.
وقد أرجع العديد من مسؤولي “الإدارة الذاتية” السبب لقلة كميات الأسمنت المستورد من قبل العراق، وتوقف إدخاله من معبر “عون الدادات” في ذلك الوقت، ولكن إذا كانت “الإدارة الذاتية” غير قادرة على تأمين كميات كافية من هذه المواد، لمَ تمنع استيرادها عبر مصادر مستقلة عنها؟ ولماذا تفرض الغرامات المالية في حال ضبطت كميات مُهربة من هذه المواد، والتي تُقدّر بثلاث أضعاف ثمنها فضلًا عن مصادرتها؟ ما الغرض من هذه الغرامات غير عرقلة حصول المواطن على هذه المواد؟ وعدميّة الحلول البديلة من قبل الأهالي وتُجار البناء للتغلُب على هذه الظاهرة؟ وعدم رغبة سلطة الأمر الواقع بإيجاد حل جذري لهذه المشكلة؟
يتوجب على “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا وضع محددات منطقية وواقعية للاقتصاد في مناطق سيطرتها، والعمل بشكل جدي على إنهاء مظاهر التسلط الاقتصادي والعبث بمصالح المدنيين في هذه المناطق التي تعد حركة البناء بها من أبرز مقومات الاستقرار، كما أن هذه السياسات الاحتكارية تؤثر بشكل مباشر على نشاط رؤوس الأموال في المنطقة بما يتسبب بركودها وبالتالي إفساح المجال أمامها لمغادرة البلاد، ما يعني الدخول بدوامة جديدة من الحروب والصراعات الداخلية التي لا تحمد عواقبها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :