تعد مسألة تحديد دستور لسوريا من أبرز محاور عملية التفاوض، وإحدى القضايا الأكثر إشكالية بين الأطراف المتنازعة، نظرًا إلى تداعيات القضايا الدستورية على حاضر النزاع ومستقبل عملية الانتقال السياسي.
وأُشير إلى مسألة تحديد دستور جديد لسوريا بموجب البيان الختامي الصادر عن اجتماع “مجموعة العمل من أجل سوريا” الذي عُقد في جنيف عام 2012، وهو ما صار يُعرف لاحقًا بـ“وثيقة جنيف“، إذ نص منطوق الوثيقة على أنه “يُمكن أن يُعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام”.
ورُسخت فكرة إعداد دستور جديد لسوريا في قرار مجلس الأمن الدولي رقم “2254” الصادر عام 2015، الذي يُشكل في الظروف السياسية الحالية لسوريا المرجعية المُتفق عليها وإطار العمل الناظم لعملية التفاوض القائمة، إذ نص القرار بشأن الدستور أن مجلس الأمن الدولي “يُعرب عن دعمه، في هذا الصدد، لعملية سياسية بقيادة سورية تُيسرها الأمم المتحدة (…) وتُحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد”.
تبنت عدة بلدان خيار تحديد دستور جديد لها وإقراره ودخوله حيز التنفيذ، بعد أن عانت من مشاكل ونزاعات داخلية، ما يجعل تجربتها تقترب من الواقع السوري، ويساعد على استخلاص الدروس والتجارب في تسهيل عملية صياغة دستور جديد لسوريا.
وشهدت بعض تلك البلدان العملية الدستورية الجديدة في سياق انتقال سياسي للبلاد، وبعضها الآخر عاشت تلك التجربة بسبب نزاعات مسلحة داخلية، وكان يؤمل أن يكون الدستور هو الملجأ للخروج من مرحلة ما بعد النزاع الذي عاشته تلك البلدان.
الدساتير التي نتجت عن عملية انتقال سياسي
1- دستور البرتغال عام 1976
حكم البرتغال نظام عسكري لفترة امتدت بين عامي 1926 و1974، وفي نيسان من العام 1974، سيطرت المؤسسة العسكرية على السلطة في البلاد، وذلك بعد أن تعبت من الحروب الاستعمارية في إفريقيا، ووعدت السلطات بإجراء انتخابات، وإعادة السلطة إلى حكومة مدنية ديمقراطية خلال عام واحد.
وأُقيمت انتخابات الجمعية الدستورية في العام 1975، في ظل عدم استقرار سياسي انطوى على نزاع بين تيار مناصر لأوروبا وتيارات يسارية دافعت عن الشرعية الثورية، وشارك فيها أكثر من 90% ممن يحق لهم التصويت.
واستطاعت الجمعية الدستورية، حينها، أن تضم أغلبية من أعضاء يدعمون ديمقراطية تمثيلية (نيابية)، واستمرت عملية وضع مسودة للدستور من حزيران 1975 حتى نيسان 1976.
2- دستور إسبانيا عام 1978
بدأت الإصلاحات الديمقراطية في إسبانيا بعد أشهر من وفاة الجنرال فرانكو في 1975، وذلك عندما قام الملك خوان كارلوس الأول بتعيين أدولفو سواريز رئيسًا للحكومة والذي اقترح إصلاحًا سياسيًا بشكل ديمقراطي، وتمت الموافقة عليه بأغلبية الإسبانيين في استفتاء عام أُقيم في أواخر عام 1976.
وتضمنت خطة الإصلاح إجراء انتخابات عامة حرة لاختيار برلمان من مجلسين كُلف بمهمة الجمعية التأسيسية وهو ما تم عام 1977، ودستور جديد تمت الموافقة عليه في كانون الأول عام 1978.
ولصياغة الدستور الجديد، اختارت الجمعية التأسيسية لجنة من سبعة من أعضائها مثلوا كل الجهات السياسية في البلاد، وذلك لتبيان مدى تنوع هذه اللجنة، وكان اثنان من أعضائها وزيرين في عهد الديكتاتور فرانكو، والثالث عضوًا في الحزب “القومي الكتالوني”، والرابع عضوًا في الحزب “الاشتراكي”، والثلاثة الباقون كانوا من أعضاء حزب “الوسط”.
وكان مسار صياغة الدستور سريعًا نسبيًا، وبعد خمسة أشهر من العمل، أنهت اللجنة صياغة المسودة الأولى للدستور، التي نشرت في كانون الثاني عام 1978، تلتها فترة خُصصت من أجل التعديلات، وانتهت اللجنة من إجراء التعديلات المناسبة في نيسان من العام نفسه، وفتحت المجال أمام نقاش المسودة في الجمعية التأسيسية.
الدساتير التي نتجت عن عملية نزاع مسلح
1- دستور تيمور الشرقية عام 2002
أُقيمت انتخابات في تيمور الشرقية جنوب شرقي آسيا لاختيار أعضاء الهيئة التأسيسية في عام 2001، وتألفت هذه الهيئة من 88 عضوًا تم انتخابهم عن طريق نظام انتخابي مختلط (نظام الفائز الأول ونظام التمثيل النسبي)، وقد سمح بانتخاب ممثل واحد عن كل مقاطعة من المقاطعات الـ13 للبلاد، و75 عضوًا تم انتخابهم على المستوى الوطني.
كما سُمح لكل شخص يفوق سنه الـ17 عامًا بالتصويت في الانتخابات، بشرط أن يكون قد وُلد في تيمور الشرقية، أو خارجها ولكن كان أحد الوالدين على الأقل وُلد في تيمور الشرقية أو كان زوج أو زوجة تستجيب للشرطين المذكورين.
سُمح لكل شخص تتوفر فيه صفة الناخب أن يترشح لانتخابات الهيئة التأسيسية بشرط التنافس في مقاطعة واحدة، بينما لم يكن هناك أي تمثيل للمواطنين غير المقيمين.
وضمت الجمعية التأسيسية 66 رجلًا و22 امرأة، ونجحت الهيئة التأسيسية في تيمور الشرقية في صياغة الدستور الجديد، ودخل حيز التنفيذ في عام 2002، بعد أن صوّت 72 عضوًا من أعضاء الهيئة التأسيسية لمصلحة مسودة مشروع الدستور، بينما عارضه 14 عضوًا، ونتيجة لذلك، حوّلت الهيئة التأسيسية نفسها إلى برلمان للبلاد في أيار عام 2002.
2- دستور أفغانستان عام 2004
نصت اتفاقية “بون“، في 5 من كانون الأول 2001، على أنه يقع على عاتق الإدارة الانتقالية الأفغانية تأسيس مفوضية دستورية، لإعداد مشروع دستور لمناقشته واعتماده من قبل مجلس “لويا جيرغا” الدستوري، وكان على هذا المجلس أن ينعقد في غضون 18 شهرًا من تاريخ الإدارة الانتقالية.
وصدر مرسوم تشكيل الهيئة التأسيسية الأفغانية المسماة “اللويا جيرغا” في 2003، وبموجب المادة الثانية من هذا المرسوم، فإن تلك الهيئة تضم 500 عضو منهم 450 منتخبون، بينما عُيّن 50 عضوًا آخرين.
ونص المرسوم على آلية الانتخاب وضمان تمثيل النساء والأقليات، وخصص عددًا من المقاعد لمصلحة اللاجئين (نظام الكوتا).
ما يُستفاد منه في الحالة السورية
لا توجد رؤية مشتركة واضحة حتى الآن بشأن مسار الوثيقة الدستورية التي من المفترض أن تلبي مرحلة توقف النزاع، خصوصًا أن المسار الدستوري، إجرائيًا وموضوعيًا، أصبح مادة للتجاذب والتفاوض السياسي، ما يعوق عملية التوافق اللازمة بشأنه، بحسب دراسة أعدتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) تحت عنوان “سوريا.. بدائل دستورية“.
ومرحلة إعداد دستور جديد لسوريا هي مرحلة لاحقة لإنهاء النزاع، وفق التجارب السابقة، يتم خلالها تبني خيار الوثيقة الدستورية المؤقتة التي تنظم شؤون البلاد خلال مرحلة التعافي من النزاع.
كما يجب العمل على صياغة الدستور الجديد النهائي لسوريا، ويستغرق ذلك وفق التجارب أعلاه من سنتين إلى ثلاث سنوات.
ويجب أن تُستغل مرحلة صياغة الدستور للقيام بمتطلبات أعمال التوعية المدنية والمشاركة المجتمعية بما يكفل ويعزز من شرعية وميثاقية الدستور النهائي لسوريا، وفق الدراسة.
وصياغة دستور نهائي تتطلب وجود هيئة تأسيسية برلمانية منتخبة، والانتخاب هو الطريقة الديمقراطية للتعبير عن إرادة الشعب، ولكن بشرط أن تتوفر له مقوماته الأساسية السياسية، والقانونية، والأمنية، إذ تتطلب الانتخابات أجواء من الهدوء والحرية والأمن والاستقرار، بما في ذلك قوانين انتخاب عادلة ومنصفة للجميع، وبيئة تسمح بنشر الوعي الحقيقي ومعالجة التداعيات السلبية والإقصاء والتخويف.
ومن الممارسات الدولية التي يمكن الاستفادة منها في سوريا، تخصيص وزير مختص بالشؤون الدستورية في أول حكومة بعد إنهاء النزاع، وفق ما أوصت به الدراسة.
ويجب أن يتم التقليل من الإسراع بمسار الدستور النهائي، إذ لا يتم انتخاب البرلمان إلا بعد مضي عامين على الأقل من بدء مرحلة ما بعد النزاع، بحيث تبدأ عملية صياغة الدستور في السنة الثالثة بعد أن تكون مقوماتها قد تحققت جزئيًا من خلال عودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم الأصلية، وفق توصيات الدراسة.
كما يجب أن تصدر خلال فترة صياغة الدستور النهائي قوانين جديدة للانتخابات والإعلام والمجتمع المدني، وإعادة تنظيم السلطة القضائية وتكوين المؤسسات الجديدة التي نص الدستور المؤقت على إنشائها، ما يسمح بخلق بيئة ملائمة نسبيًا لإجراء عملية انتخابية جدية ينتج عنها هيئات أو سلطات معبرة فعليًا عن إرادة وتوجه الناخب السوري.
ولن يكون هذا متاحًا بصورة مباشرة بعد توقف النزاع، علمًا أن الفقه الدستوري يتطلب توفر شروط معينة كي يكون الدستور التي تضعه الهيئة التأسيسية ديمقراطيًا، منها أن يكون البرلمان منتخبًا بواسطة الشعب، لا أن يُعيّن أعضاؤه، وفق دراسة بعنوان “خطة التحول الديمقراطي في سوريا” أعدها “بيت الخبرة السوري” و”المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
ويكون الانتخاب ديمقراطيًا وفقًا لمبادئ الاقتراع العام الحر، المتساوي، السري، المباشر، وتحت إشراف ورقابة القضاء ضمن خيارات متعددة أمام الناخبين، وهذه الشروط لا يمكن توفرها إلا في حال الإعداد لمرحلة سياسية انتقالية تُوفر الأحزاب السياسية، وتتيح الفرصة أمام جميع هذه الأحزاب دون استثناء للمشاركة في عملية انتخاب البرلمان.
–